الإنسان الطيب مغامرة مسرحية لقراءة الواقع المتهالك

الإنسان الطيب مغامرة مسرحية لقراءة الواقع المتهالك

العدد 612 صدر بتاريخ 20مايو2019

إن التعرض لأحد نصوص الكاتب الألماني العالمي برتولد بريخت (1898 - 1956) تعد مغامرة محفوفة بالمخاطر، كون بريخت هو واضع نظرية المسرح الملحمي بما لها من تأثير كبير على الدراما المسرحية العالمية في العصر الحديث، فهو من أهم كتاب القرن العشرين الذي أعلى من قيمة المشاهد وحاول تحويله من متلقٍ سلبي إلى مشارك إيجابي، مخاطبا العقل لا الوجدان، ومؤججا التفكير والتدبير لا التعاطف وإثارة عاطفتي الخوف والشفقة للوصول إلى التطهير، محاربا بذلك الإيهام، وكاسرا الحائط الرابع، ومحققا التغريب، وهي تلك المقولات التي نكررها ونرددها عن بريخت كاتبا، ونطبقها عن بريخت مخرجا، ونرانا نلح دائما في ذكرها، فهي المدخل لصناعة العروض الملحمية/ البريختية، وهي المدخل للقراءة النقدية للعروض البريختية/ الملحمية، وهي الكفيلة بفك شفرة العرض وتكوين دلالتها ومن ثم قراءتها.
وكون المغامرة محفوفة بالمخاطر، فلأن النظرية البريختية أصابها من التأويلات الكثير والكثير، ولأن التعرض لأحد نصوص بريخت يضع المخرج في مأزق حقيقي مفاده التساؤل الأصعب: هل يلتزم بالمنهج الملحمي كما سطره برتولد بريخت في كتابيه الأشهرين “الأرجانون الصغير” و”الأرجانون الكبير”؟ أم أن بريخت ومنهجه يعد منهجا للإخراج، وقد يستعين المخرج بمنهج آخر يكون عونا أكثر في إيضاح الرؤية الفنية والرسالة المرجوة من المسرحية؟
من هذه الإشكالية نرى أن المخرج السعيد منسي جنح إلى محاولة الوصول إلى تكاملية المناهج والمدارس الإخراجية للوصول إلى الجمهور، محاولا مخاطبة العقل والوجدان معا، مستعينا بخبرة اتضحت من التعامل مع مفردات العرض المسرحي، ومتكئا على أدوات مميزة - (موسيقى وممثلين وملابس وديكور واستعراضات) - كانت خير عون في تنفيذ رؤيته والوصول لهدفه واضحا دون تشويش.
“الإنسان الطيب” من سيتشوان كتبها بريخت بين العامين 1938 و1940 أي في فترة الحرب العالمية الثانية بما فيها من ارتباك في القيم والأخلاقيات ووضع الإنسان في المجتمع وموقعه في الحياة بشكل عام، وأخرجها السعيد منسي لفرقة كفر الشيخ القومية في 2019 في ظل ارتباك قيمي وأخلاقي لا يقل خطورة عن الحروب وويلاتها بعد الانفلات الأخلاقي البادي في تعاملات الإنسان مع الإنسان في هذا الزمان، وتناول المخرج النص بما يقربه من المتلقي المصري الشغوف بالفن، فاهتم بجماليات الصورة تشكيليا عن طريق الديكور والملابس، وسمعيا عن طريق الموسيقى والألحان، وحركيا بالاستعراضات المبهجة، فدنا الإيقاع العام للعرض منه واقترب من الجمهور وذائقته.
على مسرح المركز الثقافي بطنطا وفي المهرجان الختامي لفرق الأقاليم الـ44، قدمت فرقة كفر الشيخ عرضها المسرحي “الإنسان الطيب” من سيتشوان الذي يحكي قصة فتاة بسيطة من الصين توافق على استضافة ثلاثة غرباء وإكرامهم، فقرروا إكرامها ببعض الأموال التي جعلتها تترك عملها المهين وتفتح مشروعا خاصا بها، ولما كانت تلك الفتاة طيبة ولا تغضب أحدا فقد وجدها المحيطون لقمة سائغة للابتزاز، ولما أيقنت هذا تنكرت في قناع ابن عمها القاسي القلب، فجاء لها حقها وحققت مكاسب كثيرة معنويا ونفسيا وماديا، إلا أنها رأت أنها خسرت ذاتها كإنسان طيب، فهل من حق الإنسان الطيب أن يطالب بحقه دون أن يرتدي قناع الشر والقسوة؟ وهل الإنسان الطيب لا يصبح طيبا إلا بالتكاسل والتواكل والتخاذل؟ في مجتمع تداخلت إيديولوجياته وبات القناع هو السبيل الوحيد للتواصل والتعايش، وتساوت فرص الربح والخسارة فعد الخاسر رابحا والرابح خاسرا في تحليل الأماني المستباحة والآمال المنتهكة التي ما انتهكها ولا استباحها إلا المتخلي عن كينونته.
كان العرض على ذلك دعوة صريحة للعمل والاجتهاد والبعد عن ارتداء أقنعة تخفي الحقيقة الطيبة، فالأصل في الإنسان أنه إنسان، وللخروج من الحالة الخطابية جنح المخرج إلى تشكيل فراغ خشبة المسرح بألوان زاهية وشاسيهات عالية ضخمة نقلتنا إلى الصين مسرحا للأحداث، مع الاهتمام بالألوان الساخنة التي أججت المسرح وأضافت عليه قدرا من البهجة، ولكسر الاستاتيكة تم تغيير المنظر المسرحي بطي الشاسيهات المتحركة وفردها فاختلف الزمان والمكان بأريحية، وعاون الرؤية التشكيلية تلك الملابس ذات غطاء الرأس المميز لأهل الصين فغربت الأحداث حتى دنت واقتربت وتماست مع الواقع والآني حتى تطابقت، فضلا عن الاستعراضات المبهجة التي أضافت إيقاعا متجددا للعرض وقام بها الممثلون، مما يؤكد المجهود المبذول في التدريب والتنفيذ خاصة وأن الموسيقى استخدمت فيها جمل موسيقية وآلات تطابقت مع الحالة الشعورية العامة للعرض. ولأن العرض ينتمي لرائد المدرسة الملحمية في العالم فقد نجح المخرج في الإشارة إلى المنهج الملحمي باستحياء الواثق من أدواته والمتمكن من مفرداته، فمع تنوع مصادر إسقاط الضوء وألوانه انتهى في لحظات قليلة إلى كشف الألوان عن بعض الأجهزة، فبدا نورها كاشفا كاسرا الحالة الإيهامية، وعاون الممثلين المتفرجين في الخروج من حالة التقمص التام مع الأحداث أنهم وجهوا كلماتهم بشكل مباشر إلى الصالة وكأنهم يسعون إلى شحن الهمم وشحذها علها تستفيق وترفض هذا الواقع المتهالك.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏