«الساعة الأخيرة»..  من زمن اللامنتهي 

«الساعة الأخيرة»..  من زمن اللامنتهي 

العدد 565 صدر بتاريخ 25يونيو2018

بعد ثلاث سنوات من عرض «سيد الوقت» الذي تناول الوقائع التي حدثت للفيلسوف المتصوف «شهاب الدين السهروردي» الذي عاصر نهاية الدولة الفاطمية والدولة الأيوبية، وكيف رأى مؤسسها صلاح الدين بوشاية من فقهاء حلب، أن الأخذ بالفلسفة والقول بالتأويل يعطل مشروع بناء دولته التي يحلم ببنائها، فيأمر بقتله لينضم السهروردي إلى قائمة من أُريقت دماؤهم عبر أزمان متعاقبة نتيجة أفكارهم ورؤاهم المختلفة، يُعيد المخرج (ناصر عبد المنعم) في نص مسرحية «الساعة الأخيرة» الفائز بين 125 نصا بجائزة «ساويرس» لأفضل نص مسرحي لعام 2017 الذي كان (ناصر) من ضمن أعضاء لجنة تحكيمها، وهو من تأليف الكاتب الشاب عيسى جمال الدين.
الرؤية النصية:
«الساعة الأخيرة» هي حالة تخيل (الباريدوليا) تسرد آخر 60 دقيقة من حياة الطيار الحربي الأمريكي بول تبيتس (1915 - 2007) الذي ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما يوم 6 غشت/ أغسطس 1945 التي راح ضحيتها 140 ألف شخص، من طائرة كان يسميها «إينولا جاي» على اسم والدته. وتوفي عام 2007 ليلة احتفائه بذكرى ميلاده الـ92.
ارتكن (عيسى) في نسجه لأحداث المسرحية بزرعه للخيال في تربة الواقع، حيث مزج بين حقيقة متجسدة في واقعة موشومة في ذاكرة التاريخ الإنساني والسياسي، وخيال بني على تصور لحالة نفسية شب عليها الكولونيل منذ طفولته، فلجأ (عيسى) إلى خلق حوار خيالي يجمع الطيار وذاته التي تكتنفها عقدة الانتقام، والتي بدأت بالوراثة (قتل أبيه للطيار الذي شك بعلاقة عاطفية تربطه ووالدة بول) ثم تسلسل صعود أحداثها مع المنافسة القوية بغريمه (1”تشارلس «سوييني/ الذي ألقى القنبلة الثانية على ناغازاكي)، لينمو إحساس الاستقواء وجنون البطولة الخالدة الذي سيتحول إلى التهميش ورفض التعايش معه، سواء من زوجته التي رفضت الاستمرارية معه وفضلت هجره رفقة ابنه الوحيد أو بإزالة تمثاله من ساحة العمومية ووضعه داخل البيت وليس أمام بوابته. في البداية كان يظهر صموده بتبريرات واهية بقوله إنه: «لا يمانع من إلقاء قنبلة أخرى لأنه ينفذ أوامر القادة». لكن شدة المرض وقساوة الوحدة يحيلانه على نهاية مأسوية يسبقها الندم حيث ردد قبل موته: «فى أقل من6  دقائق لم تعد هناك مدينة تسمى هيروشيما.. رأيت وجوههم وهي تحترق وأجسامهم تتبخر بفعل الحرارة.. ليتك لم تفعلها يا توماس»، لكن الندم لم يعد يجدي، شعور بوخز الضمير يخالطه شعور واهم ببطولة زائفة، فلولاه ما كانت أمريكا تأمر فيطيع الجميع، تلك البلاد التي بنيت إمبراطوريتها على جثث الشعوب، والآن يبسطون أذرعهم للسلام بأياد ملطخة بالدماء، ليعلنها «توماس» في النهاية: «نحن من نصنع الكراهية.. أنتم يا من تعيشون على الجانب الآخر من العالم، يا من تصدرون الأوامر دون أن تعبأوا بأرواح البشر، يا من تخليتم عن إنسانيتكم، سنصبح جميعا في طي النسيان، ستعرفون أننا ارتكبنا جرما في حق البشر، تخلوا عن شعاراتكم الجوفاء، واعلموا أن ساعة الحساب قادمة».
 الرؤية الإخراجية:
كانت اللقطة الوثائقية حول كارثة هيروشيما تلك الافتتاحية التي راهن عليها المخرج )ناصر عبد المنعم) في استدراجه لمخيلة المتفرج منذ الوهلة الأولى، فبانتعاشه لذاكرة التاريخ الأسود للولايات المتحدة الأمريكية يحيلنا بسرعة إلى بيت الكولونيل ليدمجنا في حواره الخيالي الذي بدوره يلقينا بظلاله على واقع مرير نعايشه في تاريخنا الراهن من حروب وتفرقة لا شك أن أمريكا العقل المدبر واليد المنفذة لها.. فبعيدا عن أي غموض يطرح العرض بسخاء حمولاته الرمزية وإسقاطاته العامة والخاصة.
بعدها تُفتح الستارة لتكشف لنا خلفيتين يقسمهما ستار شفاف وهما دلالة على الزمن )الحاضر/ الماضي): الخلفية الأولى وهو بيت الكولونيل يختزل بقاعة الجلوس في منتصف عمقها طاولة عليها قالب كعكة (عيد ميلاد) ينتظر الالتفاف حوله من أجل الاحتفاء، على الجانب الأيسر كرسي هزاز لا يبارحه)الكولونيل( إلا لماما وهذا تعبير عن اهتزاز نفسيته وارتباكه المستمر. وبعمق الجانب ذاته تمثاله الذي يبقى وسمة عار عوض افتخار، وفي الوقت ذاته الذاكرة التي تربطه بالماضي الأليم. أما الجانب الأيمن تؤثثه طاولة طويلة لكن تبقى مقزمة وضيقة لا يستطيع تمديد جسده عليها، وهذا تعبيرا عن عدم الاستقرار والانتماء الذي يفتقده. أما الخلفية الثانية وهي ذاكرة الكولونيل تلك الغرفة الباطنية التي استحضرت أهم المحطات التي خيمت على حياته الخاصة )حوار والديه(، و)العامة الاتفاقيات والأوامر والدسائس والمخطاطات).
رغم عودته بالزمن )فلاش باك(، اجتبى ناصر عبد المنعم أن يكون عرضه ممتدا ومتجها مع عقارب الزمن اليومي، فما اقترفته وتقترفه أمريكا من جرائم فلأنها تعيش حالة اللاأمان لأنها مستوعبة تماما أن البلد الذي لا حضارة ولا تاريخ ولا انتماء ما هو إلا مجرد قصر مشيد على رمال معرضة للدمار بأي هبة نسيم وليس ريحا هوجاء، وهذا الإحساس هو ما يجعلها تتلذذ بالقتل والتفرقة وشب العداوة بين الأمم والاستغلال.. وهذا ما يعرف بالقلق النفسي الذي يعد عقدة نفسية التي تصيب أيضا الأشخاص الذين لديهم هويات متعددة ولا انتماء لهم مما ينعكس سلبيا على تصرفاتهم العدوانية، فتجدهم دوما يتسمون بالخبث ويتجملون بابتسامات الأسود )إِذَا رَأَيْتَ نُيُوْبَ اللَيْثِ بَارِزَةً.. فَلَا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيْثَ يَبْتَسِمُ (فيبادرون إلى تشديد الخناق على كينونة الآخر كنوع من الانتقام. وهذا ما جاء في نهاية الحوار بين الكولونيل والسيدة اليابانية حال خروجها من المسرح «هل تعرف مصدر قوة إيماني بما أقول، إنني أعيش في وطن يسكن فيّ.. لست مارة عليه أو دخيلة على أرضه».
 الأداء الجسدي والبصري:
بعد تبنيه للنص كفكرة مرورا بمعالجة مضمونه المتلائمة والطرح بشقيه العام والخاص، ارتأى المخرج اختيار ممثلين، فإلى جانب حضورهم وتاريخهم بالمسرح والدراما المصرية فهم أيضا يتميزون بالمرونة والتطويع والانصهار السريع مع الشخصية المنوطة بهم. وهذه المعادلة تمظهرت في الحضور المتميز لكل ممثلي العرض. بداية من شريف صبحي/ الكولونيل بول تبيتس، هاته الشخصية المركبة التي فلحت في تعبيرها عن التراكم الحسي المتناقض بنبرات وعبرات وانفعالات بإيقاع محكم لا يشعرك بالملل. أما سامية عاطف/ الأم - السيدة اليابانية، هذا التنوع يدل على أن سامية مادة خام لينة تتشكل وفق الدور المطلوب وخصوصا في أدائها للسيدة اليابانية الكفيفة وكيف تفوقت في إيصال حالة التدمر النفسي والحفاظ على الكبرياء في الوقت ذاته. ولا أنسى هنا أن هناك حيلة، تواطأت سامية مع ناصر عبد المنعم في اقترافها، حين احتفاظها بملامحها الأصلية والاكتفاء بالزي وإكسسوار واحد )مقبض الشعر( وما هذه الحيلة سوى تحرير العرض من محدودية الزمان/ المكان وأن القضية سارية المفعول لحد الآن. أيضا تبقى الأدوار الأخرى لكل من الفنانين: معتز السويفي، ومحمد دياب، ونائل علي، ومحمود الزيات، ومحمد حسيب، لا تقل حضورا عن سابقتها، فكل واحد تفوق على نفسه بإمساك تلابيب الشخصية المؤداة، وحتى ظهور الوجه الجديد نورهان أبو سريع/ زوجة الكولونيل، يبشر بقدوم نجمة مسرحية متمكنة من أدواتها.
هذا الأداء الممتع ما كان يبرز جيدا دون إدارة تقنية متمرسة، حيث أبدع محمد هاشم في تصميم ملابس وديكور جمالهما يتسم بالبساطة والعمق اللذين يختزلان فضفضة السرد. كما تفوق أحمد حامد في إعداد موسيقى تتلاءم والأحداث بشكل معتدل يخدم مضمون العرض. كما كان اختيار الإضاءة احترافيا لطارق عليان ومحمد عشري حيث تم اختيار ألوانها تعكس الزمان الذي يربط بين الحاضر/ الماضي، والواقع/ الحلم.
 هوية العرض:
«الساعة الأخيرة» إنتاج وزارة الثقافة قطاع الإنتاج الثقافي )خالد جلال(، البيت الفني للمسرح )إسماعيل مختار( ومسرح الغد )سامح مجاهد( نص: عيسى جمال الدين، إخراج: ناصر عبد المنعم، تشخيص: شريف صبحي، سامية عاطف، معتز السويفي، ومحمد دياب، ونائل علي، ومحمود الزيات، ومحمد حسيب. مخرج مساعد: دينا محمود وعمر الشحات، مخرج منفذ: داليا حافظ، ديكور وملابس: محمد هاشم، إعداد موسيقى: أحمد حامد، إضاءة: طارق عليان ومحمد عشري، مادة فيلمية: حازم مصطفى.
 


بشري عمور