المسرح بين الثقافي اليوم

 المسرح بين الثقافي اليوم

العدد 606 صدر بتاريخ 8أبريل2019

ماذا يعني مصطلح «المسرح بين الثقافي intercultural theater»؟ يبدو السؤال تناقضيا، أو حتى مستفزا، لأن كل أنواع التبادلات الثقافية تنظم حياتنا اليومية، وأي مغامرة فنية تعود إلى المصادر الأكثر تنوعا وإلى المشاهدين. وبالطبع، قطعنا شوطا طويلا من التجارب بين الثقافية في الثمانينات مع (بيتر بروك) و(أريان منوشكين)، وأصبحت «التعددية الثقافية» شيئا شائعا، وهو مصطلح جديد بعد أن كان متنازعا عليه في يوم من الأيام. وربما من المفيد أن ندرس ما الذي يشير إليه، وأن نكتشف ما إذا كان يصف المسرح والأداء اليوم من عدمه.

أولا: مأزق التطبيع؟
1) المعالم التاريخية الحديثة:
يمثل سقوط حائط برلين الشيوعي في عام 1989 نقطة تحول في الفكر بين الثقافي، إنه يعني استفسار المبدأ العام، أو حتى اختفائه، علاوة على اختفاء النزعة القصدية البروليتارية، التي توظفت باعتباره أغلى جواهر الاشتراكية، ووضعت نهاية لفكر احتفظ بالقوة بمختلف دول شرق أوروبا تحت جناحها الحامي (الاتحاد السوفياتي أو يوغسلافيا). وأصبح المسرح بين الثقافي الصيغة الأكثر ملاءمة في عالم بدون صراع مفتوح بين الأمم أو بين الطبقات، وأفضل حل متاح لقانون السوق الدولية من أجل الاختفاء التدريجي للحدود بين الدول. وفي السنوات العشر الأخيرة، يبدو أن الحدود بجميع أنواعها أفلتت من أي سيطرة: منذ عام 1989 سالت الحدود السياسية والجغرافية، أفلتت من المراقبة، لأن الرأسمالية نفسها منذ عام 2008 تبدو خارج السيطرة.
في السبعينات والثمانينات رحبت القوى السياسية اليمينية واليسارية بالنزعة بين الثقافية، لأنه بدا أنها كانت راغبة في إقامة جسر بين الجماعات العرقية والثقافات المنفصلة التي اعتادت أن تتجاهل بعضها البعض أو تقاتل بعضها البعض. ورغم ذلك، بعد الحادي عشر من سبتمبر أدى خوف معين من ثقافات غير معروفة جيدا إلى الشك في الأداء بين الثقافي، وربما كان هذا علامة أن مجاز التبادل بين الثقافات، وبين الماضي والحاضر، لم يعد يتوظف جيدا وأن هذا النوع يجب على الأقل أن يتأمل نظريته، إذ تبدو نظرية ممارسة المسرح بين الثقافية في الثمانينات قد أهملت بواسطة المسرح والأداء الحاليين. وكأنه لم يعد من الممكن تأملها في إطار الهوية القومية أو الهوية الثقافية. ولذلك ماذا حدث في هذه العشرين سنة الأخيرة، بينما ظل السياسيون يؤيدون التعاون بين الثقافي؟

2) المسرح باعتباره غريبا عن المجتمع:
طبقا إلى (روبرت أبيراشيد Robert Abirached)، أصبح المسرح غريبا عن المجتمع المعاصر (على الأقل في فرنسا): «حتى نحو السبعينات، كان الجمهور واعيا بوحدته، إذ كان جمهورا وطنيا. وكان المسرح القومي الشعبي هو مسرح الأمة، الأمة التي كانت أهدافها ومرجعياته مشتركة بين الجميع. وكانت هذه الثقافة مشتركة بين الشعب والطبقة المتوسطة. وقد انفجر هذا المجتمع، لعدة أسباب: كان هناك تمييز قاسٍ بين الضواحي ووسط المدينة، وبين السكان القادمين من الخارج بثقافتهم والثقافة الفرنسية الأوروبية. وبدلا من مشاهدين متناغمين، كان لدينا مجتمعات صغرى متعددة ابتكرت مسرحها.
والمسرح بين الثقافي في الأربعين سنة الأخيرة هو الإجابة الممكنة لتمزق المشاهدين والأنواع، فهو يحاول بالطبع توسيع المنظور القومي والسياسي بتناول الثقافات الأجنبية، وهذه الثقافات مختلطة وفقا للرؤية المركزية للمخرج (الغربي عادة).
توظف النزعة بين الثقافية بطريقة معاكسة: عندما تستخدم الثقافة غير الأوروبية الكلاسيكات، فإنها تحافظ على ثقافة تقاليد مسرحها، ولذلك يجب أن نفتح النقاش على الطريقة التي تتناول بها كل هذه الثقافات/ الشعوب/ المسارح المؤلفين الأوروبيين والأمريكيين والأفكار، وبأي افتراضات وقصد، وبأي تحيزات ومحاذير. ومن المستغرب، أن المسرح بين الثقافي في أوروبا وفي أماكن أخرى، لم يصبح نوعا جديدا يجب أن يضم كل الأنواع الأخرى، وقد تحول هو نفسه إلى مسرح عالمي.

3) أزمة الهوية القومية
يمكن تفسير هذا التحول العميق بالتغير الثقافي وتغير الهويات القومية. ومع نهاية الكتلتين السياسيتين والجغرافيتين المتصارعتين، ومع الهيمنة على الاقتصاد العالمي فوق الوطني، يبدو أن الأمم والأقليات والهويات قد ولدت من جديد، وفهمت أن لا يمكن لأي قوة عظمى أن تسيطر عليهم بعد الآن، لأنهم يعتمدون الآن على اقتصاد عالمي. والتفكك البطيء الذي لا يرحم لشعوب الدول (على الأقل ما دامت القوى الحقيقية هي المعنية) يؤكد اختفاء الثقافات المنعزلة، المنضمة إلى أمم وتتجه إلى كيانات كبيرة متميزة. ومنذ تلك اللحظة، أصبح بين الثقافي هو القاعدة العامة، لم يعد من الممكن السيطرة عليها والتحكم فيها من جانب الدول الأخرى، والنخبة التي تدعي أنها تمثلها. وبنفس أسلوب تطور السكان في العالم والهجرات، تحولوا إلى إقليميين. وبدلا من الكيانات المنفصلة، لدينا الآن مجتمعات ذات مشاعر مختلفة.
وبمواجهة هذا الفقدان للهوية، كان هناك ردان مألوفان للفعل: إما تأكيد قوي على الهوية، ومقاومة شديدة، ونقد لأي تغيير، وهو توجه سرعان ما يصبح رجعيا أو عنصريا، الذي يسعى إلى الرجوع بأي ثمن إلى الهوية الوطنية، أو على العكس، عداء بعد حداثي، وعدم تدخل اقتصادي، وقبول تغير العصر، ورفض ساخر لأي مقاومة أو تفسير نظري، وأخيرا قبول تحويل الثقافة إلى سلعة.

ثانيا) الأزمة السياسية والنظرية:
1) أزمة التصحيح السياسي:
الخطيئة الأساسية التي تنزل بثقلها على المسرح بين الثقافي، وهي الحجة التي تستخدم بلا هوادة بواسطة الذين أعلنوا عن أنفسهم كمدافعين عن الثقافات غير الأوروأمريكية التي تعامل معها المخرجون الأوروبيون: أنه ينظر إلى النزعة بين الثقافية بأنها تستغل بلا خجل الثقافات الأجنبية، لكي تتصرف باعتبارها استعمارا. وكلنا نتذكر الهجمات المحمومة لـ(رستم باهاروتشا) ضد النزعة الاستشراقية عند (بيتر بروك) أو ضد المنظرين الغربيين للحركة بين الثقافية. وسمعنا مرارا وتكرارا نفس الاتهامات الاستعمارية من جانب الغرب ضد هذه الدول المسالمة: اتهم المخرجون باستيلاء على الأفكار والأساليب دون اعتبار للهويات الثقافية لها.
وربما أثارت هذه الهجمات حماس الفنانين، ولكن من الواضح أنهم لم يتوقفوا، وربما شرحوا جزئيا الفشل المرتبط وانهيار هذا التيار من الإنتاج المسرحي المعاصر. ومن المسلم به أن (دينيس كيندي) على صواب عندما يقول إن الحركة بين الثقافية لم تكن قادرة على وضع نفسها بين العروض التقليدية للكلاسيكيات والتفكيك (الذي استلهمه دريدا). والتفكيك كما يمارس بواسطة المخرج الفرنسي (أنطوان فيتيه) على سبيل، الذي رأى عروض المسرح الثقافية والاحتفالية باعتبارها أخلاقية وساذجة، فهي ملائمة فقط للمهرجان السلمي أو أمسيات تجمع أشبال الكشافة حول النار.
ولكن الزمن يتغير (كما اعتاد أن يقول بوب ديلان): لم يعد الميزانسين محاولات لكي يعني مجازيا بلدا أو عصرا من خلال ثقافة أخرى بعيدة في الزمان والمكان. ولم تعد تشعر بحاجة إلى تنشيط مسرحها المحلي بمنشطات غريبة مستلهمة من أنطونين آرتو. ولم تعد تجرؤ أن تدعي، مثلما فعلت منوشكين، الموافقة ولكن بسذاجة أن المسرح شرقي. في حين أن الفنانين غالبا ما تكون لديهم علاقة طبيعية بالثقافات الأخرى، فإن المجتمعات الصغيرة والمثقفين والمتلقين الجادين يشعرون بالرعب من التعثر المحتمل في تمثيل وتقييم الآخر وتقييم هذه الثقافة الأخرى.

2) أزمة النظرية:
تمر نظرية التبادل الثقافي والنزعة بين الثقافية بأزمة، لأن نموذج التبادل، ونموذج الاتصال ونموذج النقل (الترجمة)، وأيضا والهدية بالمعنى الأنثروبولوجي، والمشاركة، لم تعد توظف بالشكل الصحيح لكي تصف هذه الأعمال الهجينة. ولم تعد هذه الأعمال في حاجة إلى أن تعرف نفسها بأنها التقاء ثقافات، وكأنها هدف واضح. بالطبع، ماذا يمكن أن تكون فكرة النظرية بين الثقافية إذا كانت الثقافات متضافرة فعلا؟ التمييز العادي بين كلمتي «بين ثقافي Intercultural» و«داخل الثقافي intracultural» لا يسهل تأسيسه دائما. والتمييز بين «عبر الثقافي cross - cultural» و«بين الثقافي» (أو العابر للثقافي transcultural) مفيد ولكنه نظري خالص أيضا: فمن المفترض أن توحي كلمة «عبر cross» بالمزيج والهجين، بينما كلمة «بين» أو «عابر» من المفترض أن تشير إلى التشابه العام، بالمعنى الذي ذهب إليه (جروتوفسكي) و(باربا) و(بروك).
لقد انتقد هؤلاء المخرجون الثلاثة بسبب اكتشافاتهم العموميات المسرحية، التي يفترض أن توجد في أي ثقافة. وقد هوجموا بسبب لعدم امتلاكهم تحليل سياسي أو تاريخي مادي. إذ اتُهم (بروك) بأن له رؤية جوهرية للإنسان، والتي تم اختزالها إلى علاقة إنسانية، وجوهر مدرك في أي بيئة أو سياق. وقيل إن (باربا) يبحث داخل ما قبل التعبيري عن خصائص ثقافية متفوقة أو حتى خصائص قبل ثقافية، مشتركة بين كل أشكال الأداء والرقص الموجودة. ولم يكن هذا النوع من اللوم بدون مبرر، ولكنه ينطبق بشكل أقل بكثير على عروض (باربا) أو(منوشكين) أو (بروك) الحديثة.
ويشير مثال عرض (بروك) الأخير «إحدى عشرة واثنتا عشرة»، كما سنرى فيما بعد، إلى مأزق المسرح بين الثقافي، وإلى اثنين من إغراءاته: إما لتقديم رؤية عامة للإنسان، وإسقاط غضب المدافعين عن الاختلاف الثقافي على النفس، أو على العكس، الإصرار على السمة المميزة لكل ثقافة، لرفض أي تذويب وأي تركيب، والتحرك نتيجة لذلك نحو حالة متطرفة من الخصوصية، التي تنحدر إلى تعددية ثقافية، أو حتى طائفية. وكما يوضح (إرنستو لاكلو)، لقد ترددت الأحزاب اليسارية وردود الأفعال الديمقراطية لفترة طويلة بين هذين الموقفين: تركز الخطاب الديمقراطي على المساواة فيما وراء الاختلاف. وهذا صحيح طبقا لفكرة (روسو) «الإرادة الحرة» وأيضا طبقا للصراع الطبقي الذي يفترض أن يجلب التحرر وفقا للماركسية. وعلى العكس من ذلك، ترتبط الديمقراطية اليوم بإدراك الجماعية والاختلاف. ولن يستطيع المسرح بين الثقافي الإفلات من هذا الجدال. إذ لا يمكنه تفادي سؤال أساسه الاجتماعي الاقتصادي والتحليل السياسي والاقتصادي للتحولات التي خلقتها العولمة. وقبل الشروع في هذا التحليل، رغم ذلك، يجب أن نعترف بالتنوع بين الثقافي الكبير والأنواع المرتبطة به.

3) تحولات التجارب بين الثقافية:
تتراجع تسمية «المسرح بين الثقافي» عن الاستخدام. ويمكن أن يكون مصطلح «الأداء بين الثقافي» أكثر ملاءمة للإشارة عموما إلى أداء ثقافي مختلف جدا.
ويمكن تمييز الأداء الثقافي عن الأنواع التالية التي غالبا ما تكون متغيرة أو متخصصة:
• يعتمد المسرح متعدد اللغات، في المناطق متعددة اللغات مثل كاليفورنيا أو لوكسمبورج، على كفاءة الثنائية اللغوية للمشاهدين لكي يغيروا دائما اللغة. فمؤدي كوميدي لكوميديا الموقف مثل «فيلاج» (من الجزائر) يتحرك باستمرار من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية أو لغة البربر، اعتمادا على الإشارات الثقافية أو التعبيرات الاصطلاحية أو التورية.
• المسرح باللغة الأصلية (كما هو الحال في السينما) يقدم غالبا ترجمة أو بالأحرى ترجمة تسمح للتلقي الأساسي والملائم، بينما يترك المشاهدين يسمعون النص الأصلي مع خيار التقيد بقراءة الترجمة.
• المسرح التوفيقي يستخدم المادة النصية والموسيقية والبصرية التي يستعيرها من عدة ثقافات، ولا سيما الثقافات المحلية المختلطة بالأشكال الأوروبية وتتعامل غالبا مع مشكلات النزعة الاستعمارية وغير الاستعمارية.
• المسرح بعد الكولونيالي يربط العالم الدرامي والكتابة، مثل أعمال (ديريك واكوت) و(وول سوينكا)، بلغة وثقافة المستعمر السابق، ولكنه يثري أيضا هذه اللغة وهذه الثقافة. ويستعير الميزانسين من أساليب أداء الثقافة الأصلية بمواجهتها بمزيد من الممارسات الأوروبية للمستعمر السابق.
• المسرح المختلط (والشعر المختلط) يبحث عن مواجهة الكتابة واختلافها وعلاقتها في حضور لغات العالم (مثل أعمال ادوار جليسان) لكي تحارب تنميط العولمة. وتشير علاوة على كل ذلك إلى اللغة الغنية في جميع أنحاء العالم التي رغم أنها فوضوية وغير مفهومة أبعد ما تكون عن التعددية الثقافية.
• مسرح التعدد الثقافي، بالمعنى الجاد والعملي للكلمة غير موجود، لأنه يمكن أن ينكر العلاقات المفيدة والتبادل بين مختلف الثقافات. وبنفس الطريقة، المسرح الجماهيري الذي يغلق على نفسه في ثقافة، وعقيدة أو جماعة واحدة، يمكن أن تكون له رؤية داخلية ومغلقة.
• وبالمقارنة، يعمل مسرح الجماهير لجماعة محلية أو إقليمية بالمعنى الواسع للمصطلح، وليس لجماعة مغلقة على ذاتها.
• مسرح الأقلية ليس بالضرورة مسرح بين ثقافي، إنه موجه إلى أقليات عرقية أو لغوية، دون محاولة أو رغبة عزل نفسه المجتمع متعدد الثقافات الذي تتطور فيه. إذ يجيء بعض الكتاب من أقليات أفريقية أمريكية أو أفريقية بريطانية أو آسيوية أمريكية، على سبيل المثال (روي ويليامز) ومسرحيته «جو جاي «(2007) في إنجلترا، أو «سونج رنو Sung Rnu» في الولايات المتحدة الأمريكية ومسرحيته (عندنا w(A)ve).
• مسرح السائحين، الذي لا يقدم لذاته، ويوجد في دول تعتمد على السياحة التي ترغب في أن تقدم للسائحين الأوروبيين صورة أجنبية متاحة من ثقافتهم.
• مهرجان المسرح ويتوجه غالبا إلى المشاهدين والخبراء الدوليين. وهو يسعى لمواءمة نفسه إلى موضات وتوقعات العصر، لكي يجعل ثقافته متاحة للمشاهد الدولي بكل أنواع تنازلاته.
• المسرح العالمي كما يسمى وفقا لبحوث (أبادواري Appadurai)، و(رينيه Reinelt) أو (ريبيلاتو Rebellato)، ويحاول أن يميزنا عن الأداء العولمي أكثر من الأداء بين الثقافي. ومن المفترض أنه مميز عن الأخلاقيات التي تحكم العولمة.
كل هذه التصنيفات التي بينها شيء مشترك مع الحركة بين الثقافية تترابط غالبا والقائمة مفتوحة. وجميعها يشعر بأثر العولمة. وكذلك الحال تصل إلى مسرح ذي طابع عولمي؟

ثالثا) من المسرح بين الثقافي إلى الأداء ذي الطابع العولمي:
 أمثلة حديثة:
إذا كان صحيحا أن الثقافة هي الحقيقة التي يبدو أنها تتضاءل أمام عيوننا بشكل لا رجعة فيه، فكيف يمكن للمسرح بين الثقافي نفسه ألا يكون في طفرة كاملة ومستمرة أو حتى في حالة تفكك؟ ولكن هل نحن في مواجهة مع العروض التي أصبحت غامضة، أو مع العروض التي ربما لم تعد صحيحا سياسيا؟.
ودعونا ننحي جانبا حالات التحول إلى سلعة: تم دراسته بشكل شامل بواسطة (دان ريبيلاتو) في تحليله للعرض الموسيقي الضخم (القطط Cats) أو ما يسميه «المسرح الضخم Mc Theater». وبداية بثلاث حالات نموذجية للنزعة بين الثقافية ذات الطابع العولمي، ودعونا نفحص ما إذا كان نوع الأداء بين الثقافي قد جدد نفسه وفي أي اتجاه تطور في العشر سنوات الأخيرة. وهل نستطيع أن نتحدث عن الأداء بين الثقافي، وهل يمكنه أن يجدد نفسه، على الرغم من القيود الاجتماعية الاقتصادية للعولمة.
1) لأول مرة في حياته المهنية، سمح (فينافار) لمؤلف آخر أن يقتبس، ويعيد كتابة احدي مسرحياته: اقتبس الكاتب المسرحي الياباني (أوريزا هيراتا Oriza Hirata) مسرحية (فينافار) «في عرض البحر Overboard) إلى البيئة اليابانية، ولكن النقل لم يكن لغويا وجغرافيا خالصا، من فرنسا إلى اليابان. فالنقلة كانت من أسرة فرنسية تملك شركة لورق التوليت في الستينات إلى منتج متعدد الجنسيات لأحواض الحمام، والتي اشترتها شركة فرنسية. ولم ينتج البعد الكوميدي للعمل من الفرق في الأسلوب بين الاستخدام الأوروبي الكلاسيكي لورق التوليت والممارسة اليابانية لتدفق الماء والهواء الدافيء. وهي تنشأ، كما في مسرحية (فينارفار) الأصلية، من النتاقض بين الصورة الصحية لورق التوليت وحقيقة الطفرات الاقتصادية.
وكل من الأمر الاجتماعي الاقتصادي والبعد بين الثقافي وقد تم تعديل كل من المسألة الاجتماعية الاقتصادية والبعد بين الثقافي. وبتأريخ مسرحية (فينافار)، عن طريق نقلها إلى اليابان المعاصرة، ابتكر المخرج (أرنو مونيه Arnaud Meunier) شكلا جديدا في المسرح كان سياسيا وبين ثقافي في نفس الوقت. ويثري تلاقي الكتابتين والأسلوبين، وهي فرصة نادرة في التجارب بين الثقافية، هذا النوع، الذي كان مقصورا غالبا على مواجهة أساليب التمثيل. وقد إنجاز تجميع الأفكار والحوارات في الاقتباس. ولا داعي لمواجهة وتجميع أساليب وطينة مختلفة، وتقاليد أداء مختلفة. والأهم من ذلك، هو الفرق في عمل الثقافة والأخلاق. فأسلوب تمثيل الممثلين اليابانيين أسلوب غربي: فهم أحيانا يتحدثون الفرنسية ويحاول زملاؤهم الفرنسيين أن يتحدثوا لغتهم اليابانية. ولكن هذا لا يصنع تذويبا فرنسيا يابانيا في الأداء، حتى لو حدد المخرج أسلوبه بأنه أسلوب اندماجي. فلم يكن هناك فقط انصهار ثقافي، ولكن الهدف من مسرحية (فينافار - هيتارا) هو أنه لا يوجد تركيب اجتماعي ممكن واللقاء في المجال الاقتصادي، وأسلوب الحياة العاطفة أيضا. وفي أكثر من فكرة الانصهار المستحيل في هذا النوع الجديد من النزعة بين الثقافية، نستطيع أن نلاحظ التقارب بين الاهتمام الاقتصادي العميق والحساسية تجاه الاختلاف الثقافي، حتى لو أمكن ممارسة ذلك فقط على مستوى بشرة الإنسان، مع أو بدون ورق توليت.

2) إضفاء الطابع المحلي على المشهد العرقي: عرض (روبرت ليباج) «التنين الأزرق»
يقدم مسرح (روبرت ليباج) الكثير من أمثلة المسرح العولمي، ليس فقط بصيغة عرضه، وتدريباته توظيفه الدولي ذو الطابع العولمي، ولكن بسبب موضوعاته. وعرض «التين الأزرق»، وهو نوع من استمرارية العرض الذي قدم قبل عشرين عام «ثلاثية التنين «، وهو يقدم كل مكونات المسرح بين الثقافي: فهو يحكي قصة «بيري» من كوبيك الذي أتي إلى الصين لدراسة الخط والرسم، و» كلير» صديقته السابقة، التي تزوره وتريده أن يتبني طفلا صينيا، وصديقته السابقة «زياو لينج» التي تحمل طفله.
تسافر الشخصيات بين الثقافات، ولكنهم لا يجسدونها ولا يحاولون التوليف بينها. فعناصر النموذج الصيني الثقافي الشائع مثل إسقاط تخيلاتهم وتخيلاتنا. وهذا النموذج الثقافي الصيني والمنسوب إلى مقاطعة كوبيك، ليس به شيء ثابت وارتباط هوية ولا مادة محلية معروفة، بل على العكس له شكل متقلب. إذ يبدو أنه يتطابق مع تعريف (أباديوراي) للعناصر الثقافية غير الجوهرية والمتقلبة: «تنتقل الثقافة من كونها نوعا ما من المادة المحلية الخاملة إلى شكل من الاختلاف المتقلب. وهذه الثقافة تبني ما يسميه (أباديوراي) «المشهد العرقي: مشهد الأشخاص الذين ينشؤون العالم المتقلب الذي نعيش فيه: ينشئ السائحون والمهاجرون واللاجئون والمنفيون والعمال الزائرون والجماعات المتنقلة الأخرى والأفراد ملمحا أساسيا للعالم ويبدو أنهم يؤثرون في سياسات الأمم إلى درجة غير مسبوقة حتى الآن. فشخصيات مسرحية «التنين الأزرق «الثلاثة، وبنفس الأسلوب، باعتبارهم مقيمين في عالمنا الحقيقي وفقا لرأي (أبادوراي)، لم يعودوا سجناء هوية قومية ثابتة، فهم فوقها، وفي الهواء، نازحين باستمرار، أحرار كالطيور، يغيرون هوياتهم وفقا لاحتياجاتهم الحالي. وخاتمة قصتهم لها ثلاث نهايات محتملة، نُفذت على التوالي، مما يشير إلى أنه لم تعد هناك خاتمة، ولا سرد أخلاقي وأن كل شيء يعتمد على اختيار المشاهد. ولذلك توظف مجموعة الشخصيات الثلاثة جيدا، رغم أنهم في الفراغ، وكأنهم لا يستطيعون ربط قصتهم بالواقع، واقع عولمي اختياري. وتكون حكاية لقاءاتهم في حالة سيولة، مثل تدفقات الهجرة اليوم والتي، طبقا ل (أبادوراي) في حالة انتقال من التوطين، وكذلك تشريد الهويات الثقافية منذ ستين سنة.

3) أداء الهوية: جيرومو جوميز بينا: التقنية العرقية
في كل فعالياته كمؤدي يعالج (جوميز بينا مشكلة الهوية القومية والعرقية. وباعتباره مكسيكي يعيش في الولايات المتحدة، يعرف تماما المصاعب التي يواجهها المكسيكيون الأمريكيون للاندماج في مجتمع أميركا الشمالية. فالمؤدي بطبيعته يسعي إلى اختبار الصحة السياسية بين الثقافية. فجسمه (أو عرض «نادي الفتيات») هو ميدان المعركة، مجال الإثارة الذي يستخدمه لكي ملاحظة نقوش الهويات المختلفة، ولا سيما العرقية والجنسية والسياسية لجسمه. وبتضخيم المؤثرات العبثية لكل علامات الهوية هذه، ويتحدى المذاق الجيد السائد، بينما يوضح الشخصية المبنية من هويات. فيصبح فن الأداء أفضل طريقة لشجب مثالية المسرح الأنثروبولوجي.
كل صورة من العرقية التقنية تعالج صعوبة معينة في إنشاء الهوية وفهمها، وستفسر عن أي احتفاظ بالتناغم الثقافي أو الهوية الثابتة، لأي فهم مثالي بين الشعوب أو الجماعات. فمثلا في عرض «فتاة نادي الكابوكي»، لدينا سلسلة من الصور السرية تتركز على الوجه، وعلى الثوب نصف المفتوح، وعلى توجهات ما يبدو أنه فتاة من الجيشا اليابانية، وفي نفس الوقت تعطي كل لقطة سينمائية باعثا قويا. هذا المونتاج المتناوب يبرز العنف المرتكب ضد فتاه نادي الكابوكي التي تُهان بواسطة الكاميرا – يعني من خلال تحديقنا في اللقطة تلو الأخرى، تجبرها على تعرية الأجزاء الخفية في جسمها. وبين هذه اللقطات الحمراء (الجميلة فعلا) يستخدم الفيلم صور الأبيض والأسود بطريقة العرض الغربي لمشاهدين أفارقة مفتونين ببلادهم. ويغيرون ملابسهم وهم محبوسين في حافلتهم الصغيرة، وتستعد الموديلات، ويناولون البسكويت في ظل نظرات جائعة من الأفارقة. توجد الموديلات فقط في نظر الآخرين، بنفس الطريقة التي يجب أن تثير بها الجيشا اليابانية الزبائن بكسر الشفرة الثقافية للجيشا: موقف الجسم الخامل، والفستان نصف المفتوح. يشير عدم توافق العالمين أو العوالم الثلاثة بالأحرى. الياباني والأفريقي والأوروبي الأمريكي وإيقاع الموسيقى إلى تركيب مستحيل، أو انسجام أو تصالح بين الثقافات المختلفة. وتقدم هذه الإثارة البصرية أكثر خطاب نظري طويل عن العولمة.
شكرا لهذا النوع من الأداء، إذ يقدم (جوميز بينا) حياة جديدة وباعث جديد للصحيح، ولكنه مسرح بين ثقافي مخيف. حيث جسم الممثل هو المكان هو المكان الذي يمكن أن يظهر فيه عنف العلاقات التجارية.
مقاومة الهوية الثقافية وتعزيز الجمالي: روبرت ويلسون، وأكرم خان.
دعوني أتناول مثالين من استخدام آخر لثقافات أجنبية مختلفة، ليس بمعنى تبادل الهويات، بل عن طريق البعث الجمالي أو بالأحرى إعادة الخلق: (روبرت ويلسون) (ومثال أوبرا بوتشيني «مدام بترفلاي») و(أكرم خان) (ومثال تصميم الرقص المعاصر المستوحى من الرقص الهندي التقليدي «كاثاك Kathak «). عروض (ويلسون) في جميع أنحاء العالم هي مثال جيد لإدارة المسرح العولمي. فالمكونات المختلفة لعروضه والتي توضع في كثر من الأحيان في مواقع مختلفة قابلة للتبديل والتجميع والتفكيك بحسب المسرح والمؤدين، والإقراض والتعاقد من الباطن من جانب المتعاونين الذين يعدون المواد بشكل مسبق قبل النظرة الأخيرة والكلمة النهائية للمخرج.
ولا تهدف الهيمنة على كل عناصر خشبة المسرح إلى مواجهة الأنساق الثقافية، أو احترام أي مصداقية مفترضة في تمثيل الإشارات الثقافية. والشيء الوحيد المهم بالنسبة لويلسون هو الدقة الجمالية والتجريد، وعملية تنقية وتركيز المادة الفنية. وفي هذا السياق، وكما سنري في عرض (ويلسون) «مدام بترفلاي»، يمكننا أن نكتشف هنا وهناك تأثير حضارة معينة أو حتى عمل نموذجي لمنطقة جغرافية معينة، ولكن الأمر الحيوي والمهم ليس موجودا في نسق الاقتباسات الثقافية أو في دقة المقارنات. ومن هنا تأتي المفارقة المثمرة: يستطيع ويلسون في نفس الوقت أن يكون موجودا في استمرارية الفن الأمريكي المعاصر (مثل فن الأقلية، والنزعة التعبيرية التجريدية، والفن الشعبي ورسومات الأوثكو Othko) وفي حساسية الفن البوذي في الشرق الأقصى. ولذلك فالنتيجة جمالية، مع عدم وجود أي امتياز لانتماء عرقي أو أي دقة انثربولوجية. ولا ينطبق هنا سؤال الهوية أو الخصوصية الثقافية، لأن (ويلسون ينحي جانبا أي إخلاص مع أي من الثقافات الموجودة. (ورغم ذلك، قد يميز هذا التوجه بعد الحداثي في أميركا الشمالية؟).
وينطوي هذا على استخدام متق للإيماءات، وأسلوب هيراطيقي بسيط ومتماسك، والتي لا تصرف انتباه المشاهد عن الأصوات والموسيقى والسينوغرافيا. ويُرى أي معني للانتماء الثقافي (اليابان وإيطاليا، الأصل الجغرافي للمغنين) بأنه غير ذي صلة، وتشتيت عن الموسيقى والرسم والفن للفن. هذا النظام بعد الوطني postnational (وفقا لمصطلح أبادوراي) يظهر تقريبا في كل مكان، ولا سيما في النظام السياسي للولايات المتحدة، إذ يمكن فهمه، ان جاز التعبير، في هذا النوع من الفن العالمي، المنفصل قصديا عن أي انتماء عرقي. والثمن المدفوع لهذا المحو الثقافي ينجرف بعيدا عن أي محاكاة نفسية أو اجتماعية، والتي تنهي نسبيا متعة السرد القصصي ومؤثرات الواقع، وكأنهم يستطيعون عزلنا عن الأداء الصوتي والموسيقي النقي والأداء الإيمائي والسينوغرافي.
والمنهج مختلف في تصميم الرقصات عند (أكرم خان)، وهو راقص ومصمم رقصات يقيم في لندن. يستخدم (خان) الرقص الهندي التقليدي كأساس، ويبتكر تصميم الرقصات لمجموعة من خمسة راقصين (هو من ضمنهم) تاستخدام اقتباس موسيقي مع نموذج إيقاعي خفيف. ومن خلال وضع راقصيه في فراغ متصور بواسطة النحات (أنيش كابور)، يمط الحركات المقننة في رقص الكاثاك التقليدي باستخدام أنماط قصيرة متكررة. ويحافظ التصميم عموما على النموذج الايقاعي، بينما يسمح لأجسام المؤدين أن تؤكد نفسها بوضوح وبشكل تزامني في الفراغ. وبشكل أكبر من نقل التقليد الهندي إلى النمط الغربي، لدينا هنا امتداد لمبدأ التكوين، وأحيانا باستخدام التكرار المتزامن، مع لحظة طفيفة غير متزامنة مع نفس التسلسل.
5) العودة إلى السرد البسيط: بيتر بروك
يكشف آخر أعمال (بيتر بروك) «أحد عشر واثنى عشر «التطور النسبي في المسرح بين الثقافي لأن بدايات النزعة بين الثقافية في السبعينات، وأكدت، ان دعت الحاجة، أن العولمة لا تعنى بالضرورة استحالة العودة إلى ما يسميه المسرح الفقير الخام والفوري، كما مارسه (بروك)، ولا سيما قبل فترة إقامته في فرنسا في المركز الدولي لبحوث المسرح وقبل رحلاته إلى أفريقيا في بداية السبعينات. وقد استلهمت المسرحية روايات الكاتب الأفريقي (أمادو أمباتي با Amadou Hampate Ba) «حياة وتعاليم تيرنو بوكار «، إذ تحكي قصة هذا الشخص الحقيقي، وهو أستاذ صوفي أصبح المؤلف من أتباعه. وتقدم المسرحية شخصين متدينين في حالة صراع بسبب نقاشاتهم العقيمة. وعندما واجها الإدارة الفرنسية المستعمرة، سوف يتصالحان في النهاية. و(بوكار) رجل مسلم عاقل، وليس العكس. وفيما وراء الانتماء العقائدي، فان التبادل إنساني ومتسامح. يحكي الراوي بعض المشاهد من حياة الحكيم الأفريقي ويجعلها درامية، حيت تمضي الفطرة التسامح معا.
وفي معارضتهم يمكن تحديد التقاليد الثقافية. فكل شيء في التمثيل وإعداد الشخصيات وفي استخدام الجسم، يساعدنا أحيانا في تمييز المستعمر the colonizer والمستعمر the colonized، كما يحدث في الكاريكاتير. والجرأة الأوروبية من الفطرة الأفريقية. ثقافتان وطريقتان في الحكم على الحياة ورؤيتها تتنافسان: ليس فقط الظهور المادي، بل أيضا طريقة الإنسان في حمل جسده. تخلي هذا النوع من الضوء بين الثقافي عن فكرة تفسير التقاليد الثقافية الرئيسية كما حدث في تحويل (بروك) ل (المهابهارتا) إلى دراما مسرحية (1985). إذ يتكون فقط من روافع ثقافية ركزت على بضعة أشياء، أو من إضاءة جميلة تذكرنا بأفريقيا، أو عدة لهجات إنجليزية مختلفة. وتتطابق هذه التفاصيل مع تمثيل أفريقيا في الماضي. وليس بينها سوى أشياء قليلة مشتركة مع حياتنا الحالية، ومع الحياة التي يمكن أن نفهمها على الفور في الخارج عندما نغادر قاعة مسرح «بوفيه دي نور «: وهنا يمكن أن نمارس على الفور طرقا أخرى في المعيشة، وثقافات مزروعة أخرى، وثقافة جديدة في الهجرة وتداول الأقليات، الذين تم فحص حركتهم بواسطة (أرجون أبادوراي) و(مارك أوجيه)، حركة في المكان فضلا عن حركة في الزمان.
ففي إشارته إلى أفريقيا، يتجنب (بيتر بروك) أي نوع من الأداء الغريب وشكرا لاستخدامه ممثلين من أصول مختلفة، وشكرا للطريقة التي أضاء بها العرض، وشكرا للأشياء البسيطة. فأفريقيا والدين، كما هو مقترح، مسألة عامة. والأمر المهم هو المواجهة الإنسانية، التي كانت وما زالت ملمح أساسي للتناول بين الثقافي. وعودة إلى الأصول؟.
•    ملاحظات ختامية:
1) في السبعينات، عندما كان المسرح بين الثقافي مزدهرا، قدم درسه الأول وتشخيصه الأول. ومنذ ذلك الحين، تطورت طبيعة هذا المسرح الذي سمي ساذج «بين ثقافي». وقد تغيرت العصور بشدة. فتأثير العولمة على طريقتنا في فعل وفهم المسرح واضحة بشكل متزايد. ولذلك، فان التجديد أو الطفرة الكاملة للنزعة بين الثقافية، وكذلك الاهتمام المتزايد لظواهر العولمة، إرادة أن نتأمل المسرح وفقا للعالم الذي ينتجه ويتلقاه، ويضع في اعتباره أبعادة الاجتماعية الاقتصادية والأخلاقية.
2) الإسقاط على العولمة وتأثيرها على المسرح سمح لنا أن نعدل رؤيتنا للأداء بين الثقافي، الذي اعتاد أن يعتمد على المفاهيم الجوهرية والمعيارية في السبعينات، رؤية مهووسة جدا بمشروعية تمثيل ثقافة أخرى.
3) تبدو الصعوبة الرئيسية أن نجد الصلة بين عمل علماء الاجتماع والاقتصاديين حول العولمة، مثل رؤية (أباديوراي) والاحتمالات المتجددة للنزعة بين الثقافية في الفنون. فماذا يمكن أن تكون الصلة، في الإنتاج المسرحي الحالي، بالنسبة لأنماط الاستهلاك الجديدة، وهو ما يسميه (أباديوراي) «جماليات الزائل «، وبالنسبة للإنتاج المسرحي الحالي؟
4) الأمثلة الموضحة هنا لا تغطي بوضوح كل هدف الأداء بين الثقافي. فهي، على نحو ما قديمة، لأنها لم تعد تتطابق مع تطور المجتمع (على الأقل المجتمع الفرنسي أو الأوروبي). وذلك لأن الأداء بين الثقافي هو مفهوم ينشأ منذ الستينات، من يوتوبيا المزج الاجتماعي، والتهجين، والتطور الاجتماعي، والمشاركة فضلا عن السلب. وكثير من علماء الاجتماع والأنثربولوجيا مثل (أرجون أباديوراي) أو (مارك أوجيه) لم يعودوا يتحدثون الآن عن ثقافات في حالة اتصال، أو تبادل بين الثقافات، ويفضلون أن يستخدموا صفة «ثقافي» للإشارة إلى تقلب مفهوم الثقافة الثابتة. واليوم غالبا ما نجد مكونات ثقافية معلقة في الهواء، مكونات لم تعد تعتمد على تقاليد الأجداد أو على مكان وزمان حيث يتم الاحتفاظ بهذه الثقافات. وفي ضواحي فرنسا المحرومة وحتى في المدن، لا يكاد يوجد أي تمازج بين الثقافات، أو على المستوى الفنتازي لبضعة مسارح فرعية يمكن أن تجتذب السكان المهاجرين أو الفرنسيين من سلالة المهاجرين للمشاركة في ورش الكتابة أو في العروض الجماهيرية (مثل «ستينز «، و» جينفيرز»، ونانتير»). لذلك نصل إلى هذه المفارقة المحزنة: الدعوة لحوار الثقافات غالبا هو لاشيء مع أنه شعار ثابت وغير سياسي. والسؤال هو: هل يستطيع المسرح بين الثقافي أن يحول نفسه إلى مسرح لثقافات مدنية في ضواحي مدننا الفرنسية والأوروبية الأكبر؟.
5) مهما كانت الإجابة، وصلنا إلى طريق طويل من النزعة بين الثقافية الكلاسيكية في الثمانينات. ولم نعد نصدق في هوية ثقافية أصيلة، في ثقافة تنتمي إلى أمة واحدة أو شعب، والتي يمكن أن تتجسد بواسطة مفكر عضوي يمكن أن يتحدث باسمه. ويجب علينا أن نتصور انتماء قومي أو ثقافي بشكل مختلف، ويجب علينا أن نوضح استمرارية، وأسطورته ولغزه. باختصار، يجب علينا نروي هويتنا وثقافتنا ببعض الماء بعد الحداثي أو النسبي. ومجالات الشتات العام التي يتحدث عنها (أباديوراي)، بهوياتها العرقية والمتعددة، لم تعد تقوم على الهويات الثابتة، والانتماء المحدد، بل تقوم على مجموعات، وعلى إعادة تجميع الممارسات. لم نعد نأمل في تلاقي الثقافات. وفي أفضل الأحوال نعيد تجميع الجماعات. هذا الموقف الجديد يجد تطابقه في طريقة الميزانسين الذي يتم توظيفه في العشرين سنة الأخيرة. بالطبع، الميزانسين في هذا الفترة من الزمن، استجابة لهذه المواجهة الثقافية، هو فعلا مزيج ومجموعة من الممارسات لخشبة المسرح. فمثلا، النص الدرامي هو فعلا تناص يتم كتابته وأدائه لأجسام مادية، فكل إيماءة تقتبس إيماءات أخرى، والموسيقى بوتقة لأنواع أخرى من الموسيقى، فالأجسام مختلطة، وهجينة في مظهرها. ولذلك فان المسرح، سواء سمي بين ثقافي من عدمه، مصنوع من مواد مركبة. ولهذا السبب يحدث المزيج بين الثقافي تقريبا بشكل تلقائي. فكل عرض مسرحي هو عرض بين ثقافي، وهذا ما يجعل تحليله صعبا.
6) ماذا لو كان بين الثقافي هو ممارسة بين فنية interartistic، وشكلا من المجالات المتعددة، وعبور ومواجهة وإضافة للفنون والأساليب الفنية وصيغ التمثيل؟. خذ مثلا تكامل موسيقي الهيب هوب في الرقص المعاصر، خذ مثلا هذا التذويب لموسيقى الباروك والرقص الحديث وموسيقي الهيب هوب في أعمال تصميم الرقص عند (دومينيك هيرفي) و(خوسية مونتالفو): فهل هذه ثقافات؟. بالمعنى الاثنولوجي للمصطلح كلا بالتأكيد، ولكن بالتأكيد بمعنى الثقافة التي تنتهي إلى التكامل مع الثقافة الجماهيرية، الهامشية التهكمية. أو ربما هي العكس.
يتضمن تعدد المجالات نفسه مجالات مختلفة، تتكون هي نفسها من ثقافات أخرى وعدة مستويات ثقافية.
7) دعونا نراهن أن المسرح بين الثقافي، إذا أراد أن يعيش أو أن يستمر في الوجود، يجب أن يشفى من معني الفكاهة أو يكتشفها، ذلك أنه يجب أن يتعلم ألا يأخذ نفسه بجدية حتى يستطيع أن يضحك على نفسه وعلى محاكاته وفشله وأصوله، رغم أنه يمكن أن يكون مقدسا، انه في النهاية فن للمسرح.


ترجمة أحمد عبد الفتاح