النص والخشبة في مسرح ما بعد الدراما (1)

 النص والخشبة  في مسرح ما بعد الدراما  (1)

العدد 585 صدر بتاريخ 12نوفمبر2018

لم تكن العلاقة بين النص والممارسة الفنية في المسرح علاقة سهلة أبدا: النص ظاهرة أدبية ولا يزال كذلك، حتى لو كان دراما، والنص الملائم فعليا يختفي على خشبة المسرح. ومع استثناء بعض الصيغ للحصول على نص مكتوب على خشبة المسرح - بداية من كتابة مؤشرات مشهد وصولا إلى التقديم المتعدد الوسائط للنص في المسرح ذي التقنيات العالية – تختفي الدراما باعتبارها حقيقة لغوية وتفسح الطريق لشيء مختلف تماما: من أجل البعد اللغوي النظير، والأصوات والتراتيل والإيقاع وسرعة وبطء الكلام والمعلومات السمعية عن الجنس نوعه والإيماءات وتعبيرية لغة الجسم عموما. وحتى لو كان النص في ذاته لا بد أن يفهم في ضوء المباعدة Espacement، فإن التقديم على خشبة المسرح يخلق مع ذلك بعدا إضافيا لنشر وتشتيت وإلغاء المغزى النصي في مجال المواد غير المتجانسة والبنيات والعمليات التي تخلق بدورها معاني جديدة غير متوقعة إلى حد كبير. علاوة على ذلك: تأمل النص من منظور المسرح يجعله مادة، والأسوأ مادة من بين المواد الأخرى. وحتى لو ظلت الكلمات عنصرا مسرحيا قويا، فإن واقع الصفحة المكتوبة هو لقاعة الدرس، وليست للمسرح. فالأخير يتعامل مع المكان والإضاءة والأجسام والصوت والموسيقى بقدر ما يتعامل مع النص، وربما أكثر. علاوة على ذلك، يقدم الحدث الاجتماعي بدلا من فعل القراءة المنفردة. وتأمل خشبة المسرح من منظور النص، ربما لاعتبار ما يشبه الفائز الذي ينال كل شيء، ولكن هناك بالطبع جانب آخر للميدالية. الكلام يتلاشى والكتابة تبقى verba Volant، scripta manent: يتلاشى الأداء لحظيا وإلى الأبد بينما يستمر النص في الوجود أثرا بمنأى عن المسرح مثل الحجر الذي ألقي مؤقتا في الماء ويظل دون تغير ويجف بعد ذلك، بينما يموت الأداء المتلاشي.
ليست هذه رؤية جديدة أن العلاقة بين النص والمشهد نادرا ما كانت، في أي وقت، علاقة تناغم، بل كانت علاقة تصادم وصراع أبدي. وقد قال أحد أفضل النقاد الأوروبيين في الستينات والسبعينات وهو «برنارد دورت Bernard Dort» إن اتحاد النص وخشبة المسرح لن يحدث فعلا. وفي رأيه أن العلاقة ظلت دائما علاقة تعارض ومصالحة. ولم يكن هناك أحد أقل سطوة من (إدوارد جوردان كريج) الذي ادعى مبكرا في عام 1900 أنه من المستحيل عرض مسرحيات شكسبير؛ إذ قال: قد يدمر المسرح العمق الشعري لهذه النصوص. ويمكننا أن نجد مقولات مماثلة عند (بول كاوديل) أو (موريس مترلنيك)، وعند (ستانسلافسكي) و(ماكس رينهارت)، الذين لا يمكن أن نخطئهم بسبب عداوتهم لمسرح النص. وقد أقروا صراحة أن النص الفعلي قليل الفائدة في المسرح - فالمهم هو النص الفرعي Sub - text. وفي نفس الوقت، فإن ما لا ينبغي التغاضي عنه – مع كل شكوكها تجاه المسرح الأدبي – هو أن صناع مسرح الطليعة التاريخية نحو عام 1900 حاربوا أيضا ضد الطرق المتواضعة التي تعامل بها المسرح بشكل روتيني مع النص. ولعله كان مطلبا شرسا أن ممارسة الميزانسين التي كان يجب أن ترقى إلى الحقيقة والتعقيد الكامنة في النصوص العظيمة هي الموتيفة المركزية لمساعي صناع مسرح الطليعة. صحيح أنهم كانوا يستبعدون شكل التقديم التقليدي للدراما، وذهب بعض مؤيدي إعادة مسرحة المسرح بقدر ما يرغبون في حظر النص تماما (بأي فهم تقليدي للكلمة). ولكن المسرح الراديكالي المبتكر لم يكن محفزا من البداية بازدراء مبسط للنص فقط ولكن أيضا عن طريق أي محاولة لإنقاذه. وقد اهتم ظهور مسرح المخرجين Regietheater وما زال (في الحالات الجديرة بالمناقشة) بالنصوص المبتذلة بعيدا عن التقاليد المطلقة، وإنقاذها من المؤثرات المسرحية العشوائية وغير المضرة عموما.
وينبغي أن نتذكر الجوانب التاريخية في المناقشات العامة المتكررة دوريا حول إنقاذ النص من جرائم الإخراج غير المسئولة المزعومة. إذ تتعرض تقاليد النص المكتوب لخطر، من جانب التقاليد التي تحول النصوص إلى قطع متحفية، أكبر من أشكال التعامل الراديكالية مع النصوص. وبدون رغبة في الدخول بشكل أعمق في الجدال اللا نهائي على ما يبدو حول مصداقية النص textreue، فلا بد لنا أن نشير بشكل مختصر إلى بعض جوانب المشكلة. أولا: المسرح ليس أدبا، إنه ممارسة فنية فريدة ولا يمكنه – حتى إن أردنا ذلك – إلا أن يلغي أبعادا مهمة من النص المقدم على خشبة المسرح ويضيف إليه عناصر أخرى. ثانيا: السعي إلى المسرح المخلص للنص يتحول دائما إلى سعي المسرح الذي كان يستخدم منذ ثلاثين أو خمسين سنة مضت. ثالثا: يمكن إنجاز النص ولا يمكن إنجاز سياقه. ولأننا نفهم أن معنى النص ينشأ في علاقته ببيئاته وسياقاته، فمن الواضح أن معنى النص القديم يجب أن يكون مبتكرا بالضرورة، بطريقة أو بأخرى، بواسطة الممارسة المسرحية. إن محاولة تقديم عرض حقيقي لنص من عام 1806 في عام 2017 لن يؤدي إلا إلى عرض هزلي للدمى، أو عرض متحفي لمسرح سياحي، سوف يؤدي بالضرورة إلى تزييف النص الأصلي إلى أقصى الحدود.
  (2)
دعوني أحدد بعض جوانب مفهوم «“المسرح بعد الدرامي Postdramatic theater”، قبل أن أركز على وضع النص المتغير داخله. فغالبا ما يقال: يبدو أنه أصبح من الصعب بشكل متزايد أن تتلاقى الدراما والمجتمع معا. بالطبع لا يزال المسرح الدرامي موجودا، إنه مستمر في السيطرة على جماليات أغلب التقاليد المسرحية. ولكن ظهرت الكثير من اللغات المسرحية الجيدة – بداية من روبرت ويلسون وتادووش كانتور، ومن جان فابر إلى جان لوويرز، ومن فرقة “فورسيد إنترتاينمينت Forced Entertainment” إلى فرقة «ريميني بروتوكول Rimini Protokoll» ومن كريستوفر مارثيللر إلى رينيه بوليتش – إلى حد أننا لا نستطيع أن نتجنب الاعتراف بأن الباعث الدرامي والسرد الدرامي قد ضعفا في المسرح في المقابل، وتصدرت اهتمامات أخرى. واستمر السرد على هذا النحو، وطفت إلى السطح أشكالا جديدة منه. ولكن الدراما، باعتبارها البنية الأساسية للسرد، لم تعد تفهم باعتبارها المعيار الطبيعي والقاعدة في المسرح. وبتأمل البنية النصية لكثير من المسرح والأداء المعاصر (ناهيك بالمسرح بدون نص) فلا معنى للحفاظ على توسيع مفهوم الدراما لكي تكون قادرة على تأكيد استمرارية وضعها المركزي. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تفريغ مفهوم الدراما تماما دون اكتساب فهم أفضل لتطورات الممارسة المسرحية.
لقد تحددت المشكلة علي مستوى الأدب الدرامي. ويظل تحليل بيتر سوندي Peter Szondi لأزمة الدراما أساسيا في هذا السياق. ولكن علي مستوى الممارسة المسرحية (التي استبعدها سوندي صراحة من اعتباره) فلا يزال يتعين علينا تصور التطورات بطرق ملائمة. لأن المسرح باعتباره الشكل الفني الذي له سبب وجوده في قدرته علي إثارة إشكالية في فهمنا للواقع أو تجديده، فإنه يزعم بصدق أن نموذج الدراما لم يعد قادرا على فهم هذا الواقع. وإذا تأملنا مبدأ الشكل، إن الدراما تدور حول الصراع بين الأبطال والقرارات المتخذة في مجال الحوار. ولكن لا شك أن الصراعات والقرارات نادرا أن تكون الصراعات والقرارات الشخصية للأبطال. فهي قرارات وصراعات تنشأ من التوترات بين عراقيل قوة مجهولة، ومصالح اقتصادية، واستراتيجيات قومية وعالمية، والأسواق وتغيرات في موازين القوى، والانهيارات الفوضوية المفاجئة التي لا يتأثر بها الممثلون الأفراد في القوة السياسية أكثر من أنهم قد يتخيلونها. وعلى قدم المساواة مع الحياة الاجتماعية اليومية، اتخذت الصراعات شكل النثر في الحياة المدنية (هيجل: نثر الحياة البرجوازية). ولذلك في غياب أبطال ذوي مصداقية شخصية، يصبح من المشكوك فيه بشكل متزايد تقديم صراعات اجتماعية أو حتى فردية ذات صلة من خلال تصويرهم بشكل درامي. فهل لا يعد أسلوب استبدال الصراع الدرامي الذاتي بحقيقة مجالات هذه القوى الموضوعية والمجهولة تزييفا شديدا للعالم؟ فمؤلف مثل هاينر موللر Heiner Muller أقر بصراحة أنه من المستحيل عليه أن يكتب مسرحية درامية. وهو حالة مثيرة بشكل خاص: أولا بسبب ندرة معرفته التاريخية، والهدف الأدبي والألمعية الفكرية. ثانيا، لأنه أدرك في مسار أعماله تغيرا من نموذج الدراما الواقعية إلى الكتابة بعد الدرامية. وفي نفس الوقت، استطاع موللر أن يقرر أنه لا يعتقد إلا في شيء واحد، ألا وهو الصراع. ومن الواضح أن الأمر ليس غياب الصراعات العميقة مثل تلك التي تظهر الموقف الذي يصبح فيه النمط الدرامي مثيرا للإشكالية. فهناك صراع، ولكن يبدو أنه حتى أغلب الحقائق المتصارعة علي نحو ما تقاوم أن تكون شكلا درامي. وفي ظل هذه الظروف، لجأ الكثير من المؤلفين إلى تقديم مشاهد من الحياة الأسرية. إذ كان هناك سيل من الدراما الأسرية منذ التسعينات. ولكن هذا التراجع لم يقدم حلولا حقيقية. وبمجرد أن تلاقى المجال الخاص مع السياق الاجتماعي العام عادت المشكلة إلى الظهور. فمن الشائع أنه حتى لو كانت الحياة العادية قد مورست باعتبارها دراما أو قصة متماسكة بدرجة أقل، ولكنها مورست على الأغلب باعتبارها سلسلة من الشظايا المتكسرة والمراحل والحلقات، فسوف يكون التعبير عنها مبنيا بشكل جميل يفتقر إلى التجربة الفعلية، فإن ذلك سوف يخلق انطباعا بأن هذا قد يكون جميلا ولكن لا علاقة له بالكيفية التي أعيش بها حياتي.
فماذا يمكن أن تكون إجابة المسرح؟ وهنا تظهر مشكلة، لأن هناك بلا شك شيئا مثل الرغبة في الدراما. ولكن يبدو أن هذه الرغبة الآن تجد إنجازها في السينما والتلفزيون أكثر من المسرح. وقد طالعت أخيرا كتابا (ليس مهما في ذاته) يحمل عنوانا دالا هو «أرسطو في هوليوود Aristotle in Holywood». من الواضح أن وصفات صنع أفلام التسلية الناجحة توجد في داخل تقاليد التصنيف الأساسي للدراما كما حددها أرسطو للمرة الأولى. ولكن لا نطلب من أفلام التسلية التعبير عن الواقع بطرق صادقة. فهي تهدف إلى غايات أخرى – منطقية تماما - وهي التسلية: الإلهاء عن العالم اليومي الجاد والإثارة والعاطفة – المزيد من التعويض عن انعكاس الواقع. ولكن المسرح يعد ممارسة فنية يجب أن تجد الإجابات في مواجهة الانجراف بعيدا عن الشكل الدرامي والواقع الاجتماعي. ولذلك، نكتشف في ممارسة المسرح منذ ظهور ثقافة الوسائط تدرجا متنوعا بسخاء في الابتكارات المسرحية التي تكرر وتقتبس وتستمر أو تبعث الحياة في الطليعة الأقدم، وتقدم أيضا طرقا جديدة للانحراف عن مسار المسرح الدرامي الراسخ. ففكرة المسرح فيما وراء الدراما أو وراء الدراما باعتبارها تنظيما للبنية والنموذج قد تبدو غريبة من وجهة نظر الدراما الأدبية أو دراسات الدراما – فهي أقل بكثير من مفهوم دراسات المسرح. ويجب ألا ننسى أن ثقافات المسرح لن تطور النموذج الأوروبي للمسرح الدرامي مطلقا. وحتى في أوروبا فإن مدة حياتها قصيرة – إذا تبنينا منظورا ضيقا وحاولنا أن نعرّف فقط المسرح الدرامي الذي كان يهيمن عليه الأدب، فنحن لم نتعامل إلا مع أكثر ثلاثة قرون من المسرح الدرامي المهيمن. فبعد بداياته في سياق ثقافة عصر النهضة الاحتفالية، ازدهر في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وكان فعلا موضع سؤال في نهاية القرن التاسع عشر.
ويغطي مصطلح «المسرح بعد الدرامي» مجموعة كاملة من المقاربات الجمالية في ممارسة المسرح، ويقدم كتاب بنفس العنوان عددا من الصفات التحليلية والمفاهيم والتصنيفات لطبيعة المسرح المبتكر في العقود الثلاثة الأخيرة. والمصطلح ليس معنيا أن يكون مظلة مساعدة فقط، رغم ذلك، ولكنه معني بالإشارة إلى ترابط بعينه وقاسم مشترك. وليس بمعنى الحد الأدنى للقاسم المشترك، والقائمة المرجعية – فهذا ينبغي أن يمر دون أن يمر في ضوء التنوع الهائل في العمل المسرحي اليوم: من مسرح الصور إلى مسرح الأصوات، ومن البنيات الكورالية والمونولوجية وصولا إلى الأداء الممتد، ومن المسرح متعدد الوسائط إلى مسرح الهواة، ومن الأشكال الوثائقية الجديدة إلى المسرح الشعبي والمسرح كلعبة. فالوحدة، القاسم المشترك، ما كان يمكن أن يوجد إلا مع وقوعه داخل المشكلة المشتركة مع الخيال الدرامي بما هو كذلك، وهو الوعي الشديد بالحدود الداخلية والأساسية في التمثيل الدرامي، وهي حدود المسرح المتمركز حول مفهوم محاكاة الفعل Mimesis praxeon والذي يرتبط غالبا (وليس دائما) بهيمنة النص، والبنية النصية والترابط.
يتكون المسرح الدرامي من بناء وتكوين عالم الدراما الخيالي المنفصل، عالم الدراما – سواء كان عالم روترو، أو مارلو، أو شكسبير، أو راسين أو شيللر، أو إبسن. وينتج هذا الإجراء فرصا محددة ولكنه يفرض قيودا على الاتصال المسرحي التي تعتبر مسارات للمسرح بقدر ما هو في جوهره فن حي له إمكانية تضمين المتلقين في حدث أو موقف بدلا من جعلهم يتأملون عوالم خيالية مختلفة. وتتضاعف هذه الحدود من خلال حقيقة أن شكل الدراما يميل إلى خلق انطباع ظاهري أقل لدرجة أن الأحداث في هذا العالم تعتمد على القرارات وسيكولوجية العوامل الإنسانية المستقلة، بينما منذ نيتشه وماركس وفرويد تحولت مسألة المؤسسة إلى أكبر كثيرا من التعقيد. (كما هو الحال في المسرح اليوناني القديم وفي كثير من المسرحيات الكبيرة – ولكن مال شكل الدراما وتقاليد جماليات المسرح الدرامي إلى إخفاء رؤاهم العميقة داخل موضوع الحدث المثير للإشكالية بكل سهولة فيما وراء الشخصية الموحدة ومنطق الحدث الدرامي).
وإذا تأملنا بعض المفاهيم في المسرح بعد الدرامي، مثل سيطرة محور الفرجة والتأكيد على تشكيل الموقف والحدث بدلا من العمل، فمن الواضح أنه يمكن القول إن هذه الحقائق من المتلقين والمؤدين الذين يمرون معا بنفس النشاط في زمان ومكان واحد يمكن أن يدخلوا ضمن التعريف الدقيق للممارسة المسرحية في حد ذاتها. فالاجتماعي والاتصالي والجماعي هم جميعا جزء من المسرح. ولكن جرت العادة أن ينظر إليهم باعتبار أنهم ثانويون جماليا ونظريا. والآن قد تغير الموقف. ففي عالم تشكل فيه الوسائط فعالية الإدراك، والمواجهة، يصبح الموقف وحدث المسرح الاهتمام السائد لأن فيه هنا الصفات المميزة للفن الحي بأوسع المعاني – بالتناقض مع الحضور الضخم للأداءات الوسائطية من كل نوع – التي يمكن أن تظهر داخل المسرحية. لذلك، بينما تكون هذه الصور على نحو ما عناصر وأجزاء من كل مسرح، العصر ما بعد الدرامي، فإنها تكتسب معنى جديدا؛ إذ تفترض الملامح المتشابهة والمتطابقة وظيفة جديدة ومعنى مختلف تماما في سياقات مختلفة.
وربما نصور الظرف بعد الدرامي مثل الصورة المأخوذة بعد انفجار جرم سماوي ضخم – ألا وهو المسرح الدرامي. فصيغة أو نموذج هذا المسرح كانت إجمالا ثريا للعناصر، المرتبة بمختلف الطرق، ولكن بأولويات معينة، تكون بنية عامة. ويمكننا الآن اكتشاف العناصر الفردية والجزيئات المنفجرة، على مسافات مختلفة من مكان الانفجار. فهم الآن مستقلون ومنعزلون – إذ نرى هنا المكان كعنصر مسرحي، وهناك الصوت، وهنا الإيماءة، وهناك القصة، وهنا الدور، وهناك النطق.. إلخ – جميعهم منفصلون عن بعضهم البعض، وكل منهم موضوع اهتمام في ذاته ولكنهم يدخلون في تصميم جديد – في إشارة إلى جيل ديليوز Giles Deleuze. إنهم يشكلون علاقات جديدة وروابط، وبذلك يجعلون الجديد مقروءا باعتباره إعادة ترتيب للقديم. ونستطيع أن نخلص إلى أن التأكيد على أن المسرح بعد الدرامي موجود، إن جاز التعبير، من البداية، والتأكيد بأنه يحدد لحظة معينة في المسرح بعد/ فيما وراء الدراما أي منها بل يتعايش معهم.
يؤدي فهم تضمينات التوترات السابق ذكرها أو الثنائية بين المسرح والعرض إلى رؤية أن مفهوم المسرح الدرامي يمكن أن يكون مقروءا باعتباره تناقضا في الحيثية، فبمجرد إطلاق صراح استقلالية العملية المسرحية بميلها إلى الانفتاح، والحدث والموقف في مقابل البنية الدرامية بكل ميولها إلى الانغلاق والمنطق والنظام (حتى فيما يسمى أشكال الدراما المفتوحة النهاية)، فإن مصطلحات لعبة المسرح تتغير تماما. فمصطلح “ما بعد الدرامي” يشير بلا شك إلى مجموعة من نزوات وغرائب عدد من مخرجي المسرح. وبتشكيل رد فعل (تنويعة ثرية من ردود الفعل المتشعبة) تجاه مشكلة عامة، ومع التمثيل الدرامي، يجب ألا يُفهم المسرح بعد الدرامي كما يسميه هيجل “النفي المجرد للدراما” (مجرد رفض للدراما) بل باعتباره النفي المادي الذي بالعمل من خلال مشكلة الدراما ينتج ثروة جديدة من الإمكانيات المسرحية والأدائية، كل منها مادي وفريد في ذاته.
 (3)
إذا لم نتأمل فقط الحقائق الاجتماعية – التي كانت دائما، رغم ذلك، لب ومادة الدراما – بل أيضا طرقنا لصنع العالم عموما، فإننا نجد أن الفنانين يهتمون بشكل أقل بالسرد الدرامي لعالم له بداية ووسط ونهاية. ومع أن هذه كانت النقطة المركزية في التقاليد الأرسطية لتنظير الدراما: الترتيب والتأطير والبناء وإعطاء الشكل لعملية تدور من البداية إلى النهاية مع الوسط في الوسط. ويبدو ذلك أمرا بسيطا ولكنه رؤية مبتكرة داخل الخلفية الإبستمولوجية للتكوين الفني وبناء الجميل (لقد تحدى النقاد جان لوك جودار لدرجة أنه اعترف أن الفيلم يجب أن تكون له بداية ووسط ونهاية. وأجابهم بأنه يوافق – ولكنه استمر يقول “ليس بهذا التسلسل بالضرورة”). ومؤلفون مثل فرانك كيرمود ومن بعده بول ريكور قد أوضحوا بشكل مقنع أن هذه البنية الأرسطية ترتبط بشكل حميم بنموذج الزمن الذي ينشأ ويتعزز من خلال علم اللاهوت المسيحي الذي يضع كل الأحداث بين بداية (نشأة العالم) ونهاية (نهاية العالم). لن يخلو أحد منا من الانبهار بما تمارسه رؤية النهاية المروعة (التي تحب أن تقدمها السينما الآن) – وهو دليل كافٍ لاستمرار تأثير هذا النموذج للزمن. فمن المحتمل جدا أن بنية هذا الزمن التوراتي غذت وما زالت تغذي النموذج الأرسطي بطاقة متجددة دائما – الزمن الدرامي بنوع من نقطة البداية صفر، ونقطة تحول (Metabole، Peripeteia) والكارثة، صعودا وهبوطا للفشل والنجاح. وتثير هذه الملاحظة بوضوح السؤال المهم الذي جعل المفاهيم الثقافية والفنية في الحضارات الأخرى لا تطور التقاليد الأوروبية للمسرح الدرامي. ومن المغري أن نقترح فرضية أن مفهوما غائيا بعينه للزمن ومفهوما معينا للذات الإنسانية قد يرتبط كل منهما بالآخر بشكل محكم، ويخلقان باتحادهما بنية الدراما. وقد يكون تراجع هذا الأخير تعبيرا عن تراجع مفهوم الذات والذاتية.
ولكن حتى لو قصرنا مجال البحث على المنهج الظاهراتي للواقع المعيش، فسوف نجد أنفسنا دائما – في المنتصف. فنحن نلاحظ، حتى في مواقف التحول الدرامي، أن المستقبل كان فعلا حاضرا في الماضي، وأن الماضي قد أشار فعلا إلى المستقبل. بمعنى آخر: مفهوم البداية والنهاية هو بناء، فالشكل الدرامي لا يعكس بنيات الواقع بل يفرض نموذجا وإطارا بعينه. فنحن دائما نعايش انتقالات فضلا عن بدايات أو نهايات متطرفة، التي تنشأ في نموذج التأطير الأرسطي، رغم ذلك، المحاكاة من سير الحياة. فالدراما هي مسلمة ومفهوم يؤكد حتمية منطق معين في التمثيل، وبالتالي تأهيل مفهوم التمثيل باعتباره تكرارا أو محاكاة بطريقة حاسمة. فالتمثيل هو قدر من البناء والتكاثر. ويحقق إطار الدراما رغبة معينة في التخيل، ورغبة أساسية في النظام والبناء والنموذج. ومتعة العثور على هذه الرغبة مريحة، ومعها متعة البصيرة، والفهم والمحاكاة عند أرسطو، بررت جمال الشكل الدرامي كترتيب منطقي مناظر (يتضمن ويقترح) الترتيب والانسجام ومفهوم العالم كوحدة كلية. والحل العلمي لتصنيفات النظام هذه فيما بعد الحداثة قد أظهر وعيا لم تعد تظهر فيه الدراما مقنعة – حتى لو أشبعت رغبة خيالنا في هيكلة وبناء عالم موحد، حتى لو كانت تلح على وعينا باتساع الحياة الفردية مع البداية/ الميلاد، والوسط، والنهاية/ الموت، الذين بشكل ما يكون لهم صدى الشبح الإيهامي الذي يقدمه التركيب الدرامي.
 (4)
وعلى مستوى آخر رغم ذلك، يمكن أن نقرر أن الدراما تصبح بشكل متباين ليس فقط غير مقنعة، بل يمكننا أن نقول في نفس الوقت بشكل مستفيض: مبالغ فيها. يبدو أن تحليل الإدراك البشري يوضح أن الجهاز الحسي يبني الزمن تلقائيا الطريقة التي يخلق بها صورة كلية. فنحن بشمل تلقائي نجعل دقات الساعة المستمرة درامية بنفس الطريقة التي نسمع بها الدقات الشهيرة (تيك توك) – وهذا يعني: أن الدراما المصغرة تكتمل مع بداية (الدقة الأولى) ووسط (وقفة) ونهاية (الدقة الثانية). فالجهاز الإدراكي يبني دراما صغيرة، ونمط في تتابع الأصوات الذي يبدو بلا شكل. فالدقات (بالتأكيد غير واضحة نوعا ما) نشأة، ووسط، ونهاية (نهاية متواضعة) = الدراما. وقد استعرت هذا المثال من فرانك كيرمود. فهو يصور بشكل جميل المسألة: لماذا يجب على المسرح أن يزعج نفسه ويبني أنساقا جمالية ضخمة للمنطق الدرامي تتضمن مقولات عن نظام العالم الذي لم يعد قابلا للتصديق، إذا كان يمكننا أن نشبع حاجتنا الدرامية بالفعل في أصغر الوحدات مثل الخطوات والتتابعات الصوتية والحركات وتسلسل الإيماءات والضوضاء؟ والحقيقة هي أننا يمكن أن نتعامل مع كمية كبيرة من الفوضى العادية والفوضوية السياسية والتفكيك والكولاج والمونتاج الذين نجدهم في المسرح بعد الدرامي المعاصر – فلا تزال حواسنا تجد إشباع حاجتها في النظام والنموذج.
 (5)
ولكن كيف يمكننا أن نفهم بدقة أكثر دور النص داخل ممارسة المسرح بعد الدرامي؟ يتمتع التعارض بين مسرح الطليعة والمسرح المبني على النص بشهرة معينة، ولكنها شهرة زائفة. فتعارض الشفهي/ اللاشفهي ليس هو الأمر الحاسم. فقد يعرض الرقص الخالي من الكلمات بنية أرسطية فوق تعليمية، والكلمة ذات المغزى يمكن أن تكون رقصة مبهجة في لغة الإيماءات. في المسرح بعد الدرامي عموما، فإن التنفس والإيقاع والحقيقة المبهمة وتكثيف الحضور وحضور الجسم الداخلي لهم الأسبقية على الفكر، تزعج وتقاطع كل دلالة قد يتم تقديمها بواسطة معنى النص، والنظام الدرامي وبنية المشهد. فما يظهر في المسرح الجديد – بطريقة مماثلة للغة الشاعرية الجديدة – هو محاولة في اتجاه استعادة التناغم Chora. وأشير هنا إلى مفردة جوليا كريستيفا، التي تفسر مفهوم التناغم عند أفلاطون باعتباره مساحة وخطابا بدون غاية، وتسلسلا وسببية، ومعنى ووحدة ثابتة، والدلالي. وبهذا المعنى يميل المسرح الدرامي إلى شيء مثل رسم التناغم chora - graphie. إذ يخلق فقدان المعنى المركزي مجالا، ونشرا لصيغ المعنى الممكنة التي تضع في الأمام الإنتاجية الفعالة للمشاهدين، وكذلك تؤكد مرة أخرى موقف الحدث المسرحي. ورغم ذلك من الواضح أن غاية التفكيك هذه يمكن أن تنشأ ببساطة من التدمير الذاتي إذا تم الوصول إليه تماما. فما نجده يمكن أن يتحدد بالأحرى كحركات تفكيك ومقاطعة فضلا عن نفي المعنى. وفي دراسة حديثة تحدث باتريك بريمافيسي Patrick Primavesi عن المسرح بعد الدرامي باعتباره «مسرح في حالة اغترابه الذاتي المثمر». وتطبق هذه الصيغة أيضا على حضور النص المكتوب في داخله. وقد يكون لدى البعض انطباعا بأن النص قليل القيمة ولكن المسألة ليست بهذه البساطة. فمن ناحية، صحيح أن تسلسل المسرح الدرامي – حيث كان النص في أعلى مكان وكل ما تبقى من المسرح هو في خدمة النص والمعنى والإحساس – قد تم محوه. ووسيلة محو التسلسل الهرمي هي مبدأ عام في المسرح بعد الدرامي، وأصبح النص عنصر من بين العناصر. ورغم ذلك، في نفس الوقت، يمكن اكتشاف أبعاد معينة من النص وإظهارها في المسرحية بهدم تسلسل الدوال القديم التي مالت إلى جعل الأبعاد الشعرية واللغوية في النص غير ذات الأهمية واختزل كل الكلمات في كثير من الأحيان إلى تعبير، ووسيلة تعبيرية لخلق دور، ونقل حالة مزاجية أو فكرة لشخصية. وغالبا ما ننسى أن كثيرا من المسرح الدرامي الذي يبدو على السطح أكثر مصداقية للنص من الممارسة بعد الدرامية، النص بما هو كذلك – إذا نظرنا إلى المسألة عن قرب – يتم محوه تماما: يتم تحويله إلى لا شيء أكثر من مجرد دور نصي، وسيلة لخلق شخصية فقط، وليس غاية في ذاته. بينما في نفس الوقت، الممثل باعتباره الشخص الحقيقي، الذي يتلاشى ويختفي بواسطة أساليب الممثلين المدروسة لتجسيد الشخصية الخيالية.
ولأن هناك صراعا بنيويا بين النص وخشبة المسرح، فإن هذا التوتر، على هذا النحو، يمكن أن يصبح مبدأ مقصودا بشكل واع للتقديم على خشبة المسرح. فأعمال المخرج لوران شيتوان Laurent Chetouane مع ممثليه بطريقة تشجعهم على ترك كل ما يمكنهم من حماية مهنية وخدع وعادات تسمح لهم بالاختفاء وراء قناع الدور على خشبة المسرح ووراء قناع كفاءتهم كممثلين. ففي أعمال مثل “الربيع Lenz” و”إيفيجينيا Iphigeneia” و”القبلة والحب Kabale und liebe” وأيضا في سلسلة من العروض المثيرة للإعجاب، فإن ما يحدث هو كالتالي: لا يختفي النص الشعري وراء الدور الدرامي، بل يكون حاضرا، ملموسا، قريبا من تقديم واقعه الأدبي. فالنص يظل مستقلا فيما يعلق بالممثل، وهذا الأخير قادر على جعل النص يحدث، ويتنازل عن دور الممثل السيادي الذي يستخدم الكلمات. فهو بدلا من ذلك يفسح مكانا للنص. وتظل الفجوة بين النص والمسرح، التي يحاول الأسلوب الدرامي أن يغلقها، مفتوحة. بالقدر الكافي، خلقت الفجوة التي مورست بين النص والممثل مسرحانية متزايدة. ففي أعمال «شيتوان» بصبح الحضور المشترك الفعلي للممثل والمشاهد علاوة على الصراع بين النص والأداء الحي هو مركز تجربة المسرح. وبكسر وحدة المؤدي المتكلم والنص تتحرر ممارسة المسرح هذه من إطار التقديم الدرامي المغلق. وتفتح تفاعلا ذا مخاطرة بين الممثل الحقيقي والمشاهد، وتؤكد بطريقة مكثفة (بعد درامية) المواجهة المتضمنة في موقف المسرح. وبدلا من الانغلاق النسبي لعملية خشبة المسرح ومعنى النص، ينفتح الموقف المسرحي ويخلق الفرصة لإنشاء اتصال مباشر بين خشبة المسرح والجمهور، موسط بحضور النص. والأخير يوضع في الواقع في وضع اغتراب مثمر من الوظيفة المسرحية العادية: كخادم للدور والممثل. ومن الواضح أن المسرح بهذه الطريقة يقارب مجال الأداء. وأحد الصور الأساسية لهذا النوع من العمل هو أن الممثل الذي يتواصل وينقل عاطفيا ضعفه وفشله وخوفه وكل الحرج الذي يعرفه واضحا للمتلقين. وفي عملية مثل هذا النقل يكون مغزى النص بشكل متطرف، مسرحيا، مرجئا متحولا ومعدلا. فالمسرح يقاطع بشكل واع إطار السرد أو يفتحه، ويحيل التمثيل إلى مكانة ثانوية بينما يركز على الحقيقة المسرحية الأساسية للموقف حيث يزاح الحوار بقدر ما يحدث بين المشاهدين وخشبة المسرح أكثر من حدوثه بين الشخصيات الخيالية.
الاتجاه العام هو مبدأ التوضيح؛ إذ نجد أن المسرح بعد الدرامي لا يُطبق فقط على الجسم والإيماءة والصوت، بل إنه أيضا يستولى على مادة اللغة ويهاجم وظيفة التمثيل فيها. وبدلا من التمثيل اللغوي للحقائق والمعاني، نجد ميلا ووضعا للنغمات والكلمات والجمل والأصوات التي لا يتحكم فيها المعنى، بل تعرض كمادة مفتوحة لاحتمالات الفهم المتنوعة.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
 هانز - ثيز ليمان يعمل أستاذا للدراسات المسرحية بجامعة فرانكفورت منذ عام 1988. ومن أهم كتبه «المسرح بعد الدرامي The post dramatic theater» عام 2006.
 وهذه الدراسة هي الفصل الأول من كتاب “الدراما وما بعد بعد الحداثة Drama and post Postmodernism” الذي صدر عام 2006 عن جامعة فرانكفورت – ألمانيا.


ترجمة أحمد عبد الفتاح