العدد 583 صدر بتاريخ 29أكتوبر2018
يبدو أن هذا زمن التسويق للنهايات بامتياز، يذكر بكتاب هام لعلي حرب بعنوان “حديث النهايات” كنت اطلعتُ عليه قبل سنوات، النهايات، أو المابعديات، التي ارتحلت إلى كل مجال وفي كل مكان بما فيها الفنون، انطلاقا من أنّ الانفجار العولمي، وموجة ما بعد الحداثة قد قررت أن تأتيَ على كل الفنون فتمارس عليها سطوتها من حيث “إبداع” طرائق جديدة و التعبير المسرحي من ضمنها وصلت الى القول ليس فقط بالتحولات في الفرجة بل تحولات “الماهية” ذاتها في عالم اليوم بل ويصل بعض التهور عند البعض المتسرعين بالقول بوجود “قطيعة” بين مسرح يوصف بالتقليدي وآخر يعبر عن الانسان الما بعد حداثي !! إنها التسمية الاعتباطية التي تعتورها الكثير من الهشاشة ما يسميه البعض بـ“مسرح ما بعد الدراما”
لاشك أنّ المسرح قد وجد لنفسه تفاعلا مهما مع الفنون المتنوعة، فن الأداء الذي يناقشه باستفاضة كتاب هام بالعنوان ذاته لمارفن كارلسون، واستخدامات الجسد مثل عروض تيم ميلر وليندا بيرنهام في “ساحة الطرق السريعة” التي قال عنها كارلسون نفسه أنها “أحد أفضل الأماكن لاستعراض ساحة الأداء المعاصر” بل و”عمل أدائي مثير ومبدع في الخيال في الولايات المتحدة”، تنويعات الإضاءة وإبهارها، الموسيقى والعالم شديد الزخم الذي يمكن أن تمارسه المقدرة الفنية للفنان الموسيقى بمن خلال الأصوات البشرية وألحان الآلات، والإفادة الكبيرة من السينما التي قفزت قفزات نوعية في استخدامها للتقنيات الواسعة، والوسائل الرقمية أو الميديائية، إلى وصلنا إلى بعض العروض التي أوقفت كل عملها على الإبهار الشكلي، من صور وموسيقى وإضاءة، بينما تمّت تنحية النص تماما، وحاول صنّاعها أن يرافعوا لـ“جمهور جديد” ) يعوّض (الجمهور الذي أصبحنا كثيرا ما نجد من هؤلاء من يصفه بـ“التقليدية”.
صحيح أنّ المسرح مع وجود الرهانات الكبيرة التي تحاول أن تحجّم وجوده في حياة الناس خاصة مع السنوات الأخيرة، هو مطالب بتجديد دمائه والبحث عن الممكنات الفنية التي تجعله بثبت وجوده ويستمر في الانبعاث الدائم، وهذا مبدأ أصيل في كل فن وعند كل فنان، فكيف بمجمع الفنون وربّها؟ وهذا نجده في بعض العروض الأوروبية مثل بعض أعمال المخرج البولندي “ليزك مونجيك” والتقنيات العالية التي يستخدمها بإبهار،إلاّ أن الفرق يجب أن يكون واضحا بين الحلم والكابوس، وبين التجريب والتخريب، إذ أنّ المشكلة الواضحة في هذا النوع من التوجه أنّ من ينساق إليه في عالمنا العربي هم من “المسرحيين الأضعف موهبة بحيث يهرعون وراء العبث بالأشكال أو الاستغناء عن النص والإسراف فيما يسمى بلغة الجسد” كما ينبه بعض النقاد وباستيراد العروض الأوروبية وتقليدها بحَـرْفية لا الإفادة منها بحِرَفية. صحيح أن فنانا تونسيا معروفا مثل “توفيق الجبالي” له قيمته، لكن ما معنى عرض “المجنون” الذي قدمه قبل فترة والذي يفتقد ببؤس إلى أبسط شروط البناء المسرحي بحيث أنه يدور في منطقة واحدة لا يتحرك من ألف إلى باء وينتهي كما يبدأ على الرغم من أنه يزعم الاتكاء على واحد من نصوص جبران الذي يحمل العنوان نفسه.
إنه هذا النوع من التجارب، الذي يفرغ المسرح من محتواه الذي تتحقق فيه الشمولية أو الوحدة بين عناصر المشمون وبين طرائق التعبير عنها في الخشبة يستعيض عن هذا بتقديم صور وأشكال متشظية متذبذبة لا يربطها رابط فكري أو جمالي، وإن كان البعض يقول أنّ ما بعد الحداثة هي في ذاتها فلسفة للتفكيك والتشظي وانفجار الأشكال التقليدية أو “موتها” وتحولها الراديكالي، فإنّ في المسرح يتحول الأمر إلى “عبثية” بالطبع لن تسيء إلى المسرح أو تقوّض مشروعه أو تخاطر بوجوده، ولكن أعمال مثل فقاعات الصابون التي قد يرضيك منظرها، لكن سرعان ما تنسى ويزول تأثيرها بمجرد خروجك من قاعة العرض. إنها عروض على غير ما يحاول البعض أن يدعي بأنها تحتاج إلى “متلقٍ ذكي مزود بترسانة من المفاهيم والآليات للفهم” تتهرب من الاعتراف بالفقر في الأفكار الخلاقة، ومناقشة الأسئلة الوجودية الكبرى للإنسان إلى شكلانيات يبدو أنها هدف عند هؤلاء في حد ذاتها بدل أن تكون وسيلة لمضامين وقيم يمكن الإفادة منها.