العدد 574 صدر بتاريخ 27أغسطس2018
يعد محمود دياب (1932 - 1983) واحدا من رواد المسرح المصري والعربي في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ورغم إبداعه منذ بداية رحلته الفنية والأدبية كقاص من خلال مجموعة قصصية قصيرة باسم «خطاب من قبلي»، ورواية قصيرة هي «الظلال في الجانب الآخر»، وما تأكد معها من إمكانات فنية وموهبة كانت تؤهله لأن يحتل مكانة متميزة كروائي في السنوات التالية، فإنه احتل هذه المكانة في المسرح منذ ذلك الوقت وحتى الآن مؤكدًا على كتابته الفريدة.
في أواخر الخمسينات ومع مطلع الستينات من القرن العشرين يبدأ محمود دياب رحلة الكتابة، تلك الفترة التي تزخر بالأحداث السياسية لمجتمع يعيش نتائج ثورة يوليو التي قامت قبل سنوات قليلة، وعلى المستوى الفني والفكري تشهد مصر حركة فنية وثقافية كبيرة، فعلى سبيل المثال يظهر الاتجاه الواقعي في المسرح، الذي تبلور من خلال مسرحيات نعمان عاشور الذي يعد رائدًا من رواد المسرح الواقعي الاشتراكي، مقتربًا من المتلقي وقضاياه في مجتمع ما بعد ثورة يوليو، كما ظهر خلال مسرحيات غيره من كتاب المسرح مثل سعد الدين وهبة، وفي هذا الاتجاه ظهرت الأعمال المسرحية زاخرة بالشخصيات التي يستخدمها الكاتب كرمز صريح لطبقة بعينها أو للوطن بشكل عام، ونلحظ ذلك في مسرحية «الناس اللي تحت» لنعمان عاشور التي عبر من خلالها عن أفول نجم طبقة وصعود أخرى في مجتمع ما بعد الثورة، وكتابات سعد الدين وهبة الذي ذهب بمسرحه إلى القرية لمناقشة قضايا أبنائها كما اتضح في «كوبري الناموس» و«كفر البطيخ»، كما ظهرت آثار الفكر الغربي في كتابات البعض على مستوى تكنيك الكتابة ورسم الشخصيات كما في مسرحيات ميخائيل رومان مثلاً، الأمر الذي ظهرت معه على الجانب المقابل دعوات التأصيل لمسرح مصري وعربي من خلال بعض الكتاب والمفكرين على نحو ما قام به يوسف إدريس عام 1964، وكذلك دعوة توفيق الحكيم خلال دراسته المعنونة باسم قالبنا المسرحي عام 1967.
في خضم هذه الاتجاهات يخرج محمود دياب بنصوص مسرحية ذات طابع خاص، وإن كان يتم تصنيف كتابته بأنها تنتمي للاتجاه الواقعي فإنه يتحرر من الأزمة التي أصابت هذا الاتجاه على حد تعبير رجاء النقاش في تقديمه لنص «الزوبعة»، فلا يبقى دياب أسيرًا لرمزية الشخصية التي تسم الكتابات المنتمية لهذا الاتجاه، فعلى سبيل المثال نجده عبر بدقة عن القرية والعلاقات القائمة بين أفرادها، وفي الوقت ذاته يتخطى حدود القرية وقضاياها وصولاً لقيم وعلاقات إنسانية، ومن ثم استطاع تجسيد عالم القرية تجسيدًا فنيًا ونفسيًا دون الانحصار في إطار الرمز، وفي تكنيك الكتابة نجده اعتمد في أكثر من مسرحية على شكل السامر الشعبي، محققا بذلك خطوة بارزة في دعوة تأصيل لمسرح مصري وعربي، تلك الدعوة التي نادي بها إدريس ولم تتحقق بشكل جلي في كتاباته المسرحية، بينما كثيرًا ما ظهرت في مسرحيات محمود دياب.
المركز والأطراف
لعل العلاقة بين المركز والأطراف من أبرز العلاقات التي ظهرت في مسرحيات محمود دياب، والتي يتخذها منطلقًا لعرض شتى الإشكاليات طارحًا للكثير من التساؤلات، فكثيرًا ما يتكرر تجسيده للقرية التي تبعد عن المدينة وتعاني بشكل أو بآخر من العزلة عن العالم الخارجي وما يترتب على ذلك من فساد وجهل وتخلف، وفي داخل القرية ليست لدى أبنائها الرغبة في السعي لمعرفة هذا الخارج بل إن الجموع تتجاهل للرأي المستنير إن وُجد، أو أن الآراء الممثلة لهذا الرأي تعزل ذاتها متعالية عن الجموع، ففي مسرحية «الزوبعة» والتي كتبت عام 1966، يعرض الكاتب منذ البداية الحال التي عليها هذه القرية وأبنائها منذ القدم، وبالتحديد يتم تأكيد الظلم الواقع على إحدى الأسر التي يُتهم عائلها ظلما بارتكاب جريمة لم يرتكبها ويُحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عامًا نظرًا لوجود شاهدي الزور وحالة الصمت المخيمة على الجموع التي تبدو ساكنة، والأمر لم يكن حديث العهد من ظلم أهل القرية لعائل هذه الأسرة «حسين أبو شامة» بل إنه سبق وظُلم الجد أيضا وسط التجاهل والصمت التام من الجميع.
مع انتشار نبأ خروج «حسين أبو شامة» من سجنه وعودته للقرية من خلال الشقيقان الثرثاران سرعان ما يدب الرعب في نفوس الجميع، وخصوصا مع استعادة أحدهم توعد الأول بأنه سوف يقوم بالانتقام من الجميع بأن يقتل عدد من أفراد القرية يوازي عدد السنوات التي قضاها ظلمًا في السجن، هذا النبأ الذي يثير الخوف لدى الجميع بداية من مرتكبي الجريمة الحقيقيين وصولاً لمن شاركوهم بالصمت، من هنا فإن شائعة عودة أبو شامة، والذي لم يستطرد الكاتب ويتوسع في الحديث عنه مكتفيًا بظلال حضوره على الحدث رغم الغياب المادي، إنما هي شائعة تمثل حافز عمل على تحريك الوسط الساكن للكشف عن المنظومة الهشة التي تقوم عليها العلاقات داخل القرية، وعملت على إزاحة الستار عن مفاسدها، فصالح الابن الذي يعاني من نبذ أبناء القرية له ولا يرعاه سوى «الشيخ يونس»، والذي رغم ما يكنه له أبناء القرية من تقدير إلا أنه لا يظهر مؤثرًا على مواقفهم، بل يبدو ضريرًا على المستوى الجسدي وعاجزًا عن الفعل، وحتى الاحتفال الذي يُقام لأحد أثرياء القرية «الحاج شعلان» الحريص على المظاهر الدينية والعائد لتوه من أرض الحجاز، ذلك الاحتفال الذي يتجمع فيه أهل القرية سرعان ما يتأكد أنه قام بالاستيلاء على أرض صالح، مع انتشار النبأ سرعان ما يتغير موقف الجميع تجاه أسرة أبو شامة، وبالطبع ليس نتيجة للاعتراف بالخطأ بقدر ما هو خوفًا من العقاب عند عودته، والأمر يصل لذروته عند اعتراف أحد مرتكبي الجريمة الفعليين «حسن الأعرج» أمام الجميع بالمشاركة مع آخر من أعيان القرية هو «خليل أبو عمر» مؤكدًا على براءة «أبو شامة» أمامهم، الأمر الذي يتسبب في مقتله دون الكشف الصريح عن هوية القاتل، ومن هنا يزداد الشعور بالخوف لدى الجميع والتي ينتج عنها محاولة استرضاء الابن «صالح» الذي كان ينبذه الجميع ويسلبون حقوقه المادية والمعنوية، ورد ما سلبوه من حقوق، وعلى الرغم من التأكيد على أن أبو شامة لن يأتي لأنه قد توفى منذ سنوات راضيًا رغم ما تعرض له من ظلم ولم يكن ينوي أي انتقام، إلا أن شائعة عودته قد أزاحت الستار عن طبيعة العلاقات بين أهل القرية الذين اعتادوا فعل الظلم بالقيام به أو بغض الطرف عنه، ولم تعد الشخصيات كما كانت مع بداية الحدث، وذلك عقب تلك الزوبعة التي يصفها فاروق عبد القادر في كتابه «ازدهار وسقوط المسرح المصري» بأنها عصفت بهذه القرية الصغيرة وقوضت أمنها الزائف القائم على الاغتصاب والجريمة وشهادة الزور وتملق من يملكون في مقابل ازدراء من لا يملكون، ومن الجدير بالذكر تأثر محمود دياب هنا بمسرحية «المفتش» للروسي نيقولاي جوجول (1809 - 1852) التي كتبها عام 1835، وخلالها ينطلق الحدث مع نبأ وصول المفتش لإحدى المدن الصغيرة، ومع هذا النبأ الذي ينقله الثرثاران المتلازمان، وبأسلوب كوميدي يكشف الكاتب عن منظومة الفساد العامة التي تحكم العلاقات ومؤسسات المدينة بداية من حاكمها وصولاً لأفراد شعبها، وحتى من يظنه الجميع هو المفتش لا يخلو من فساد، حيث يقوم وخادمه باستغلال الجميع، إلا أن جوجول ينهي مسرحيته بنبأ وصول المفتش الحقيقي، الأمر الذي معه يتوقع المتلقي ما سوف تواجهه هذه المنظومة الفاسدة التي تمت تعريتها مع المفتش المزعوم.
وفي مسرحية «ليالي الحصاد» التي كتبها محمود دياب عام 1968 يدور الحدث أيضا في إحدى القرى المنعزلة في ليلة سمر من ليالي الحصاد، ومن خلال تكنيك المسرح داخل المسرح يقوم الكاتب بالتعريف بالشخصيات، فأهل القرية هنا لا يقومون بتجسيد لعبة خارجهم، بل إنهم يجسدون واقعهم ويقومون بتقليد بعضهم البعض في مرآة ذواتهم، ففي بداية لعبة التشخيص يقوم أحدهم بأداء ساخر للشيخ حجازي حين تمت سرقة حمارته، الأمر الذي يثير حفيظته ويوشك على مغادرتهم، ثم يقوم الممثل بتعريف المتلقي مباشرة بشخصية «البكري» المرفوض من أهل القرية وهو يرفضهم أيضًا، كما أنهم يرفضون «صنيورة» ابنته بالتبني التي كان قد وجدها في لفافة بجوار أحد القبور، والتي أصبحت شابة يشتهيها ويرفضها في ذات الوقت رجال القرية، وتكن لها نساء القرية الحقد لما تمتلكه من جمال يأسر شيوخ القرية وشبابها الذين يتجمعون بالقرب من مسكنها أو يقومون بمحاولات التودد لها، ونظرًا لتكرار هذا الفعل يشارك أحدهم وهو «علي الكتف» وهو من عاشقي «صنيورة» وكان قد تقدم للزواج منها ولكن البكري يرفض جميع خطابها، فيقوم الكتف بتقليد البكري وهو يعنف من يجلسون بجوار مسكنه خوفًا على ابنته بالتبني، وعلى الرغم من رفض أهل القرية للبكري وصنيورة ورؤيتهم بأنهما سببًا لجميع الشرور في القرية إلا أنهم لا يستطيعون الخلاص من البكري لأنه يقوم باستشفاء الماشية عن طريق الكي بالنار، بل إنهم يلجأون إليه لاستشفائهم أحيانا، مع تكشف ملامح الشخصيات يقوم الكاتب بإدانة الجميع، فهذه القرية تنعزل عن العالم الخارجي بفعل أحد أبناء القرية ذاتها وهو «بكري» الذي قام بكسر «المعدية» التي كانت تصل القرية بقرية «العالية» المجاورة حتى لا يتمكن حبيب صنيورة من الوصول إليها، وذلك ما يؤكده البكري ذاته أثناء اللعبة التمثيلية الداخلية، الأمر الذي حال دون وصول الشيخ نور الدين إمام المسجد إلى القرية ليؤم المصلين، وهو ذاته يرفض أن يسلك طريقًا أخرى قد تستغرق منه بعض الوقت للوصول إلى القرية، رغم معرفته أنه ليس من أبناء القرية من يصلح كإمام للمصلين، وما يكسر عزلة هذه القرية نجده يتمثل في قصاصات الجرائد التي يمسك بها البكري وهو ذاته لا يستطيع قراءتها، وهذه القصاصات الورقية لا تحمل سوى صورة شائهة من أنباء عن حوادث أو جرائم، وفي الوقت الذي تُستخدم فيه اللعبة التشخيصية في التعريف بالقرية وأهلها يتم أيضا من خلال اللعبة الداخلية حين يجسد البكري دور القاضي وحين يواجه بالاتهامات من أهل القرية فإنه يؤكد على ان صنيورة تستحق الموت، وهنا يتحرك «علي الكتف» من مستوى اللعبة الداخلية لتحقيق هذا الحكم في لعبة التمثيل الخارجية حيث واقع القرية، إلا أنه في واقع الأمر لم يقم إلا بقتل «بهية» الفتاة البريئة التي لم تكن سببًا في أي من شرور وآفات القرية التي ظهر جميع أفرادها في موقف الإدانة.
أما مسرحية «رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام» التي كُتبت عام 1974 في أعقاب حرب أكتوبر، خلالها يتعرض محمود دياب للعلاقة بين المركز والأطراف من خلال القرية التي نتعرف عليها منذ البداية، ونتعرف أيضا على مجتمع المدينة بسلبيات كل منها، ففي البداية نتعرف على قرية تميرة إحدى قرى مصر التي تبعد عن المدينة وشبه منعزلة عنها، فلا يقف عندها القطار بل إن حافلة الأقاليم قد تتوقف أمام القرية للحظات، وعلى الرغم من عزلة هذه القرية الصغيرة عن المدينة إلا أنه هناك خمسة من أبنائها مجندون، عند عودة أحدهم وهو «فكري أبو إسماعيل» لقضاء إجازته، فسرعان ما يظهر الصراع بينه وبين عمه «دسوقي» الذي يطمع في الاستيلاء على فدان الأرض الخاص بفكري وأخيه ووالدتهما، بدعوى أن أخاه قد باعه له قبل وفاته بشهادة اثنين من رجال دسوقي اللذين يتأكد زيفهما خلال حوار والدة فكري، وعلى الرغم من معرفة أهل القرية لشراهة العم إلا أن أحدًا لا يتخذ موقفًا فاعلاً لرده عن جوره، بل إنه خلال حوارهم يذكر «أبو عارف» الذي يمثل الرأي المستنير في القرية تاريخ دسوقي المزدحم بوقائع الاستيلاء على الممتلكات العامة والخاصة والان يحين الدور على أبناء أخيه.
تظهر القرية منعزلة منذ البداية عن خارجها ولا يصلها بما يحدث في المدينة سوى الجريدة التي دائمًا ما يتحرك بها «أبو عارف» والراديو الخرب الذي يحمله «محروس» والذي من خلاله يعرف أهل القرية عبر صوت متقطع نبأ قيام الحرب، وهنا يقرر أهل القرية إيفاد أحدهم إلى المدينة لمعرفة ما يدور ومصير أبنائهم، فيقومون بجمع المال اللازم لسفر «أبو عارف»، وفي المدينة وبينما كان يذهب لأحد أبناء القرية الذي يعمل بمقر إحدى الصحف الذي يعرف أنه كان قد سافر للخارج، فلا يتمكن رسول القرية من معرفة أنباء بل يظهر الإعلام المتجسد في الصحافية والمذيعة في غاية السطحية لا يسعى للقيام بدوره التنويري، الأمر الذي لا يصل معه «أبو عارف» لأية معلومات، وعند العودة للقرية وتأنيب أهلها له لعدم توصله لأية معلومات عن أبنائهم، سرعان ما تصل سيارة عسكرية تخبرهم باستشهاد فكري خلال الحرب، وهو الحدث الذي يدفع أهل القرية للتكتل في مواجهة العم دسوقي ومنعه من الاستيلاء على أرض فكري الذي استشهد وهو يدافع عن أرض وطنه، في موازنة من الكاتب بين دسوقي والعدو الإسرائيلي حيث يسعى كل منهما للاستيلاء على الأرض، وتأكيد في نهاية المسرحية على أن الحرب لم تنته بعد.
من خلال النماذج السابقة يظهر محمود دياب وقد اتخذ القرية للتعبير عن شخصيات من لحم ودم تحكمها بيئة القرية وتفاصيلها، وفي الوقت ذاته يمكن أن تنسحب العلاقات على المجتمع بشكل عام مناقشًا من خلالها موضوعات وطبائع إنسانية تتخطى حدود القرية (مكانها وزمانها) ودون إغفال الجانب السياسي والاجتماعي، عاملاً على توظيف ابتعاد هذه القرى عن المدينة في التأكيد على العلاقة بين المركز والأطراف وغياب المسؤول وسيادة صوت الجماعة.
مؤثرات غربية
في الوقت الذي ينطلق فيه محمود دياب من داخل القرية المصرية في أكثر من مسرحية، فإنه لا يمكن تجاهل أثر الثقافة الغربية التي ينعكس صداها على كتًّاب المرحلة، فلا يمكن غض الطرف عن تأثر دياب بالكتابات الغربية، والتي ظهرت في اعتماده على شكل المسرح داخل المسرح التي يعد بيرانديللو رائدًا فيها، ولعبة تبادل الأدوار والمكانة الهامة للجمهور تلك التي عني بها بيرتولت بريشت في مسرحياته التي تنتمي للمرحلة الملحمية، فاهتم محمود دياب بدور الجمهور وردة فعله ومشاركته في اللعبة المسرحية على نحو ما ظهر في «ليالي الحصاد» و«الهلافيت» حيث يعتمد خلالها على المسرح داخل المسرح فتشارك الشخصيات في اللعبة كمؤدين ومتلقين في الوقت ذاته، إلى جانب النهايات الغير مغلقة تمامًا لإدخال المتلقي ورؤيته في التفسير وملئ المساحات المسكوت عنها، ولا يمكن إغفال تأثير كتابات مسرح العبث التي ظهرت بوضوح في ثلاثيته «رجل طيب في ثلاث حكايات»، فعلى الرغم من أن الطابع العام الذي تتسم به أعمال محمود دياب يهيمن عليها الأسلوب التقليدي في البناء، حيث البنية التقليدية التي تتطور وتنمو بشكل هرمي، كما يستخدم الأسلوب نفسه في رسم الشخصيات التي تطالعنا وهي ذات ملامح وبنية نفسية واضحة وتاريخ يُبنى لدى المتلقي مع تطور الحدث، إلا أنه كثيرًا ما يبقى الحدث دون نهاية مغلقة، بل يبدو حرص دياب على إشراك المتلقي في اللعبة بعد طرح الكثير من التساؤلات، وفي هذه الثلاثية ورغم تمسكه بالبنية التقليدية للحدث وتطوره إلا أن الملامح العبثية تتضح من تأثير كتابات صمويل بيكيت ويونيسكو من خلال طبيعة الشخصيات التي لا تحمل أسماء أو تتشابه مع غيرها ويتكرر ظهورها في المشهد واختفائها منه دون مبرر يحكمه المنطق.
ففي مسرحية «الغرباء لا يشربون القهوة» وبينما يدور الحدث في مكان عني دياب بوصف تفاصيله الواقعية أمام منزل قديم لرجل قارب على الستين من عمره، إلا أن المتلقي سرعان ما يلمح بعض التأثيرات العبثية لدى كتّاب العبث بشكل عام ويونيسكو بشكل خاص، بداية من الشخصيات التي لا تحمل أسماء، وصولاً لتكرار ظهور الغرباء واحدًا تلو الآخر يحملون نفس الملامح وينطقون ذات الكلمات في ذات الحركة الآلية في تراتب يستدعي معه شخصية رجل الإطفاء في مسرحية «المغنية الصلعاء» ليونيسكو الذي يتكرر ظهوره ووصوله للمنزل رغم تأكيده على أنه قد أتى للمرة الأولى إلى هذا المنزل لإخماد الحريق الغير مشتعل في الأساس، أو «مرتجلة ألما» لذات الكاتب حين يتوافد على شخصية «يونيسكو» الكاتب ثلاثة من الشخصيات التي تحمل الاسم ذاته، فيتوافد الغرباء في مسرحية دياب لا يحملون أسماء أو تاريخ لكل منها وفي النهاية يقومون بتمزيق كل الأوراق التي تثبت هويته أو تؤكد على امتلاكه لبيته.
وفي مسرحية «الرجال لهم رؤوس» وفي الوقت الذي يدور فيه الحدث بين رجل وزوجته داخل منزلهما الذي يعرض الكاتب لمفرداته الواقعية في بداية المشهد كما يدور بينهما حوار تقليدي رتيب حول حياتهما معًا وصولاً للحديث عن عمل الزوج، يستعير دياب «الجثة» التي ظهرت لدى كتّاب مسرح العبث للموازنة بينها وبين الرجل العاجز عن الفعل في حين أنه يعاني من القهر في وظيفته ويتم تخطيه في الترقية التي يستحقها ثلاث مرات، ورغم ذلك لا يهب للدفاع عن حقه المسلوب رغم حث الزوجة له على المواجهة، بل إنه يصر على الموقف السلبي غير الفاعل، وهنا يدق جرس الباب معلنا عن وصول طرد ضخم تم إرساله للرجل يحمل بداخله جثة رجل عار بغير رأس، وسرعان ما يصل صندوقًا صغيرًا بداخله الرأس التي ترى فيه الزوجة ملامح زوجها، ومع تطور الحوار بينهما والدور الذي تلعبه الزوجة في دفعه نحو اتخاذ موقف إيجابي إزاء ما يمر به في كافة شؤون حياته، هنا يتخذ الرجل قراره بالمواجهة للمرة الأولى بأن يخطو أولى خطواته في سبيل المواجهة بأن يتحرك للإبلاغ عن هذه الجثة، عندئذ تختفي الجثة بعد أن تؤكد الزوجة عقب قرار زوجها بالفعل بأنها لم تعد ترى جثة في المنزل.
أما المسرحية الثالثة «اضبطوا الساعات» تعد الأكثر اقترابًا من مسرح العبث، فالموضوع الرئيس خلالها هو فعل الانتظار، ذلك الفعل الذي يظهر في كتابات مسرح العبث ويعتمد عليه صمويل بيكيت في مسرحيته «في انتظار جودو»، حين يبقى فلاديمير واستراجون ينتظران مجيئ جودو الذي لا يأتي، وفي مسرحية دياب وخلال منظر لمكان من مفردات واقعية تظهر شخصيات أسرة في المنزل الخاص بها ينتظر أفرادها خطيب الإبنة الذي اختفى منذ عشرين عامًا ورغم ذلك تصر الابنة على رفض من يتقدمون لخطبتها منتظرة مجيئه وقد عقدت على ذاتها عهدًا بانتظاره، فليس هناك أزمة بالمعنى التقليدي وإنما يظهر الجميع في حالة انتظار مجيئه الذي لا يتحقق حتى النهاية.
من خلال النماذج سالفة الذكر وغيرها من الأعمال التي لا تكفيها دراسة واحدة لتناولها، يظهر وعي محمود دياب في مناقشة شتى القضايا ودقته في بناء شخصياته، وتكثيفه للجمل الحوارية، في استيعاب تام لطبيعة القرية المصرية ومفرداتها في ذات الوقت الذي قد تنسحب فيه معالجاته لمناقشة قضايا إنسانية أكثر رحابة غير مقتصرة على مكان وزمان محددين في وقت كتابتها، بل إنها كتابات تصلح لأن تقدم هنا والآن لقدرتها على مناقشة مشكلات واقعنا الراهن دون أن تبقى أسيرة لزمن كتابتها.