عن المهرجانات: ضرورة الوجود وثقافة الاستعراض

عن المهرجانات: ضرورة الوجود وثقافة الاستعراض

العدد 573 صدر بتاريخ 20أغسطس2018

بشكل مجمل، وربما مبتسر قليلا، فإنني أود الإشارة إلى أن هناك نوعين من المهرجانات والملتقيات والمؤتمرات، الأول منهما يأتي تأكيدا على وجود الظاهرة الفعلي واتصالا بحضورها وتناميها وتفاعلها في الواقع، بمعنى حدوث الظاهرة ابتداء وتراكمها النوعي عبر تحولات كيفية واشتباكات معرفية وإجرائية مع أسئلة وأشكال وتجارب، ثم يأتي المهرجان أو غيره من الفعاليات ليكون تجسيدا لحضور قائم وجدلا مع حركة متنامية، هنا يكون المهرجان عبر إجراءاته التنظيمية وأنشطته المصاحبة وجوائزه ولجانه وعروضه، يكون حوارا نقديا مع ظاهرة ماثلة ومع تجربة متفاعلة بما يعنى ترسيخها في الوعي النقدى العام وتأكيد حضورها الفعلى، المثال الجلى في تصورى على هذا النوع هو مهرجانات الثقافة الجماهيرية بنوعياتها المختلفة: «قوميات، قصور، بيوت، نوادي»، وذلك لأن ظاهرة مسرح الأقاليم نشأت وتنامت وتأكدت على مستويات مختلفة فنية ونقدية وإدارية، وعبر تراكمات بطيئة وعميقة معا، ثم جاءت مهرجاناتها المختلفة تجاوبا مع إشكاليات تأسيسها، وانعكاسا لمراحل تطورها، ونتاجا لاتساعها الرقمي وتنوعها الفني والإداري، وهكذا فإن المسرح الإقليمي لم يبدأ بالمهرجانات والمسابقات، وإنما بالحفر المعرفي وإدراك الضرورات وتكوين الفرق وإنتاج العروض وابتكار الأشكال المرتبطة بالموقع والفرقة والتحاور بين الاتجاهات المختلفة، وكان عمل اللجان قائما على التحاور النقدي والتشابك الفكري وأحيانا الآيديولوجي مع قضايا المسرح وأشكاله ووظائفه، ولم يكن اختزال العرض في رقم أو ابتساره في توصيف مجمل هو الأساسى والنهائى، قد يكون الواقع الآن مختلفا قليلا ومضادا بشكل جزئى للمراحل التي أشرت إليها، حيث أصبح المهرجان لا العروض، والتحكيم لا التفاعل، والنتائج لا الحضور في الموقع، والأرقام لا طموح التجدد والكشف، أصبح ذلك كله ربما مكونا للمشهد الراهن وصورته المجملة، ولكن هذا لا ينفي طبيعة النشأة وتاريخها النوعي، فقد وجدت الظاهرة أولا وتنامت وتجددت، كما أشرت، ثم كانت المهرجانات جزءا لاحقا ومتحاورا مع بنيتها وتجاربها وتحولاتها المتعددة0 النوع الثاني من المهرجانات هو النوع التكوينى، أي الذي يساهم في وجود الظاهرة وإيجادها، وطرحها على التداول النقدي العام، وهذا يعني أنها كانت مجرد استشراف أولى لضرورات ضاغطة، وبذورا وبوادر كامنة، ولكنها لم تتجسد بعد في سياق حركة أو فعل أو صياغات فنية، المثال الدال هنا هو المهرجان التجريبي الذي نشأ مع نهاية الثمانينات وامتد بعد ذلك متواصلا ومتتابعا عبر أكثر من عقدين، ورغم وجود تيار نقدي صاحب دورات الملتقي وظل رافضا لها معتبرا أن المشهد التجريبي الفعلي وجود وتأكد قبل أن نشاهد فصل المهرجانات التجريبية، ويستعرض النقاد المنتسبون لهذا التيار عادة استدلالا على رؤيتهم وتعميقا لها التجارب الأساسية في المسرح العربي ابتداء من صياغات الطيب صديقي في المغرب والمنصف السويسي وتوفيق الجبالي وتجارب فرقة القلعة ومسرح البحر في تونس والجزائر، فضلا عن الاستشرافات الإبداعية لروجيه عساف وسعد الله ونوس وعوني كرومي وأسعد فضة وفواز الساجر، وغيرهم. ومع هذا الاستعراض الدال للتجارب العربية، يستقصى كذلك المحاولات المصرية ابتداء من توفيق الحكيم وعلي الراعي ويوسف إدريس وحتى كرم مطاوع وسعد أردش وسمير العصفوري وصولا إلى التجارب الهامة في مسرح الثقافة الجماهيرية والتي صاغها في أماكن ومراحل مختلفة عبد الرحمن الشافعي وهناء عبد الفتاح وعادل العليمى وأحمد إسماعيل وغيرهم.
 يستدل هذا التيار عبر استعراضه تلك التجارب على حقيقة أساسية، وهي أن التجريب قبل المهرجان كان تعبيرا عن احتياج اجتماعي وثقافي وضرورة فنية ولّدت وكونت تجارب تحاورت مع واقعها وتفاعلت مع أبنيته، ولكنه مع المهرجان أضحى صيغة مقحمة على الواقع طافية على سطوحه دون تجذر واشتباك.ثم كانت هناك رؤية أخرى صاغها تيار نقدي مضاد نسبيا لتلك الرؤى والاستخلاصات، تتمثل – أي الرؤية الأخرى - في عدم وجود حركة تجريبية في مصر قبل إقامة المهرجان، كانت هناك بعض التجارب، لكن التجريب لم يتحول إلى اتجاه قائم على الساحة المسرحية إلا بعد سنوات من إقامة المهرجان، وفى التقاطة لافتة، يرصدهذا التيار خطأ الحركة المسرحية لدينا في أفول الاتجاه التقليدي وليس في انتعاش الحركة التجريبية مؤكدا على تكامل الاتجاهات وليس على تضادها وانفصالها، طارحا سؤالا أساسيا حول ما إذا كان التجريب يستهدف الجمهور أم النخب المسرحية؟ وهل هو بالتالي معملي أم جماهيري؟ هذا تقسيم نظري، كما هو واضح، وتوفيقى قليلا، ولكنه يقدم طرحه الخاص لإشكالية النخبة والجمهور في صياغات التجريب المسرحي، وهي الإشكالية التي تصوغ فيما اتصور ثنائية شكلية وزائفة بين نخبة وجمهور، بين طليعة وكتلة اجتماعية مصمتة زاحفة خلفها، واقعة – وأعني الثنائية – فيما يسميه علي حرب «أوهام النخبة».ولست هنا قطعا في مجال الحديث عن دورات التجريبى وأسئلته وإشكالياته، ولكنى أشير فقط إلى طبيعة المهرجان باعتباره عنصرا تكوينيا لظاهرة وعاملا بنائيا في تكوين تجربة، وذلك رغم وجود تيار نقدي يرى، كما أشرت، أن خيط التجريب كان قائما وفاعلا قبل الملتقي.
وهكذا، وبشكل مجمل، يأتي هذان النوعان استجابة لضرورات قائمة أو ممكنة، ماثلة أو محتملة، ومع الاستجابة للضرورة، تتأكد الوظيفة وتصبح شرطا ليس فقط لتواصل المهرجان وإنما لوجوده ذاته، بلغة ثانية، فإن هذين النوعين، وتحديدا عبر المثالين اللذين أوردتهما استدلالا لا حصرا، يمتلكان ضرورة الوجود ومقومات التفاعل وشروط الوظيفة، وظيفة تفعيل ظاهرة أو تأكيدها وفق النوع الأول، أو وظيفة الإيجاد والحفر والتكوين وفق الثاني، وعندما يفقدان الوظيفة تلك مثلما كان قائما في الدورات الأخيرة للتجريبي، ومثلما هو حادث جزئيا في المسرح الإقليمى، فإن ضرورة الوجود تصبح هامشية ومبتسرة، ويصبح المهرجان مجرد تكرار إلى أو دورات متعاقبة قائمة على قصور ذاتي لا ضرورات اجتماعية وفنية. ولكن أيا كانت التحفظات أو المراجعات لهذين النوعين، فإنهما يظلان ممتلكين للضرورة حتى ولو شحبت قليلا، وفاعلين استنادا إلى وجود الوظيفة حتى ولو بدت شكلية وآلية مع التكرار والتناسخ الذاتي، ولكن الخريطة المسرحية الآن اتسعت لتشمل نوعا ثالثا من المهرجانات ليس قائما على الضرورة وليس متصلا بالوظيفة، بمعنى أنه – هذا النوع الثالث - ليس جزءا من حركة المسرح وإنما هو مندرج في بنية السوق والاستهلاك، ومندمج في ثقافة الاستعراض وشبكات المصالح والنفوذ، فهناك مهرجانات في مصر الآن هي مجرد ترويج للقائمين عليها وتسويق لهم، ولست أود أن أدخل في إشكاليات التسمية، فقط أشير إلى التواطؤ النقدي والإعلامي على تمريرها وإكسابها قيما مضافة ليست موجودة عضويا فيها، المهرجان بهذا المعنى بديل للسلطة أو المنصب أوهو تمهيد لهما، حيث أصبح الموقع لا الدور، والمهرجان لا الحضور الإبداعي، أصبح ذلك هو ما يصنع المجال العام ويحدد الأثر ويصنع البريق، ساهم هنا بشكل ما حضور نقدي قائم على التبرير والاستهلاك والاستلاب، سوى استثناءات تومض بارقة ثم تنزوي متباعدة ومنسحبة0
في هذا السياق أتذكر التصنيف اللافت الذي أورده «بودريار» حول الانتقال من إنسان المرآة إلى إنسان الشاشة، فإنسان المرآة هو في علاقة انعكاسية مع الآخر، وبالتالي فثمة حالة من التواصل والتبادل والتفاعل، أما مع الانتقال لمرحلة إنسان الشاشة، فالإنسان يصبح عارضا في سوق استهلاكية ضخمة، ويتخلى عن دوره في إنتاج المعرفة ليتم اختزال وجوده إلى مجرد حالة وجود شيء على الشاشة، ولعل هذا ما يمكن أن نلاحظه ونحن نوصف بشكل مجمل صور المهرجانات الدائرة الآن.


محمود نسيم