يوم معتدل جدا طموح التقنية ويأس المحتوى

يوم معتدل جدا طموح التقنية ويأس المحتوى

العدد 570 صدر بتاريخ 30يوليو2018

لا شيء من الاعتدال في تلك المسرحية سوى الاسم الافتراضي للشخصية المحورية، يهاجمنا العرض المسرحي “يوم معتدل جدا” بالكثير من المبالغة في مختلف مراحل ومفردات صناعته، تلك المبالغة التي يبنى عليها قانون اللعبة المسرحية وتصوغ نظامه الحاكم.
الشاب (معتدل) لا يملك أدنى فرصة حتى مع صديقه الحميم ليحكي همومه أو يعبر عن يومه المأساوي جدا، لا تسنح له الفرصة إلا داخل الحلم، ولا يعتدل يومه إلا في إطار الفانتازيا التي بإمكانها إعادة صوغ الأحداث بأسلوب يبالغ في التفاؤل، فلا اعتدال إلا بين هذين النقيضين، وهو ما يسكت عنه العرض ويترك المتلقي الذي استمتع بالطاقة الكوميدية والإيقاع اللاهث للعرض فريسة لغصة ما يفتش عنها بداخله.
يحمل العرض إلينا تقنيات مسرحية غاية في الطموح، فيستخدم عالم الفانتازيا الرحب في إطار من الكوميديا المبنية على المبالغة التي تفقد تلك الفانتازيا معقوليتها وتقترب بنا من تقنيات العبث، فالأب الذي يرى في (معتدل) فاشلا غير ذي جدوى ينقلب في المشهد (الفانتازي/ العبثي) إلى داعم ومشجع، الأمر نفسه ينسحب إلى بقية المشاهد والشخصيات في تلك الثنائية البارعة التي يصوغها فريق العمل في تناغم واضح (الحبيبة، البلطجية، رجال الأمن، أهل العروسة... إلخ).
ويقود المخرج (سامح بسيوني) كافة عناصر العرض للوصول إلى نفس الغاية، فيلجأ مع السينوجراف (وائل عبد الله) إلى صياغة المكان الواقعي بصورة شبحية تحل فيها شخصيات العرض الحية محل تماثيل عرض الملابس في تناص واضح مع فانتازيا متحف الشمع، مع إيجاد كل الحلول البسيطة الممكنة للخروج إلى مشاهد منزل (معتدل) ومنزل الحبيبة والمصلحة الحكومية وحتى الشارع دون المساس بوحدة المكان الواقعي (محل الملابس) ذلك المخزن الفانتازي الذي تخرج منه كل الشخصيات والأماكن التي هي داخل حلم معتدل، يعاونهم التصميم النمطي للأزياء للمصممة (ميما محمد) الذي يسعى لتحقيق ذات الغاية.
الأمر نفسه ينسحب إلى الصياغة الشعرية لـ(سامح عثمان) واعتماد نفس القدر من المبالغة الذي تطرحه الدراما التي يتقاسم سامح عثمان وسامح بسيوني مسئوليتها عبر كتابة النص، وهو ما عبر عنه (كريم عرفة) في صياغة موسيقية تحمل نفس القدر من البساطة والمبالغة في ذات الوقت، حتى تسجيل الأغاني وإن كان يخضع لظروف إنتاجية بحتة إلا أنه ساهم أيضا في التأكيد على عبثية الحدث الدرامي ولا معقوليته.
يراوغنا صناع العمل منذ بداية العرض، فلا يكشفون عن نياتهم ويسحبوننا بالتدريج إلى أرض ملعبهم وبقواعد لعبتهم، يعاونهم في ذلك الممثلون؛ العنصر الأهم في صياغة اللعبة، يجرون المتلقي خلفهم من الواقع إلى التشكك ثم إلى الحلم وطرح الفانتازيا وصولا إلى العبث واللامعقول في رحلة ممتعة يقودها (معتدل/ كمال عطية) عبر اعتماده بساطة متناهية في طرح الأداء والإمساك بملامح واضحة لشحصية البطل الدرامي المهزوم، مع صياغة كوميدية واعية تفجر الضحك من المفارقة بين بساطة الأداء وعبثية الموقف الدرامي، فعبر صياغة (عطية) لشخصية نمطية متعددة الجوانب، يقود قطارا من الأنماط البشرية برع فريق العمل من الشباب في تقديمها عبر صياغة دقيقة سواء على مستوى النص أو الأداء.
(هشام طارق، أحمد أيوب، نور الدريني، يوسف عادل – أحمد شبانة، نور حمدان، عبد المنعم هشام، محمد رشدي – صلاح عبد الوهاب، زمن طاهر، آلاء أشرف، هبة العطار، محمود خلفاوي، محمد زين، أدهم شكر، محمود نجيب، نورهان سالم، مينا عطية، دينا قنديل، وروان رضا) تلك المجموعة من الممثلين الذين يقدمهم مسرح الشباب لأول مرة كنتاج لورشة ارتجال سابقة على إنتاج العرض، هو ما دفع بهذا العدد من الشباب الموهوب المتميز للظهور بهذا المستوى الجيد والمنضبط في خطواتهم الأولى في عالم المسرح، وهو الدور الذي نثمنه لفرقة مسرح الشباب ونؤكد على أهميته في تحريك المياه الراكدة في حركة المسرح المصري.
يعدنا العرض بيوم معتدل ويتركنا فريسة لإحباط الواقع ولا معقولية التغيير عبر تقنيات فرجة درامية طموحة، لا تتقيد بالأسلوبية ولا تنتهكها دون مبرر، وتضعنا في موقف المتأمل الحائر الباحث عن تصالح مع النفس سعيا وراء يوم معتدل قد يحياه بطلهم الدرامي البسيط الذي يمثل كل واحد فينا، فتحية لصناع العرض ولجرأة الفرقة المنتجة التي سمحت لنا أن نستمتع بتلك التجربة على خشبة مسرح الدولة.


أحمد شوقي رؤوف