أرض لا تنبت الزهور حيرة النص حيرة العرض

أرض لا تنبت الزهور حيرة النص حيرة العرض

العدد 570 صدر بتاريخ 30يوليو2018

إن التصدي لواحد من أهم نصوص الكاتب الكبير محمود دياب يمثل تحديا كبيرا لأي مخرج درامي يطمح لتقديم عرض مسرحي يليق بجلال الأفكار وعمق المعاني المتضمنة، فما بالك لو أن من تصدى لمسرحية «أرض لا تنبت الزهور»، وهي المسرحية التي تعد علامة على مسرح مؤلفنا الكبير، مخرجة تخصصها الحقيقي في الرقص المعاصر! الحوار هنا بين الكلمة والجسد يحتاج لكثير من الأفكار والترتيبات الدرامية المعقدة التي يمكنها أن تمزج ذلك الثنائي في بوتقة العمل الإبداعي بحيث يوضع المتلقي عند علامات وأيقونات ثابتة سواء في بناء الحدث أو الشخصيات الدرامية. على جانب آخر تظهر أهمية المخرج الذي لم يستعن بدراماتورج يعي تماما حدود التقديم المعقد بين الحركة والكلمة فيختار من الأحداث ما يناسب طبيعة العرض المسرحي الراقص ويشير صراحة لأماكن تدخل الرقص الحديث وتوقيته عبر سيناريو يراعي بداهة دور الجسد وإمكانياته المتطورة في إزاحة الكلمة والتعبير البديل بحركة مدروسة واعية. هنا نحن أمام مكون حساس ورهان صعب للغاية.
حقيقة، ما قدم إلينا كان اختصارا مخلا لطبيعة الأحداث التي نعرفها عن محمود دياب الذي رصد فيها انتقام زينب الزباء لمقتل أبيها وكيف أنها شخصية معقدة وقوية حتى في لحظات ضعفها الإنساني، كما أن العرض لم يعبر بشكل مناسب عن المخرجة «سالي أحمد» التي عرفنا قدراتها الممتازة في عرض “أرملة الصحراء” الذي كانت قد أخذته عن رائعة بهاء طاهر “واحة الغروب”، ففي عرض “أرملة الصحراء” كانت ممتلكة لأدواتها لدرجة تكشف للمتلقي كيف يمكن لمخرج حركي أن يقتنص شخصية محورية في رواية ما ويبني عليها عرضه الراقص، أما هنا فبدت الحيرة متمثلة في التردد فهل نقدم دراما محمود دياب التي تحتاج لجراح أصيل يقتنص تكوينا متماسكا ومرضيا للمتلقي أم نعتمد على تابلوهات راقصة تعكس القدرة على تحريك مجموعات كبيرة بالمنطق المرن الذي يقدم لك راقصين على درجة كبيرة من الانسياب والتحول الدرامي بمعنى الانتقال السهل بين العلامات والأحداث المهمة في دنيا العرض المسرحي (الحرب – الحب).
الذي بدا جليا للمتلقي أن هناك خللا ما، فلم توضع علامات يمكن التحرك من خلالها فقط شذرات الحوار الدرامي التي تحولت هنا في الغالب لمونولوجات تفتقد المصداقية أو القدرة على التأثير، فتاهت روح النص وتاهت روح التابلوهات الراقصة، فخرجت اللعبة الدرامية بشكل واهن إلى حد كبير لم ينقذها إلا بعض استخدامات الإضاءة الواعية بطبيعة المسرح وطبيعة المكون الدرامي الذي يتكئ عليه العرض المسرحي، حتى المنظر المسرحي بدا مرتبكا حاول من خلاله المصمم أن ينقذ الموقف بشد الانتباة للبانوراما التي تحول مصادر اللون ليناسب طبيعة الحدث الدرامي المقدم.
وحتى الممثلة التي كانت تقوم بدور زينب الزباء لم تكن مقنعة ويبدو ذلك الأمر خارج إرادتها هي وبقية فريق العمل؛ إذ إن العمل يمزج بين الكلمة والرقص وكل العارضين في تصوري إنما هم راقصون في المقام الأول ويحتاجون لورش تدريب طويلة حتى يمتلكوا ناصية التعبير بالصوت، فمن تابع العرض المسرحي لاحظ أن التعبير بالصوت افتقد للوعي المناسب لطبيعة الشخصيات وتكوينها، لم ينقذ الموقف وعي المخرجة بإمكانيات خشبة المسرح وكيفيات ترتيب الممثلين على خشبة المسرح في المشاهد المهمة، فقط ظهرت لحظتان مهمتان في التكوين الجسدي؛ أولاهما حالة المعركة التي دارت والمشهد قصد منه بيان أهمية استخدام السلاح، والمشهد الآخر هو مشهد انتحار زينب الزباء، الذي تلت فيه زينب الزباء مقولتها الشهيرة (بيدي لا بيد عمرو) حيث لعبت المخرجة بفهم طيب مع المشهد ووضعت الممثلين في المكان المناسب لطبيعة الموقف الدرامي.
على أي حال، العرض عكس بشكل أو بآخر أننا نستعد في اللحظة الأخيرة ونبني أفكارنا في الوقت الضائع اعتمادا على خبراتنا السابقة في اللعب الدرامي، فطبيعة ما قدم إلينا يظهر بشكل جلي أن التكوين الذي ظهر علينا في افتتاح المهرجان جاء في اللحظات الأخيرة وعبر تشكيلات لم تدرس بشكل كافٍ وأنه لولا خبرة المخرجة ومصمم الإضاءة «عمرو عبد الله» في الخروج باللعبة الدرامية لبر الأمان لهرب المتلقي من اللحظات الأولى.
حقيقة، كان العرض في أشد الحاجة لدراماتورج يفهم روح نص محمود دياب ويقف على النقاط التي يمكن اختصارها بحيث يبدو الحدث متماسكا، ولكن أن نفترض في المخرج ما هو فوق إمكانياته سيعطينا نتيجة مرتبكة كتلك التي شاهدناها.
ظني أن العروض التي يمكن أن تفتتح مهرجانات بحجم كبير تحتاج لمهارات خاصة ووعي فارق وقدرة على تمرير البهجة للمتلقي، أو عروض مسرحية متماسكة سريعة التكوين سريعة الهدم لا توضع تحت تساؤل يقلل من أهميتها, وما تعرضت له المخرجة سالي أحمد كان خارج إمكانياتها المعروفة، وهو أمر يعلمنا جميعا ويضعنا أمام المسئولية، فأي العروض يمكن تقديمها في توقيت ضيق؟ وبأي الإمكانيات؟ وبأي الأفكار؟ تلك أسئلة يرجى الوقوف عليها قبل الرهان الصعب في الوقت الضائع.

 


أحمـد خميس