العدد 566 صدر بتاريخ 2يوليو2018
دائما ما بحيط بتلقي العمل المسرحي حالة التأرجح بين التماثل مع الواقع والابتعاد عنه؛ تأرجح يحتوي على السياق الاجتماعي والظرف السياسي الآني للواقع وبين ما يؤول إليه العرض. خصوصا في حال طرح موضوعات شائكة ومزامنة للواقع، فحين يصبح تعامل العرض مع الواقع خاضع لمبدأ المواربة أو التحايل علي التفسير المباشر- للابتعاد عن ما يحتويه العرض بين سطوره- فإن تلك الموارنة ربما تورط العرض في الساذجة نتيجة تحول جماليات العرض الي وسيلة للتشويش على دراما العرض/الواقع؛ وهو مايحيلنا إلى التساؤل عن جدوي المسرح وماذا يصنع بنا ولماذا نحن بصدده الآن؟!.
ضمن مبادرة مسرح الدولة وطرحها لحملة “اعرف جيشك” لتعزيز الإنتماء بالوطن ومكافحة الإرهاب؛ قدم مسرح السلام العرض المسرحي “أمر تكليف” العرض من بطولة كريم الحسيني، محمد الأحمدي، جهاد أبو العنين، زكريا معروف، عزة لبيب، سامح الخطيب، مدرونا سليم، تأليف عيسى جمال، إخراج باسم قناوي.
يتناول العرض الجانب الإنساني لضباط الجيش أثناء خدمتهم في جنوب سيناء لحماية وطنهم، الحياة الاجتماعية التي ينتمي إليها كل فرد منهم، والتأكيد علي الفردية والسمات الشخصية التي ينفرد بها كل منهم رغم تربيتهم داخل المؤسسة العسكرية. تسرد تلك القصص وكذلك العرض المسرحي من داخل مذكرات الضابط (علي) من داخل قصيدته المسماة “أمر تكليف”. يعد أحد أهم قوانين المؤسسة العسكرية هي التجرد من السمات الفردية، وأحيانا الإنسانية والخضوع لقوانين الطاعة المطلقة، تنحية إعمال العقل الفردي جانباً. ولكن في عرض أمر تكليف تبدلت تلك الصور النمطية عن هؤلاء الشخصيات -التي تعد قوام العرض- إلى شخصيات سنتمنتالية وشاعرية، تبديل مُلفت لتصدير تلك الشخصيات بصورة رومانسية مفرطة داخل العرض، ومن ثم أثارة المزيد من التعاطف والتماهي معها لكي تكتسب دورها البطولي داخل واقعنا من جديد، بعد باع طويل من الممارسات تلك المؤسسة في واقعنا اليومي.
المشهد المسرحي مصنوع بجماليات شاعرية بدورها هي الأخرى، حيث اللون البُني والزيتي في ملابس الجنود والديكور، جماليات الفضاء المفتوح (الوحدة العسكرية) المنتمي إليها الجنود، وتحدث المفارقة مع المشاهد الممثلة للواقع على (الفيديو بروجكتور) بألوانه المتعددة. فتأكد الألوان على صلابة وجفاف عالم الجنود مقارنة بالواقع، وكذلك المشاهد التي تطلعنا علي حياتهم الشخصية ومزجها بألوان ساخنة تحمل رمز الحلم والمستقبل. لذا تدخلت الإضاءه في الانتقال لعدة عوالم أخري في ظل الديكور الثابت طوال العرض. تتجلى الشاعرية عندما يمتزج صوت طلقات الرصاص مع البيانو. لكن تلك الجماليات الخاصة بالعرض -احيانا ما تدعوا إلي الرغبة في الانتماء إلى هذا العالم- تغالي في التعبير عن بنية الدراما، كيف هؤلاء الشخصيات يتحملون مأساتهم ومعاناتهم وبالتالي التأكيد على التعاطف معها؛ تعيش داخل عالم شاعري ويحمل جماليات واضحة من الشاعرية والمسالمة. تلك المفارقة الموجودة في العرض واضحة هي الأخرى في الواقع وتصدير مؤسسات الدولة صور عن نفسها للعامة من الناس، تتناقض مع آلياتها وأساليب وجودها الفعلية داخل المجتمع، إن جاز التعبير بداية من مؤسسة المسرح إلى المؤسسات العسكرية.
الأداء التمثيلي داخل العرض تناغم مع الأسلوب الفني المُتبني منذ البداية، يبق على خط الفاصل بين الطبيعة والشاعرية، شخصيات بطولية ومغاور لا تتكلف في الأداء المسرحي، والتعبير عن تكوينها علي أرض الواقع. أفراد في لحظات حرجة للدفاع عن الوطن إضافةً إلى حياتهم الاجتماعية التي يشتركون فيها مع باقي المجتمع من تحمل زيادة الأسعار وما إلي ذلك، لكن هل بالمقابل لا تمتاز بمميزات منفردة، كزيادة معاشات الجيش بشكل مستمر مع زيادة الأسعار؟ كيف يحمل هذا الأداء التمثيلي الطبيعي والصادق مثل هذا الشاعرية في ظل اشتباك الواقع معها بصور مغايرة.
إن كان العرض يتحدث علي لسان الأفراد من داخل هذه المؤسسة، لكنه تخبط في رؤيته للتفرقة بين دور الفرد وبين المؤسسة التي ينتمي إليها في النهاية وهي سبب في كونهم في تلك اللحظة التي نحن بصددها في العرض المسرحي. فإذا كان السرد يأتي من جانب الفرد وتكتمل القصيدة التي يكتبها الضابط (علي) علي شاكلة سلسلة تكتمل علي لسان باقي الشخصيات، داخل جمل حوارية هشة. كيف إذن تكون النهاية تلاقي أرواحهم في شخص واحد يلقي بالتحية العسكرية. هل دفاع الجنود عن الوطن أم عن المؤسسة!؟
تستمر حالة الحرب الصامتة أثناء العرض حتى تأتي النهاية حرب فعلية، ذلك على المستوى الأعلى من الصورة المسرحية في (برج المراقبة) التي ينظر منها الجنود على الخارج. وفي ظل هذه الحرب الدائمة لابد أن تنصاع -أنت كمتفرج- إلى التلاعب بعاطفتك دون تردد في الإيمان بالمفاهيم المطروحة، كأن تؤمن بمعنى الوطن كونه المرأة الجميلة المغروم بها الرجل، وحب الوطن هو لحظات الفناء من أجله، أنه هو الأرض التي لا يجوز حمايتها أو اعتبرها وطن إلا عن طريق السلاح والحرب. قولبة صورة الوطن في مجرد الحماية أو أنها الأنثي الواجب الدفاع عنها، صورة نمطية تسعى لتأسيس لمزيد من العنف والعنصرية.
استكمالا لصورة الوطن التي طرحها العرض، وكذلك تأكيد على الحملة التي تقوم بها مسرح الدولة “اعرف جيشك”، أتي العرض بالإرهابي سبب الخطر الدائم، لكن مساحة دفاعه عما يفعله تكاد تكون معدومة، مع أداء مسرحي يتراوح بين الندم والغضب. علي رغم الحالات الإنسانية التي تطفو على العرض، إلا أن هذه الإنسانية توقفت حتى في أقل صورها وهي سماع الصوت الآخر، جاء الإرهابي كالاخرس، وتعالت سمات ما يدافع عنه العرض -وهي مناقشة واقع الجنود داخل مؤسسة عسكرية- وفرض منطق هذا المؤسسة، ومن حيث احاديه وجهات النظر والشيفونية والتعصب إلى كل تلك الافكار وعدم اتاحة مساحة للأخر، بل والتلاعب علي المشاعر من أجل إثباتها.
وضح العرض مبرر وجود الإرهابي هو انسياقه لتيار التطرف الديني بعدما كان أحد أبناء الوطن والمحبين به. علي فرضية تعريف الانسياق أنه توقف إعمال العقل، فيجوز الإنسياق بدافع حب الوطن أو أي مفاهيم أخري وتنفيذ الأوامر المشترطة لأجل هذا الحب عملية إرهابية بالتبيعة.