ساحرات سالم.. بين إعدام البراءة وبراءة الإعدام

ساحرات سالم.. بين إعدام البراءة وبراءة الإعدام

العدد 564 صدر بتاريخ 18يونيو2018

كتب آرثر ميلر الأمريكي الأصل مسرحيته «ساحرات سالم» – «البوتقة» عام 1953، مستندا في ذلك إلى الأحداث التاريخية لمحاكم السحرة التي اشتهرت بها بلدة سالم في ماساتشوستس، والتي ذهب ضحيتها الكثير من المواطنين الأبرياء منهم وغير الأبرياء، ولقد لعب ميلر على الترميز في دراما أحداث مسرحيته بدءا من العنوان ذاته «البوتقة» التي تعني ذلك الوعاء الطيني الذي يستخدم لتذويب المعادن، فهو ذلك الوعاء الذي تنصهر بداخله كل ضمائر النفس البشرية الطيب منها والشرير، الوعاء الذي يحتمل التطهير والاعتراف.
فقد قام ميلر بمزج الكثير من الحبكات المتوازية في ذروتها إلى أن تصعد تلك الذروة إلى أعلى مكانة يتم بعدها الحل في المحكمة والخلاص حفاظا على السمعة.
وفي إطار الاحتفالات بالمهرجان الختامي لنوادي المسرح (27)، وختامي فرق الأقاليم (43)، قدمت فرقة الأنفوشي المسرحية مسرحية «ساحرات سالم» إعداد وإخراج محمد مكي، حيث لعب المخرج على خلق جو عام للعرض المسرحي من الرعب في إطار السحر والسحرة، مستخدما في ذلك كافة عناصره المسرحية من ديكور وإضاءة وموسيقى حيث جاءت كل العناصر في مكانها الصحيح دون المبالغة أو التقصير.
فبدأت أحداث المسرحية بالإرهاصات الأولى لحفلة رقص النساء بالغابة تلك البذرة الأولى التي على أثرها تنطلق الأحداث لمشهد منزل الكاهن باريس في محاولته للتعرف على سبب إعياء ابنة أخته الذي فسر ما تمر به من أعراض غريبة بأنها أعراض مرض غير معروف! بعيدا عن السحر.
وتتوالى الأحداث لتنبئنا عن إعياء أكثر من فتاة ولأسباب غير معروفة مما يتفشى في القرية بأن السحر قد أصابهن، ومن هنا يتم إعلان الحرب على الشيطان والسحرة، بمساعدة القساوسة، ويتم إلقاء التهم على الكثير من نساء القرية وتتهم تيوتوبيا خادمة القس باريس باستخدام السحر لبث الشعوذة وممارسة المجنون على نساء القرية، وتتوالى الاتهامات لتصيب كلا من ماري خادمة بروكتر وإليزابيث زوجته وسارة والكثير من النساء بتهمة حيازة الشيطان، وبالفعل يتم القبض على إليزابيث التي اتهمت بحيازة دمية اعتقادا منهم استخدامها في أعمال السحر والشعوذة.
وتتوالى أحداث المسرحية بالتحقيق في الاتهامات الملقاة على نساء القرية في المحكمة، لينتهي الأمر بأن يقبل بروكتر الإعدام حفاظا على سمعته وسمعة أسرته.
الرؤية التشكيلية للعرض
جاءت الرؤية التشكيلية للعرض بشكل أبدع فيه المخرج في رسم الجو المخيف على خشبة المسرح والموحي بجو السحر. ومن جانبه، فقد برع مهندس الديكور الدكتور محمد سعد في تصميم الديكور الموحي بجو الغابة الحقيقية، فقد لعب بالواقعية التشكيلية في رسم أشجار الغابة بالأسلوب ثلاثي الأبعاد، وتلك البوابات أو قد نقول الحوائط المحاطة بالقرية التي لعبت دور التشكيل في منزل القس باريس وبروكتر ومن ثم المحكمة، فقد استخدم مهندس الديكور الخامات الخفيفة والسهلة لعمل ديكور ثقيل وعميق في مشهديته الدرامية لخدمة العمل المسرحي.
ومن ثم جاءت الألوان في تناسق وهارمونية وواقعية تتماهى مع ديكوراته وخاماته، مؤكدة على الحدث الدرامي دون المبالغة أو الانتقاص من حجم رؤيتها التشكيلية.
الإضاءة بطلة الحكاية
منذ الوهلة الأولى للعرض ودون أن يتحدث شخصيات العرض نجد إضاءة الخشبة منذ دخول صالة العرض تمنحنا إيحاء بالحالة الدرامية التي سوف يتلقاها المشاهد من خلال ألوان الإضاءة المستخدمة، والتي لعب بها إبراهيم الفرن بشكل عمل على خدمة العرض في انتقالات بين إضاءة كل مشهد وآخر من الغابة إلى منزل باريس ثم منزل بروكتر والمحكمة، لكل مشهد طبيعته الخاصة في الإضاءة بشكل غير مكرر وخادم لطبيعة المشهد باستخدام واعٍ بمفردات اللون ونوعية الكشاف المستخدم.
الموسيقى روح العرض
جاءت الجملة اللحنية في العرض في خدمة المغزى الحقيقي للعرض بين إثارة وتشويق وترقب وانتقام وغيرة واندفاع، فقد لعبت الجملة اللحنية والموسيقية على إبراز العمق الدرامي للحدث على الخشبة وإبراز المعنى المراد توصيله للمشاهد.
فجاءت الجملة الموسيقية مثلا سريعة ومتلاحقة في مشاهد الرقص للإيحاء بالسحر والشعوذة، كما جاءت بطيئة وكلاسيكية في الاعتراف بين بروكتر وزوجته إليزابيث، واستخدام الآلات الحديثة في اللحن تؤكد دراميا على الحدث اللازماني واللامكاني الذي يصلح لكل العصور والأزمان.
الرؤية الإخراجية
لقد اعتمد المخرج محمد مكي منذ بداية العرض على التشكيلات الحركية والتكتلات الجماعية وعمل خطوط ميزانسين للممثل بحيث يقوم الممثلون بالأداء في خطوط متقاطعة ومتوازية ودائرية، تأكيدا على أن لا أحد بعيد عن دائرة الاتهام، فكل منهم يأخذ موقع الآخر بشكل تبادلي واعٍ بحبكته الدرامية، فيما عدا ثالوث المحكمة الذي ترأس هذا الثالوث القاضي في عمق الخشبة للتأكيد على السلطة واتخاذ القرار بالأحكام على المتهمين، ولكن أرى إخفاق المخرج في مشهد منزل السيد جون بروكتر حيث جعل جملة الممثلين متكتلين في الجانب الأيمن من خشبة المسرح بحيث جعل من الخشبة خللا في اتزانها وعدم توزيع ممثليه على الخشبة ككل فتقاطع الممثلون وحدث قطع لأحدهم مع الآخر، ولكن لا بد من الاعتراف بوعي مكي بمفردات لعبته المسرحية وعيا جعل من “ساحرات سالم” العرض الأكثر اتزانا والأكثر التزاما بقواعد العمل المسرحي والمتكامل دراميا وفنيا من جميع عناصره الفنية والدرامية.


لمياء أنور