«الأرامل» التونسية.. نساء ينتظرن الوطن

«الأرامل» التونسية.. نساء ينتظرن الوطن

العدد 559 صدر بتاريخ 14مايو2018

ثلاث نساء وبحر هم أبطال العرض التونسي الذي شارك في ليالي المسرح الحر بالأردن، الذي تدور أحداثه في مدينة مجهلة الاسم صالحة لأن تكون كل مدينة في عالمنا الذي يسيطر عليه رجال المال المتحالفون مع سلطة لا ترى في البشر إلا أدوات حفر وتنقيب عن مزيد من خيرات يزداد بها ثراؤهم، فيموت الرجال وتلقى جثثهم في بحر يزداد غضبا وقسوة وتبقى الأرامل واقفات على الشاطئ في انتظار جثث رجالهن ليدفنها بأياديهن ويصنعن لهم قبورا يزرنها كلما عصف بهن الحنين.
يبدأ العرض، الذي أعدت نصه مخرجته وفاء الطبوبي عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الأرجنتيني إريل دورفمان، بسواد مسيطر على الخشبة، يزيده صوت البحر وحشة وترقبا. ثم تتناهى إضاءة صفراء خفيفة تدخل على إثرها النساء الثلاث واحدة بعد أخرى تحمل كل منهن وشاحا أبيض، ربما كان راية لعمل شاق تقوم به نساء مدينة فقدت رجالها وربما كان كفنا تعده كل واحدة منهن لجثة تنتظرها ولا تعود.
في البداية تتصارع النساء الثلاث صمتا بحركات إيمائية من وجوه معبرة عن سخط وقلة حيلة ويأس، وعبر قطعات أقرب إلى «الفوتو مونتاج» السينمائي، تمنح صراعهن إحساسا بمرور الزمن ثقيلا عليهن، ثم يقتربن من حافة الخشبة يطللن على بحر الصالة يسترقن السمع، ويتهامسن عن ذلك الذي سمعنه ولا يصدقنه، “إنهم يلقون جثث رجالنا في البحر!”.
تقنية التقطيع السينمائي، هي التقنية التي ستتخذها المخرجة والمؤلفة وفاء طبوبي منهاجا لعملها طوال العرض، فالمشاهد تكوينات سينمائية أقرب إلى الصور الفوتوغرافية تمنحها الحياة حركات عنيفة تليق بغضب المنتظرات دون جدوى.
وعبر حوارات متقاطعة ومتداخلة تعرفنا الكاتبة والمخرجة على شخصياتها، ثلاث نساء من أجيال متعاقبة (زوجة وشقيقة وابنة) لكل منهن حكاية مع رجل غاب لأسباب وإن اختلفت تفاصيلها إلا أنها تشترك في النتيجة، هروب من قهر سلطوي وانتظار لعودة لن تأتي.
بتصاعد الحوار بين المنتظرات تتكشف خصوصية كل منهن وعلاقتها المتفردة مع الغائب، فالابنة تنتظر أبًا هو المثال، معلم ومناضل كسرته يد السلطة وغيبته. والشقيقة تنتظر أخا لم تحبه، لكنها تتمنى اليوم الذي تحصل فيه على جثته لتدفنها بيديها فيهدأ روع أمها المخدوعة في ابنها وتتفرغ هي لبحثها عن رجل يحبها.
أما كبراهن فهي زوجة تنتظر زوجا أحبته بالعشرة، وزاد حبها له بعد الغياب.
الحوار بين النساء يبدأ هادئا، لكنه يزداد عنفوانا مع ازدياد غضب البحر ومرور الأيام لتتكشف حقائق أكثر سواء عن أسباب الغياب، أو عن علاقة كل منهن بمن تنتظر أو عن علاقاتهن ببعض. وهكذا يدخل بنا العرض في رحلة وعي تتحول النساء في نهايتها من مجرد منتظرات مهيضات الجناح، إلى مقاومات شرسات تتراجع أمام إصرارهن بنادق من قتلوا رجالهن وهددوهن بالقتل إن لم يتراجعوا، لينتهي العرض وكل منهن تحمل وعيا جديدا يتحول معه الرجل الذي ينتظرن إلى وطن بات من المحتم أن يستعدنه من يد غاصبيه.
بحرص واعٍ، استغنت وفاء الطبوبي تماما عن كل ما يعيق وصول رسالتها، وأبقت فقط على ممثلاتها اللاتي نجحن في الإمساك بروح كل شخصية، فرسمت لهن حركة تتسم بتقاطعات مستقيمة لا التواء فيها، واختارت لهن أسلوبا في الأداء يعتمد على الانفعال الحاد المحسوب بدقة تمنعهن من الانزلاق في هوة المبالغة، ومن ثم تصنع لعرضها إيقاعا منضبطا استحقوا عليه جميعا تصفيقا دام لدقائق من جمهور ليلة افتتاح مهرجان ليالي المسرح الحر في عمان.
لكن تبقى لنا ملاحظة وحيدة تخص المشاهد الأخيرة من العرض، التي نراها قد انزلقت به إلى انحياز نسوي يتناقض والمعنى الأعم والأسمى الذي كان يسير نحوه طوال مشاهده السابقة؛ إذ فاجأتنا الكاتبة المخرجة بكشفها على لسان شخصياتها أن كل الرجال الذين انتظرتهن النساء هم خائنون بالفطرة، فالزوج خانها مع أخرى وباع أرضها وهرب، فاضطرت للعمل خادمة بالبيوت، بل وتصرخ “أكرهك.. أكرهك”. والابنة تنكر أباها الذي عاد بروح منكسرة لا تليق بالصورة التي رسمتها له كمناضل صنديد لا يلين، وتصر على أن من عاد ليس أباها وأنها ستظل تنتظر. والثالثة تصرح بالحقيقة التي أخفتها عن أمها بأن شقيقها خائن ويستحق القتل على عكس ما تتوهم.. وهكذا جاء هذا الكشف ليطمس معنى الانتظار والإصرار عليه، فما دام (كل الرجال خائنين وكل النساء ضحايا) فلا معنى لانتظارهن، ولا معنى لموقفهن من السلطة التي ألقت مشكورة بجثث (الخائنين) في البحر!
هكذا حاد العرض عن معناه المفترض وضاق به التفسير بعد أن كان أكثر رحابة، لكنه وعلى الرغم من ذلك حقق حالة مسرحية امتزجت فيها عناصره الفنية بتوافق يستحق التقدير.
 

 


محمد الروبي