الكناس مونودراما فاضحة لبنية المجتمع الساكن

الكناس مونودراما فاضحة لبنية المجتمع الساكن

العدد 544 صدر بتاريخ 29يناير2018

عادة ما أدخل إلى عروض المونودراما وأنا قلق نظرا للعروض الكثيرة الكاذبة التي شاهدتها، والتي تتغلب فيها قيمة الصناعة والوهم على أهمية القضايا المقدمة، فتخرج منها وكأن لا شيء حدث فقط قدمت لك بعض الألعاب الدرامية الخالية من الوعي والجدوى كانت تتوسل ببعض الأوهام الكاذبة الغبية غير الشيقة مرت أمامك دون أي تأثير كونها تفتقد لأوليات الجد والجمال، أو تبدو وكأنها احتفال غير معلن بممثل ما بعد أن قضي عمر طويل على المسرح ويود أن يختم حياته الفنية بعرض يستطيع من خلاله أن يبدو كلاعب قدير يتقلب بين المواقف والشخصيات بنعومة يحسد عليها، فعادة ما يقابلك عرض مونودراما تشاهد فيه تحولات الممثل البطل بين عدة أدوار وعدة شخصيات مؤثرة وهامشية ليخرج عليك المعنى المتضمن الذي لا يزيد عن الإشارة لكون ذلك الممثل جيدا ويستطيع التقلب بين الأدوار بنعومة فائقة وقدرة لا باس بها على تلوين الصوت وحركة الجسد، بينما يأتي في مرتبة متأخرة أهمية المعنى الداخلي أو الفلسفة التي تحيط بعالم العرض المسرحي، ومن ثم أهرب من تلك العروض وأعتبرها كاذبة مريضة لن تفيد في شيء، ولكن أن تلعب المونودراما بالمنطق الذي يكشف طبيعة المجتمع غير المعلنة عبر مجموعة من المشاهد السريعة بإطار كاريكاتيري يهتم بتفاصيل الشخصيات الداخلية ويدعم طبيعة الموضوع البسيط فهذا يعني أنك أمام عمل شيق يمكن أن يقدم لك الجديد.
رغم أن العرض الليبي (الكناس) الذي قدمه الفنان الموهوب جمال أبو ميس عن نص ممدوح عدوان ضمن فعاليات مهرجان “مسرح بلا إنتاج” في دورته الأخيرة، يدور في نفس الفلك الذي أشرت إليه (عرض يقدم لممثل يقوم بأداء عدة أدوار)، فإن الموهبة المعتنى بها والقدرة الفائقة على الوعي بطبيعة الشخصيات التي لعبها والاهتمام الكبير بسرعة الانتقال الشكلي والصوتي، أمسكوا بالمشاهدين حتى اللحظة الأخيرة، وبدا العرض مشوقا يطرح لكثير من الأفكار والرؤى ويمر للناس عبر بوابة الكوميديا خفيفة الظل، كما أنه يكشف وببساطة أن كل إنسان يمكن الكشف عنه وعن كثير من تفاصيل شخصيته من خلال (القمامة) الغني والفقير النابض بالحياة والكسول الممسك على الدنيا والمستهتر المحب والكاره النقي والشقية العاهرة والمريض الشرطي والحرامي الفران والصحفي البرجوازي وزوجته، قدم الرجل كثيرا من الشخصيات، وكان سريع الانتقال فيما بينها ويحاول التوسل ببعض الإكسسوارات والملابس والماكياج حتى يقنع المتلقي ويعطيه معاني ومفاتيح الشخصية في عجالة دون أن يشعرك ولو للحظة بالضجر أو يمرر إليك شعور ما بالافتعال، كما أن تلك الطريقة كانت تزيد من الإحساس بكوميديا الممثل الذي يطوع كل العناصر التي يمكنها مساعدته للمواقف المختلفة ويعرضها رغم قسوة بعض المواقف بشكل كاريكاتيري معتني بتفاصيله الداخلية.
كل تلك الأفكار والتلميحات تبدأ وتنتهي عند ذلك الكناس الذي عاد للمنطقة التي كان يعمل بها بعد غياب لمدة ثلاثة أشهر، عاد الرجل بحنين جارف لعمله الذي يحب ليكشف لنا مأساة حياته الخاصة وكيف أن ابنه الوحيد قد طرده من منزله بناء على رغبة زوجته الحرباية التي اتهمته زورا بأنه كان السبب في قتل ابنهما الوحيد نظرا لجهله بكيفيات التعامل الصحيح مع مرض الطفل الصغير، رضخ الابن لرغبة الزوجة دون أن يراجع تاريخه مع الأب الذي ضحى بكل شيء في سبيل توفير معيشة كريمة للابن الوحيد.
يبدأ الحدث الدرامي والكناس يستعرض علب القمامة التي تملأ الشارع ويعرفها واحدة واحدة من خلال معرفته المسبقة بكل أهل الحي ثم يتحول شيئا فشيئا إلى تمثيل دور ومأساة أو ملهاة كل منهم، وينتهي الحدث مع ولادة طفل جديد في منطقة العمل إيذانا ببدء اللعبة من جديد مع جيل آخر قد يجدد الحالات الاجتماعية التي تم عرضها.
أما عن المنظر الذي صاحب العرض، فقد تكدس المسرح بكثير من العلب الكرتون وأكياس القمامة وهناك أطر لأبواب بعض المنازل وعربة الكناس التي يلف بها في المكان المزدحم، وهي طريقة تصور معد ومخرج العمل عبد العزيز الخضيري، إنها مفيدة تماما كإطار للدراما المقدمة، ولكن مع الأسف بدا لي ككيان عائق في معظم الوقت ولم تُفد الممثل في كثير من الأحيان، فقد بدت كعبء على العمل ولم تساعد أحداثه ولا وكانت بأي حال من الأحوال مفيدة لعين المتلقي ومؤثرة في فكرته عن المنظر المناسب، فليس معنى تقديم إطار واقعي يناسب الحدث المقدم تكديس الفضاء بكل تلك المهملات التي كان يمكن اختزالها كي تفسح مجالا للمؤدي كي يأخذ حقه في التلوين الصوتي والحركي.
وعلى جانب آخر، لعبت الأزياء دورا مهما في تكملة الصورة المرجوة وبدت في صورة تليق وطبيعة الشخصيات المقدمة وتكويناتها المختلفة والمتباينة، وهو أمر أعطى انطباعا طيبا لدى المتلقي وإحساسه بأن العمل مدعوم إنتاجيا كي يخرج بصورة طيبة.
ورغم ارتباك الإضاءة في بعض تفاصيل العرض، فإن اجتهاد جمال بو ميس وقدراته الأدائية المناسبة ووعيه الفارق، أعطت إحساس التعاطف مع العمل خاصة، وبعد معرفتنا أن الممثل جاء للمهرجان وحده كي يقدم العمل لجمهور الإسكندرية، وكان مهتما بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، بالطبع حصل على مساعدة المهرجان في الليلة التي قدم فيها العمل من خلال فرق العمل التقنية التي قدمت المساعدة المناسبة للممثل، ولكن أن يأتي مع العرض الممثل فقط دون أي فرد من الفريق المصاحب، فهذا أمر صعب للغاية ويعرض العمل للفشل الذريع.
حقيقة، كنت أنتظر أن يحصل جمال أبو ميس على جائزة أفضل ممثل بالمهرجان، ولكن لجنة التحكيم أعطت الجائزة لمجتهد آخر من فريق العرض التونسي (مقطع) وأعطت لجمال بو ميس جائزة خاصة على أدائه الطيب الذي يبقى في الذاكرة كعلامة على المثابرة والاجتهاد.

 


أحمـد خميس