تسعة ونصف حب.. سيسيولوجيا العرض تتمرد على سيسيولوجيا الواقع

تسعة ونصف حب.. سيسيولوجيا العرض تتمرد على سيسيولوجيا الواقع

العدد 527 صدر بتاريخ 2أكتوبر2017

لا يخفى على أحد أن لكل شعب تقاليده وعاداته ومتغيراته المجتمعية شديدة الخصوصية، ويصدق هذا القول إلى حد كبير على الشعب الصيني صاحب العادات شديدة التنوع والغرابة والحزم.
وعرض «تسعة ونصف حب» يلعب على كسر الإطار السائد وكشف المسكوت عنه في لعبة أقل ما يطلق عليها لعبة التمرد أو هي فعل التمرد ذاته، الذي تدور في فلكه بطلة العرض، والتي تحيا في كنف رجل هو زوجها الذي تعيش معه في جفاء وجمود، فهو لا يشعر بها ولا يمنحها الاهتمام العاطفي، بل ويتعمد كسرها وكبح جماح رغباتها.
لتبدأ رحلتها للتمرد واستنطاق المسكوت عنه مجتمعيًا وداخليًا من خلال عملها كحلاقة وهي مهنة تبدو عادية جدًا في الصين.
لكن لا يقف طموحها عند العمل، بل تعدى ذلك إلى محاولاتها المتكررة إلى قهر الزوج ولو ذاتيًا من خلال الغوص في عالم الرجال والحانات، كنوع من مواجهة الزوج الذي لا يشعر بها في أشد المواقف حرارة وعاطفة، لتبدأ المرأة وكأنها تحيا حياة ميتة في بنية دائرية شديدة التكثيف والحساسية في توازٍ واضح ما بين الواقع الحياتي والواقع الدرامي، إذ قدم العرض أزمة حياتية خاصة جدا، وحالة إنسانية اجتماعية في إطار مسرحي رقيق شكلاً وعنيف في المضمون.
حيث ينتقي العرض شخوصه وفقًا للحالة النفسية والمزاجية التي يختارها من واقع تجارب الحياة.
فهو يقدم لنا شخصيات نموذجية لكل منها صفحاتها وملامحها الخاصة، لكنها لا تملك صفة الكمال، بل تحمل مواطن النقص لأنها من واقع الحياة وليست من نسيج العرض.
واللافت للانتباه أن شخصية الزوجة «مي» هي محور الحبكة المسرحية والمحرك الرئيسي لأحداثها، ثم تأتي بعد ذلك الوقائع ذاتها، أي ما كانت حياتية تحمل طابع التمرد أم واقعية تعد واقعًا يعاش وحياة تمارس مثل الأساطير.
فالعرض ينسج أسطورته عبر التحليل الاجتماعي السيسيولوجي لنفسية تلك المرأة المقهورة والقاهرة في الوقت نفسه.
يحدث نوع من التحول ما بين الزوج والزوجة التي تقوم بدورهما الزوجة «مي» في ذكاء من صناع العرض عبر بنية دائرية في غاية التماسك، بأداء تمثيلي غاية في الإبداع، حيث أصبحت الممثلة هي العلامة في ذاتها حيث أدت بنظام الإنابة تارة وتارة أخرى مثلت ذاتها، فأصبحت أيقونة اجتماعية تلعب عدة أدوار على خشبة المسرح، فجاءت الأحداث المتباينة أشد التباين.
ومن خلال العلامات المرئية المتاحة لنا في العرض نجد البطريق ذلك الطائر ذو الجناحين الذي لا يستطيع الطيران دلالة على من يظن أنه يمتلك الحرية ولكنها بالحقيقة حرية زائفة، كذلك التماثل اللوني في ألوان الطائر وملابس الممثلة البطلة «هوانغ شيانغ لي» ما بين الأبيض والأسود، كذلك التسع فتحات في أرضية الخشبة التي مثلت التسع سقطات في الحب التي أقامتها الزوجة مع رجال غرباء لترتشف منهم الحب الذي حرمت منه بفعل الزوج الجاف والقاسي، وكنوع من التمرد والرد المضاد النفسي والاجتماعي من قبل الزوجة المقهورة.
فجاءت حالة التمرد هذه مضادة للمجتمع الصيني المحافظ بعض الشيء على القوالب الاجتماعية داخل الأسرة والأدوار التقليدية التي تقوم بها المرأة تجاه أسرتها وزوجها على وجه الخصوص، فلقد تخلت الزوجة هنا عن أهم دور لها في الحياة في هذا المجتمع وهو دور الأمومة في حالة من التماهي بعيدا عن الابن وكأنها تعاقبه أنه نتاج هذه الزيجة الفاشلة، فقد نسيت تمامًا يوم عيد ميلاده، ويوم دخوله للمدرسة، في حالة من التمرد الواضح.
فإن الحالة التمثيلية التي خلقتها الممثلة «هوانغ شيانغ لي» تشي بوعيها التام من أدواتها ثقتها بمفرداتها الحركية والجسدية والنفسية خلال انتقالها من شخصية لأخرى بشكل غاية في الدقة والإتقان دون أن تحدث خللاً في دراما الحدث.
ولقد لجأ المخرج إلى استخدام التكنولوجيا الرقمية على مستوى الإضاءة والاستعانة بأجهزة البيم في الإضاءة، وكذلك الشاشات الرقمية لعرض المواد الفيلمية المصاحبة للعرض والخادمة للحدث الدرامي، فلقد لعبت كذلك الميديولوجيا كوسيط هام ومتعدد الأغراض في خدمة العرض المسرحي بدءًا من الكارت الورقي الذي تسلمنا إياه من بوابة الدخول الذي احتوى على علامات سيميائية تحمل دلالات نفسية وإشارية عن العرض وكأنها الرمز الدائري الذي تدور في فلكه هذه الزوجة المتمردة.
فهذه الزوجة في الجوهر تؤدي حدثا واحدا يتحول وشخصية واحدة تتحول، إذ يحشد العرض الكثير من القضايا ويكسبها جميعًا حالة التمسرح لتبدو الأحداث ما بين المحوري والثانوي، الإيجاب والسلب، حدث يتكرر ما بين الزوج والزوجة في إطار من الملل والرتابة الدرامية المحسوبة والمتعمدة إلى حد كبير.
فالعرض يستدعي ما يشاء من قضايا داخل المجتمع وداخل الروح البشرية ليحدث هذا التداخل الدرامي الراقي بين سيسيولوجيا العرض وسيسيولوجيا الواقع وبينهما فعل التمرد.

لمياء أنور

 


إبراهيم جلال

Ibrahim@gmeil.com