د. حمدي سليمان يكتب: الحكي الشعبي في سيناء

د. حمدي سليمان يكتب: الحكي الشعبي في سيناء

اخر تحديث في 11/23/2020 10:52:00 PM

يعيش بدو سيناء وسكان المجتمعات الصحراوية بشكل عام في بيئة تتسم بالصعوبة, بسبب الظروف الجغرافية القاسية، لكنهم مع ذلك يحولون هذه الصعوبة لفن وفلسفة حياة، فتصبح الصلابة والحرارة والجبال والرياح والنار طريقة حياة ومنبعًا للفن بأشكاله المختلفة, والتي منها الحكي الشعبي والشعر والخرافة والألغاز والأمثال والأغنية الشعبية، يعد الحكي الشعبي أحد هذه الفنون التي تعين أهالي تلك المجتمعات على الحياة, خاصة عندما يحمل هذا الحكي سمات البيئة, أو يتم إضافتها عليه في حالة أن يكون وافدًا من بيئات آخري, والحكي الشعبي بشكل عام قديم قدم التاريخ البشرى, ففي البدء كان الإنسان يعيد تصوير مغامرات يومه أمام جماعته عن طريق الحكي الممثل أو التمثيلي, والذي يظهر من خلاله علاقته بالبيئة المحيطة, وأشكال التفاعل معها أو السيطرة عليها, وقد تطورت أشكال الحكي وأنواعه وطرائقه مع تقدم البشرية, وهو ما يشير إليه عبد الحميد يونس في كتابه "الحكاية الشعبية", فمعظم المجتمعات الإنسانية قد عرفت الحكي والسرد القصصي في فجر تاريخها, وظل هذا الشكل من أشكال التعبير ملازمًا لتطور هذه المجتمعات بلا توقف أو فتور, كما أن الملمح البيئي ظل حاضرًا وبكثافة في أشكال الحكي أو السرد القصصي أو الشعري كافة, والحكي بشكل عام هو طريقة من طرق التعبير الإنساني ابتكره الإنسان ليصنع عالمًا موازيًا لعالمه المادي, يرتقي فوقه ويتخفف من أعبائه, فهو يوازي واقعه موازاة رمزية كاشفة, ساعيًا من خلال ذلك إلي تحقيق ضرب من ضروب السيطرة على هذا الواقع, وعاكسًا في الوقت نفسه مجمل قيمه وتصوراته ومعتقداته وخبراته ومعارفه وعاداته وتقاليده, وتتشابه الحكاية البدوية مع باقي الحكايات الشعبية على مستوى البنية والتيمات الرئيسية, كما أنها تتمتع بنفس الخصائص من حيث الانتشار ومجهولية المصدر والمرونة والتوالد. 

 

صناعة البطل:

وفيما يخص شخصية البطل في الثقافة الشعبية, نجد أن هذه الشخصية لا ترتبط بالتفوق الجسدي أو المهارة, وإنما ترتبط عادة بالفعل الجمعي من أجل تحقيق الهدف العام، فالبطل يصنعه المجتمع من احتياجه للثورة على السلطة الظالمة أو ربما من حاجته للانتقام من تلك السلطة, حيث تمثل صناعة البطل في الثقافة الشعبية عامل تهدئة لقلق الجماعة, وتوجسها وخوفها, فهي تغذي الوجدان الجمعي, خاصة إذا كان بطلها يدعو إلى وحدة الجماعة, وتحرير الفرد والعدل الاجتماعي, ويحض على قيم التعاون والتكافل, فالبطل بالنسبة للجماعة الشعبية هو الأب الحامي والمنقذ والمخلص والمكلف والقادر والمرشد والمعلم والإمام, إنه بإيجاز الإنسان الرباني كما يتصوره الشعب, لذا فهو ينتصر بقوته وذكائه من ناحية, وبتعاطف الجماهير ومساندتها من ناحية ثانية, والأبطال بعامة قد تتعدد وظائفهم ومهنهم بين حاكم وقاتل وقاطع طريق ولص, وتلتقى صورهم في الوجدان الشعبي, في صورة المقاوم. يقاوم الغزاة, أو يقاوم السلطة, يقاوم الغزو من الخارج, أو القهر في الداخل, ووفق هذا التصور رأى الكثير من الباحثين أن السيرة الشعبية ليست مجرد وسيلة للترفيه, ليست حكيًا يستمتع المتلقون بسماعه, ثم ينصرف كل إلى حال سبيله, إنها وسيلة دفاعية ضد وقائع التاريخ المعادية لوجدان الأمة وتطلعاتها, وإعادة ترتيب لوقائع التاريخ, بما يعبر عن رفض الوجدان الشعبي وأحلامه وتطلعاته ومقاومته, إنها  تختار شخصًا تاريخيًّا, وتعيد صياغته في إطار شعبي يلبي حاجات الجماعة, ويفسر التاريخ لصالح الناس, صناع التاريخ الحقيقيين, لذلك فإن نموذج البطل يعد بلورة لقيم الجماعة ورصيدها الحضاري, كما يعد تجسيدًا لموقفها من التاريخ, أي من الماضي والحاضر والمستقبل. وحين ينشد الرواي مواويله وحكاياته للمتلقين, فهو يدرك أنهم من عامة الشعب, ومن ثم يحاول أن يلبي احتياجاتهم النفسية والوجدانية, ويغذى آمالهم في مقابل الإحباطات السياسية والنفسية والاجتماعية التي يعانونها. إنه يشبع احتياجاتهم ويرضيها, ويستخلص البطل من وجدان الشعب, ويعيد صياغته بحيث يحمل كل الملامح والإيجابية التي تحب الجماهير أن تجدها في زعمائها, بل إن الراوي يبدل في الشخصية التاريخية, يحذف منها, ويضيف إليها, بما يوافق نظرة الشعب الى تلك الشخصية, أو النظرة التي نأمل أن تكون عليها, فثمة ملاحم صدرت عن الشعب المصري, وعاشت قرونًا وقرونًا, ولكن بعضها فقد وظيفته الأصلية في التعبير عن الوجدان القومي, لذلك طرحها جانبًا, ونحاها عن تراثه, وما لبث أن نسيها جملة وتفصيلا, ولم يبقَ منها في خلده إلا عناوينها.

وشخصية البطل يحيطها الخيال الشعبي بالقصص والحكايات والمعجزات والخوارق, بما يجعله بطلًا على مستوى الوجدان الشعبي العام, والعادة أن البطل الشعبي لا يكتسب بطولته المطلقة في حياته, ولا بعد رحيله بسنوات, وإنما يحتاج الى أعوام لتنقية سيرته, وانتخاب ما يجب إظهاره, حيث تٌسقط الجوانب السلبية من سيرة حياته, فلا يبقى إلا الإيجابيات, نذكر هنا سيرة الظاهر بيبرس فقد استبعد الوجدان الشعبي منها الخدوش والعيوب ولم يستبق إلا الملامح الرئيسة التي أرادها من البطولة الخارقة, والقوة الجبارة في التصدي للأعداء وهزيمتهم.

 

الملامح البيئية في الحكي البدوي:

تشكل العناصر البيئية في المجتمعات الصحراوية نسقًا عامًا متكاملًا يتحكم في مجمل حياة الأفراد, وتتجلى صوره في أنماط السلوك وطبيعة العلاقات, والنظر للعالم المحيط, فالأفراد في المجتمع البدوي جزء من منظومة كبيرة تتفاعل عناصرها من أجل خلق حالة من التوافق والتعايش, حيث تؤثر الأوضاع والظروف البيئية المتمثلة في التقلبات المناخية وارتفاع درجة الحرارة, والرياح الترابية وعدم استقرار المطر, والاعتماد بالتالي على المياه الجوفية من آبار وعيون تؤثر بشكل قوي ومباشر على الحياة, كما أن ثقافة المجتمع هي نتاج هذا التفاعل, فهي صورة للبيئة التي أنتجتها، وصاغتها لتعبر فيها عن عاداتها وقيمها ومُثلها في الحياة، كما تتجلى تلك الثقافة في فنون وآداب تلك المجتمعات البدوية, حيث إن التناغم والتفاعل القائم بين الإنسان والبيئة, تتجلى صورة في مناحي الحياة كافة, فالفرد هنا ابن بار لهذا الفضاء المتسع يعرف أسراره ويدرك حكمته ويتقن شروط اللعب معه, حيث تشكل المجتمعات الصحراوية في عمومها إضاءات غامضة مكتنفة بالأسرار, ومحيرة, وتحت مظهرها اللانهائي عالم غني, وغزير يتكشف لمن يسعفه, الوقت ليلاحظ ويتفهم ويتساءل.

-----------------------------------------

*د. حمدي سليمان: باحث في أطلس المأثورات الشعبية، مدرس علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بكلية الآداب جامعة العريش.

 


محرر عام

محرر عام

راسل المحرر @