بدا في الظلام كسنام جمل خرافى

بدا في الظلام كسنام جمل خرافى

اخر تحديث في 3/3/2020 12:11:00 AM

 

(كوبرى) بدا في الظلام كسنام جمل خرافى، يبدو أنه تعبير خرافى أو عبقري، لكاتب محترف ألا وهو الكاتب الروائى عبد العزيز موافى، فقد أتحفنا بروايته الطريق إلى رأس العش التى تمت طباعتها بالهيئة العامة لقصور الثقافة على مدار ثلاث سنوات (لطبعتين) بذات العنوان ولكن الطبعة الثانية كانت أثرى فى الأحداث والقصص نتاج سير الأبطال والملاحم التى لا زالت فى الظل لا يعلم عنها أحدًا شئ.

لم يغفل الكاتب أسماك الدينيس والبوري و أعواد البوص خلف الكوبرى المُنكسر الحزين، وكثافة السكون التى تداعبها موجات الهواء القليلة، لم يترك المشهد إلا أن يصفه من وجهات مختلفة، فبعد أن شبعنا من السمك البورى والدينيس إسترحنا ونظرنا إلى السماء صاحبة المنظر الرائع المألوف (صافية خالية من كل شئ عدا النجوم) يصف كل هذا الذى إنطبع فى عقله كصورة يعرفها أكثر من نفسه لمدة خمس سنوات والتى تمثل كل خدمته فى هذا المكان (نقطة حراسة).

"استند إلى جدار نقطة الشرطة العسكرية، فى انتظار عربة تكون متجهة إلى طريق المعاهدة. تأمل البانوراما المحيطة به ليقطع الوقت. كان الظلام يلف الكون، فلا يرى سوى انعكاس ضوء النجوم على الخراب المحيط به.

على بعد أمتار قليلة، يربض كوبرى الرسوة نصف غارق في مياه القناة الداخلية، بعد أن دمرته الطائرات الإسرائيلية. كان قد تقوس جزءً منه، فبدا في الظلام كسنام جمل خرافى.

من خلفه كانت ملاحات المنزلة ساكنة، إلا من بعض الارتعاشات التى يحدثها الهواء القليل، أو من حركة مفاجئة لأسماك البورى والدنيس، ثم لا تلبث أن تعود إلى سكونها الموحش. كانت أعواد البوص التى تتجمع في جزر سوداء صغيرة، تزيد من كثافة هذا السكون.

اتخذت السماء وضعها المألوف فوقه، كادت تكون شبه خالية إلا من بعض النجوم. استطاع أن يميز من بينها الدب القطبى في توهجه المعتاد. جمعته بهذا النجم ألفة نادرة بدأت منذ أول نوبة حراسة كلف بها، واستمرت طيلة خمس سنوات هى كل مدة خدمته.

كان يتوسط السماء - مثله - وحيداً. كل النجوم تشير إليه، لكنه يحتفظ بمسافة دائمة بينه وبينها. فبينما تدور من حوله يظل متمسكاً بثباته في مركز دائرة الكون الرهيبة، منتظراً أن تتبدد طاقته بعد عدة بلايين من السنين، فيتلاشى.

كثيراً ماكان يتساءل عن وجود أوجه تشابه بينه وبين هذا النجم، كى يفسر- من خلالها - سبباً لارتباطه به. ربما كان التوحد أكثر مايربطهما معاً،والإحساس بالتفرد عن كل مايحيط بهما.

على جانبه الأيمن، ظهرت مجموعة "كاسيوبيا"، ذات النجوم الخمس. بها يستدل على وجود الدب القطبى، وبالدب القطبى يستدل على اتجاه الشمال. وبتحديد اتجاه الشمال تتم لعبة "بسيطة". تبدأ بعدة عمليات حسابية فوق الخريطة، لتنتهى بالدمار فوق الأرض.

قرأ ذات مرة أن "كاسيوبيا" تعنى الملكة الجميلة.

 

(- إنها أنا

- ....

ألا يرضيك أن تشير إليك ملكة جميلة مثلى ؟؟

- سامية !!

- أنا كاسيوبيا).

أدرك أن وقتاً طويلا ًمضى على وقوفه، حين بدأت مجموعة المغرفة في الظهور بدورها، لتتآذر مع الدب القطبى في تحديد اتجاه الشمال.

- ساعتان ؟

سكنت المجموعة - بنجومها السبع - على يسار الدب القطبى لتدل  بدورها عليه، وكأنه محور الوجود.

 

( لن تستدل على وجودك إلا بالملكة الجميلة والمغرفة

- ....

- أى الجسد والخبز

همس في أسى:

- وروحى ؟ )

 

 تلفت في اتجاه بور سعيد،حين التقطت أذنه اليسرى صوت محرك يأتى من بعيد، كطنين داخل حلم.

طرح نفسه أرضاً، وألصق أذنه بالأرض، فاتضح الصوت.

هب واقفاً وقد انتعشت روحه، حينما أدرك أن هناك عربة قادمة، مما يعنى قرب وصوله إلى موقعه، كى يتخلص من إجهاد السفر، ومما تبقى في معدته من الطعام (الملكى).

لمح النور العالى لعربة تقترب

 

انتبه جندى الشرطة للصوت القادم، فوقف أمام سدادات الطريق، وبعد عدة دقائق توقفت العربة أمامه، توجه إلى السائق الذى كانت لهجته تشير إلى أنه اسكندرانى:

- ترخيصاتك

تفحص الجندى الأوراق على مهل:

- على فين يادفعة؟

- التينة

- خد الدفعة معاك لحد الكيلو 19

كانت العربة قديمة، أو- بمعنى أصح - مستهلكة، من طراز زيل 157، وهى إحدى عربات الشئون الإدارية  التى تستخدم في نقل الأطعمة والمياه للوحدات. حاول أن يفتح الباب بصعوبة، فلم يتمكن. ساعده السائق بدفع الباب من الداخل. جلس بجوار السائق صامتاً، أخرج علبة سجائره، وتناول منها واحدة، وحين أشعلها أحس بأن الدخان يكاد يشرخ حلقومه. كانت علبته الثالثة خلال اليوم.

رحب به السائق:

- مساء الخير ياحلاوة

ثم أردف ضاحكاً:

- نكونش قاعدين فى بنزينة؟

تذكر أنه لم (يتحّى) السائق، فأحس بالحرج، أخرج العلبة مرة أخرى، وناوله سيجارة:

- لامؤاخذة

- جاى من أجازة؟

- أيوه

ابتسم السائق الذى كثيراً مامرّ بمثل هذا الإحساس، والذى يمكن تسميته"فوبيا العودة".

- علشان كدة !! أجازة سعيدة ياعم

 

سعيدة !!

خمس سنوات مضت منذ التحاقه بالخدمة العسكرية.

في السنة الأولى احتمل قسوة الحياة العسكرية التى ينفر منها بطبيعته، باعتبار أنها مدة خدمة إجبارية. أما السنوات الأربع بعد استبقائه، فقد كانت كابوساً.

ظن أنه بمرور الوقت قد يتأقلم على حياته الجديدة، لكنه فشل، وفقدت كلمة السعادة ومشتقاتها كل معنى. قطع عليه تفكيره صوت السائق وهو(يسلّى طريقه)،ويغنى إحدى أغانى الجنود الشهيرة:

"الحلو فايت على دمياط

بنى له مصنع للستات ..

ستاته حلاوة"

ومع حركة لسانه، كانت يده تتحرك على آلة التنبيه، وجسده يهتز بتوافق جميل مع النغم.

 

( فتحت سامية باب العربة المسرعة، أزاحته جانباً ثم جلست إلى جواره، قبلته بحرارة فوق شفتيه، وألقت برأسها المحاط بغابة من الشعر الأصفر فوق كتفه الأيمن، كان مستسلماً لها كعادته، وكانت متنمرة كعادتها).

 

اقتربت العربة من نقطة مراقبة العدو في الكيلو 14، ثم انحرفت بشدة مع دوران الطريق الذي ينحنى إلى جهة اليسار. لم يهدئ السائق- في غمرة نشوته- من سرعة العربة، اهتزت سامية إلى جواره بشدة، وتعلقت به.

 

تذكرها حين جذبته من ذراعه، والرصاص يدوى في ميدان التحرير، أثناء مظاهرات الطلبة فى العام1968، وقتها كان في ليسانس. حاول أن يتخلص من قبضتها دون جدوى، كانت تحتمى به، أكثر مما تحاول أن تحميه.

تمنى لحظتها أن يموت برصاصة طائشة،أو غير طائشة، حتى تتوقف الحياة عند هذه اللحظة، المهم أن يموت.

لقنه بعض أساتذته أن الموت هو الحقيقة المطلقة

لم يكن يبحث عن الحقيقة، لكنه كان يبحث عن الخلاص، مثل أبطال البير كامى الذين تنتهى حياتهم بالموت دائماً.

ورغم أنه قرأ حواراً لكامى ينكر فيه تقديسه للانتحار، باعتبار أنه يقدم الموت في أبشع صوره حتى يرفضه الإنسان، إلا أنه - وبتأثير من بعض الأفكار العدمية- ظل مؤمناً بأن خلاصه في موته.

وبين الوجودية -التى آمن بها- والعدمية التى اجتذبته،ظلت حياته تتذبذب في انتظار لحظة التنوير، التى يتحدث عنها السينمائيون دائماً.

 

تمنى فى هذه اللحظة أن يلقى بجسده على الفراش لينام.كان مجهداً، وكان إجهاده النفسى يفوق إجهاده الجسمانى.

 

 

("الموت رحلة نوم طويلة بلا كوابيس".

ضاع صوته وسط الرصاص، والهراوات المطاطية وهو يصرخ:

أريد أن أنام

اخترق كتفه سيخ من الحديد المحمى، فارتمى على صدر سامية، التى جذبته مع آخرين إلى داخل قهوة "أسترا"القائمة بميدان التحرير،

ونـام).

 

فجأة سمع زمجرة فرامل العربة، وصوت السائق يأتى إليه من بعيد:

- حمد الله ع السلامة ياحلاوة

وقفت العربة .

 

(قفزت سامية إلى الملاحات، مع صوت الفرامل، اختفى نصفها السفلى بين أعواد البوص المتناثرة وحقول الألغام، أشارت له بيدها كعروس البحر، ثم اختفت في الماء)

هزه السائق بيده:

- الكيلو 19 يادفعة

انتبه فجأة:

- ألف شكر

لوح له بيديه وهو يضحك، واستمر فى الغناء:

" الحلو فايت على أسوان

بنى له مصنع للنسوان..

نسوانه حلاوة"

شكر السائق بعد أن نزل من السيارة، ومضى في طريقه المظلم، والذى يبدو له بلا

نهاية. تباعد صوت العربة، واختفت في منحنى الذاكرة، ثمتلاشى ضوؤها كى تصبح

الظلمة سيدة المشهد."

 

من رواية (الطريق إلى رأس العش) الكاتب عبدالعزيز موافى الهيئة العامة لقصور الثقافة 2013


محمد ابراهيم

محمد ابراهيم

راسل المحرر @