إسماعيل فهد إسماعيل .. عاشق المسرح

إسماعيل فهد إسماعيل .. عاشق المسرح

العدد 598 صدر بتاريخ 11فبراير2019

أمران يربطانني بهذه الكتابة ويشدانني. الأول، أن شطرا من الدراسة النصيّة في كتابي «الرؤية السياسية في المسرح الخليجي»، كنت قد تناولت فيها تجربة إسماعيل فهد إسماعيل المسرحية حينما تطرقت إلى المضامين السياسية في المسرح الخليجي، وخصصت النقاش حول (ملف الحادثة 67 الصادرة عن دار العودة 74 - 1978م) وتداعيات تلك الحرب وانعكاساتها النفسية الحادة على البطل، وهي المسرحية التي كتبها إسماعيل بجوار ثلاث مسرحيات هي: النص (1982)، وللحدث بقية.. ابن زيدون (2008م)، و(عهد الرمل) التي لم تُطبع حتى اليوم.
أما الثاني، فيتمثل في قلة وجود دراسات مسرحية تناولت نصوص إسماعيل، وسبب ذلك في المقام الأول يكمن في قلة مسرحياته، على عكس اشتغاله بالرواية، فله ما يربو على الأربعين رواية. وفي الجانب المسرحي البحثي؛ صدور دراستين مسرحيتين في سنة 1981، الأولى (الكلمة - الفعل في مسرح سعد الله ونوس)، و(الفعل الدرامي ونقيضه.. دراسة في أوديب) وتعدّان من الدراسات الخليجية القليلة في زمنهم، إذ تكشفان عن جزء من الاشتغال الفكري الذي ظل يلازم إنتاج إسماعيل فهد السردي بوجه عام. ويحدونا الأمل أن تصدر جميع مسرحياته ودراساته في كتاب.
ولاجتماع الرابطين، جاءت هذه الكتابة المقتضبة، لتحتفي - إن شئتم - بذكرى ميلاد الراحل إسماعيل فهد إسماعيل (1 يناير 1940 - 25 سبتمبر 2018م) فقد عاش الراحل حياة أدبية إبداعية كاملة، ظل فيها وفيا للكتابة التجريبية وحياتها.
لا يلغي الريادة الإبداعية الروائية لإسماعيل، دوره التأسيسي في الكتابة المسرحية ذات المضامين السياسية خليجيا. فهو بروايته الأولى “كانت السماء زرقاء، رواية القرن العشرين” (1970م) وبشهادة الشاعر صلاح عبد الصبور، يشق حجر الأساس لنشأة فن الرواية في الكويت، ويفتح لنا كمسرحيين في (1974م) الباب على شرارة مغامرة التجريب الحادّ؛ التجريب الذي لا ينتمي لأي شكل أو صيغة محددة، إلا التجريب وحده، من دون التضحية بدراما المضمون أو إهمال رؤيته الخاصة لتشكيل النص المسرحي.
وتُشكِّل مسرحيات إسماعيل تحديا من نوع خاص للباحث الناقد وللمبدع معا، لا سيما، ظهورها في بيئة خليجية تعتمد الشعر وفن الصوت، وألوانا شعبية كالسامري، والخماري، والعرضة مرتكزا ومنطلقا، وغناء البحر واقعا في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية. فالناظر إلى مسرحياته الوليدة في مجتمع محلي غارق آنذاك في الانتقال من البداوة والصحراء، إلى المدنية والتحديث، يوقفه انشغال إسماعيل فهد في ذلك التوقيت بالكتابة التجريبية، وتناوله لقضايا عربية كبيرة كالقضية الفلسطينية، والابتعاد عن تناول قضايا التربة المحلية الصرفة! ولا نقول هنا بإكراه المؤلف اختيار قضايا بعينها، أو إلزامه بتوجه ما، فالمؤلف حرٌّ في المطلق يختار ما يراه مناسبا لفكره وحساسيته تجاه الأفكار، كما أننا لا نعتب عليه رحمه الله، ففي هذا السياق، هل عتب أحد، أو تندر، أو تفلسف، أو عاب على الفنانة التونسية جليلة بكار كتابتها مونودراما (عايدة) وهو نصٌّ تطرقت فيه إلى قضية امرأة مهجّرة من فلسطين.. إلخ وغيرهما الكثير.
لقد جعل هذا الاختيار، من مسرحيات إسماعيل فهد إسماعيل، مدخلا من مداخل التحوّل الحاسم في مسار الكتابة المسرحية في الخليج بوجه عام. وأن قصور الالتفات إليها – كما أسلفنا - هو اعتداده بفن الرواية كمخلّص للبشرية من التشوه أو الاندثار المجازي، وكذلك قدرتها الجمالية الخالصة للتعبير عن تحولات التاريخ والمجتمع المحلي، والاشتباك مع فن الرواية، يجعل مؤلفها أكثر انتماء إلى لغة العصر.
ومن ناحية أخرى، وهذا ما يقرّه العارفون بالمسرح، أنّ تجريب الكتابة على الخشبة، يتطلّب اشتغالات متعددة، وجاهزية فنية عالية، واستعدادا مجتمعيا يقظا يمتلك ذهنية متجددة قادرة على التطور دون أن يغفل المؤلف ذائقة التلقي المجتمعي، فالمسرح فن مرّكب وجهازه معقد. وإزاء هذا الاشتباك المتداخل بين مجتمع محافظ بدأ استقلاله، ومؤلف طليعي قرأ مكتبة كبيرة، أرى على الأرجح أن ما دفع ناشر مسرحية (ملف الحادثة 67) إلى تجنيس كلمة «رواية» ووضعها على غلاف كتاب المسرحية، كان هدَفَه مخاطبة القراء، وكسب ودهمّ؛ من حيث إنهم كانوا يشكلون توجه الذائقة المهيمنة والمستقبلة لفن الرواية آنذاك في المرحلة التاريخية الخليجية المتحولة.
وإذن، كان التحدي مظهرا من مظاهر المغامرة لدى الباحث الناقد، فهو أيضا كذلك لدى المؤلف المغامر، فلا يكتفي (الباحث والمبدع) الوقوف عند تخوم التأسيس، بل عليهما تطوير أدواتهما مرحليا، وأرى ذلك بوضوح في مسرحية (للحدث بقية..) فقد أضفى عليها إسماعيل فهد قوة للفعل الإبداعي باتساق كبير بين الشكل والمضمون، وبين الفرد والمجموع، وبين العلاقة الجدلية الشائكة الأزلية التي بين المثقف ونظام السلطة وأنظمة الحكم. فعلى صعيد القضية المركزية - قضية الحرية الإنسانية والفكرية والعدالة الاجتماعية - التي لم تغب عن وعي إسماعيل فهد، لا وجوديا ولا سياسيا، طلع إسماعيل طلوعا جميلا من فضاءات الفلسفة الوجودية في مسرحيتي (النص وملف الحادثة 67)، بتجليات بيرانديللو، إلى أطروحات برتولد برشت الملحمية في مسرحية (للحدث بقية...) لفضاء استقلال الهوية العربية بوجه عام، والتأكيد على استقلال الفرد المبدع عن المؤسسة.
لقد وفق إسماعيل في اختيار تمثيلات شعرية جاءت على لسان شخصيات المسرحية، وملتصقة تلك الشخصيات بالجماهير الثائرة، ومحرّضة إياها على صناعة الأمل وهي تخوض معركتها في عالم يصفه إسماعيل بعالم «لا يصمد أمام المتغيرات»، بغية إنعاش ذاكرتنا، وذاكرة مسرحنا العربي لواقع غدا متوحشا، وموحشا أمام مرايا هزائم البارحة والتاريخ المتكررة.
شكل (ملف الحادثة 67) مرموزا أحادي التلقي في حين جاءت (للحدث بقية.. ابن زيدون) خطابا مؤمنا بالصيرورة والتجديد لمجتمعات عليها أن تستقبل الاختلاف في الفكر، فلا تتخندق في خطابات الطائفية المقيتة، كي لا تكون الكتابة المسرحية عاجزة عن رسم ذاكرة متجددة لمستقبل إنسانها.
إنّ مسرحية (النص) هي محاولة تجريبية شابها بعض الالتباس والغموض، ويمكن تفسير ذلك بما يشوب البدايات في كل أمر من أمور الفنون الإبداعية. إننا نقرأ تجليات من المدرسة التعبيرية المتداخلة بالرمزية، وهو اشتغال مبتكر على صعيد التقنية، وقد تجاوزهما إسماعيل فهد إسماعيل بحركة حيوية في (ملف الحادثة 67، وللحدث بقية..) وعند هذه النقطة، أتلمس صوتا أو وصية أقرّها إسماعيل في منجزه السردي والنقدي خلال نصف قرن من الكتابة يتمثل في أن ليس أمام أي باحث أو ناقد أو كاتب تخييلي، سوى السير على طريق التجريب، دون النظر إلى الوراء، فالابتكار بالإبداع غايتنا، مبتدأنا ومنتهانا.

 


آمنة الربيع