المسرح العراقي .. رموز التحدي والإبداع إبراهيم جلال

المسرح العراقي .. رموز التحدي والإبداع إبراهيم جلال

العدد 524 صدر بتاريخ 11سبتمبر2017

كأن المسرح لعنة على عشاقه.. والعشاق يدفعون الثمن غاليًا.. وغالبًا يخسرون كل شيء حتى حياتهم..المسرح لا يروي ظمأ العشاق أبدًا، ويستولي على كل شيء: القلب والروح والعقل، والجمهور المتجدد في كل ليلة ينسى هذه الشموع.
شمع الشموع طريقًا حيثما أطل ظل الموت تأتي ذكراكم ببشاشة الوجوه فيسيل دمع القلوب قبل العيون.. فهل للشموع بأن تساعدني؟ كي ترسم لي على كفيها نبراسًا ليضيء سراب من حملوا بصمت رهيب حين عزفت أبواق القبور...
خير ما نهدي لهذه الكواكب المضيئة في إبداع وسجل تاريخ بلاد الرافدين المسرحى.. الذين كلما ذكرت أسماؤهم ساور القلب الحزن وغاب الحلم الجميل... كقصور شيدت على الرمال... فهل غفت تلك الشموع؟
وأنا أقتفي أثر ندائي بصمت وأمامي سفرٌ من المبدعين... أمضيت وقتًا أسافر بين السطور وأستريح بمحطات تلك الأسماء فأخبرتني الحروف بلغة المصلوب والمجنون، وقلمي يتراقص على الأشلاء فإذا بالكلمات تغنيني بعطر أرواحهم، ونور إبداعهم، فتناولت أوراقي ووضعتها أمامكم وفي محطات التألق، لعلها تنير لأجل المتسلقين والزائفين... هنا أبصرت حشدًا من نجوم الفن والمسرح والأدب والنقد والشعر والتمثيل احترقت دماؤهم، وخفقت قلوبهم، واهتزت نفوسهم مقابل صمت الملايين، فينفتح جدار الزيف الحالك ببصيص أمل في مداركم (جريدتكم مسرحنا) فاهتز ضميري، وأقتفي الأثر كي أعبر، وإن شاء الله أتوفق في أن أسأل النخيل...
عن تلك الجراح التي مسها الليل والشموع غابت.. فيعلو صدى بلادي بدمي وقد انتثر على جسدك أثر تلك الجروح.. أصبحت زرقاء داكنة.. وأنا شاردة أرتجف شوقًا وحنينًا صارخة: سنعود..سنعود يومًا فتشهق الأرض وتهوي السماء بخشوع لكم... فليس في فضاء العراق غير أغنية سئمتها الرياح الصفراء.. ومزقها رثاء الأنين لغيابكم أيها الحاضرون بذاكرة العراقيين والعرب بل والعالم أجمع...
الأستاذ الدكتور الفنان المبدع المتمرد الذي لم ولن يقتنع بأي عمل إلا بالإضافة والحذف من أجل الأفضل والأجود......
إبراهيم جلال (1)
بداية لا بد أن أعترف أنني تراجعت خوفًا من ألاّ أوفق أو أوفي هذا الشخص الرائع الشامخ المعطاء بل المجاهد رغم الصعوبات التي واجهها مع زملائه من مضايقات واعتقالات إلا أنه أثبت وبجدارة إلى آخر الوداع الأخير..
فرغم ذلك بذلت جهدًا وقبلت تحدي القلم من أجل قناعتي أن رموز التحدي والإبداع يستحقون ما بذلوا من جهود في أفاق رحبة في الفن سواء مسرح أو سينما..تمثيلاً وإخراجًا. فكلما تأملته اقتربت بخطوات إضافية من أبرز رموز المسرح العراقي....
الدكتور ( إبراهيم جلال) ممثل عراقي تخرج في معهد الفنون الجميلة عام (1945) اسمه الكامل (إبراهيم محمود جلال)، فوالده المحامي أحد كبار الأعيان في بغداد ومن موظفيها الكبار، تقلد من المناصب الحكومية الهامة وتنقل بين مختلف ألوية العراق (أي كانت تسمى أقسام العراق، لواء مفرد ألوية وهي الآن محافظة) لكنه استقر في فترة دراسة ابنه (إبراهيم جلال) فترة المرحلة الابتدائية حيث كان يشغل منصب (متصرف) محافظة الحلة (بابل)..
اختلفت الدراسات حول تاريخ مولده... ما بين (1921_1923_ 1924) في بغداد منطقة الأعظمية...
برز بتفوقه بين زملائه بالدراسة وكان أساتذته يبرزونه في الاحتفالات والمناسبات التي تقام بالمدرسة.. والده أول المعجبين بمواهبه المبكرة في إلقاء الخطب والكلمات وتقليد الشخصيات وأصوات الطيور والحيوانات، وقبل أن يكون فنانًا وممثلاً له هوايات وتفوق فيها ومنحه الله الشهرة في ميدان الرياضة.. فنال بطولة العراق في الملاكمة لوزن الريشة (1938 -1939) والقفز العريض (1940 -1941) وفي رمي القرص (1943- 1944)...تخرج في معهد الفنون الجميلة عام 1945 فرع التمثيل دخل المعترك الفني من أوسع أبوابه.. مارس الإخراج أيضًا وحصل على زمالة دراسية إلى إيطاليا بمعهد السينما التجريبي الحكومي في روما إلا أن الزمالة الدراسية سرعان ما سحبت منه فاضطر إلى الرجوع مدرسًا في معهد الفنون الجميلة، وفي سنة 1950 شغل منصب رئيس قسم التمثيل للمسرح في قسم الفنون المسرحية، وفي نفس السنة تعرف إلى الأستاذ الراحل (يوسف العاني) طالبًا متميزًا يقود جماعة (جبر الخواطر)، فنشأت بينهما من يومها علاقة صداقتهما، أثمرت عن تأسيس فرقة المسرح الحديث، وأصبح رئيسًا لفرقة المسرح الفني الحديث التي أسسها عام 1952 م، عمل بالإخراج في منتصف الخمسينيات مساعدًا للإخراج في فيلم (من المسؤول؟) للمخرج عبد الجبار ولي...
فيلم سعيد أفندي (للمخرج كاميران حسني)... ثم سافر إلى الولايات المتحدة حيث نال شهادتي (البكالوريوس في عام 1961 والماجستير عام 1963 م من المعهد الفني التابع لجامعة شيكاغو.. بعد عودته لبغداد واصل نشاطه الفني في مجالات المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة والتدريس... إبراهيم جلال متنوع المواهب قدم للسينما والمسرح والتلفزيون والإذاعة طوال أكثر من خمسين عامًا من النشاط في الوسط الفني تمثيلاً وإخراجًا وتدريسًا في معهد الفنون والأكاديمية وفرقته المسرحية وفرقة المسرح الوطني. عام 1967
عمل أستاذًا في وزارة التربية للمملكة السعودية و أسس معهد بغداد للمسرح التجريبي عام 1969. عمل مستشارًا للمسرح في وزارة الثقافة في أبو ظبي (1981-1986). ونال شهادة الدكتوراة بأطروحته حول (نظرية التغريب البريشتي).
من أقوال الأستاذ الدكتور والفنان القديرإبراهيم جلال: كيف نجدد؟
والتجديد لشيء موجود أصلاً... إذًا عندما لا نملك شيئًا أصلاً اسمه المسرح فكيف لنا أن نجدده؟ إذ إننا نضيف إلى رصيدنا خبرة ما لم يسبق أن مرت علينا من تجارب المسرح العالمي لأول مرة... فهذا نسميه جديدًا وليس تجديدًا.. فكما عرفناه متمردًا فهو هادئ وساكن، فلا يقف عند حدود، فلم يقتنع بأي عمل إذ يضيف إلى العمل سواء عرضًا أو إنجازًا فليس من السهل التعامل معه، الذين شاركوه بالعمل يفهمون ويستوعبون كل ما يريد.. فهو نفسه لا يعرف ما يريد على وجه الدقة لأنه في حالة الصيرورة المتواصلة في الصورة واللاشعور...
كانت له علاقات صداقة واسعة بزملاء العمل والوسط الفني مسرحًا وسينما وتمثيلاً وإخراجًا ومن أبرز أصدقائه العرب:
الأستاذ الكاتب الروائي الكبير (السيد حافظ) الذي قال عنه في مذكراته المسرحية: قابلت إبراهيم جلال في مصر عام 1976 وتعرفت إليه وإلى قاسم محمد ويوسف العاني ولفت انتباهي أن القامات الفنية التي تعمل معه مثل (قاسم محمد, سعاد العبد الله, يوسف العاني) الكل يتعامل معه باحترام شديد وبتقدير، ويحترمون عبقريته الفنية وشد انتباهي تواضعه الإنساني ووقاره الشديد، والمرة الثانية قابلته في الكويت حيث كان في المنفى الاختياري فى الثمانينيات فقد بدأت الهجرات الفنية من العراق إلى دول الخليج وأوربا ولم يحالف الحظ الحركة الفنية في دولة الإمارات، ففشلت في استيعاب قدراته الفنية كمًّا وكيفًا، وفشلت من قبل في استيعاب المخرج التونسي (المنصف السويسي) فلجأ إبراهيم جلال إلى الكويت، فلم يستوعبه المعهد العالي للفنون المسرحية، فقد كان هناك تحسس من وجود الكفاءات العراقية ولذلك احتواه الصحفي والكاتب والفنان (نجم عبد الكريم) وكان المسرح الشعبي بقيادة أحمد العدساني يستوعب الكفاءات العربية.
قدم إبراهيم جلال تجربة مسرحية مع الفنان نجم عبد الكريم... ولكنها فشلت ربما بسبب العداءات الكثيرة للدكتور نجم عبد الكريم بسبب صراحته ومقالاته وربما كان النص ضعيفًا.. ربما العداء الخفي للعراق وحساسية الحدود.. فأصابه مرض السكر الذي فتك به بالكويت
رحمه الله كان فنانًا عظيمًا...
ومن زملائه بالعمل المسرحي والتلفازي والميداني:
جعفر السعدي... عبد القادر ولي... عبد الجبار ولي.. كريم هادي الحميد.. خليا شوقي...يحيى فائق.. وكان معظمهم يقود فرقًا مسرحية ويعمل فيها...
أما أهم الأعمال التي قام بالتمثيل فيها أو إخراجها
في عام 1930 م تعرف إلى المسرح بشكل مباشر بعد زيارة فرقة حقي الشبلي مدينة الحلة وعرض مسرحية (مجنون ليلى) لأحمد شوقي التي حصلت على جوائز تقديرية وتكريمية عديدة محلية وعربية..
مثل في أفلام (القاهرة – بغداد) إخراج المصري (أحمد بدر خان)
 -(عليا وعصام) إخراج الفرنسي (أندريه شوتان)
(ليلى في العراق) إخراج المصري (أحمد كامل مرسي)
1948 م : مسرحية (شهداء الوطنية) بالاشتراك مع عبد الجبار توفيق ولي.. قدمتها الفرقة الشعبية للتمثيل وضمت عناصر تخرجت من قسم التمثيل في معهد الفنون الجميلة منتصف الأربعينيات.
شايف خير للمخرج (محمد شكري جميل) وأصبح مديرًا فنيًّا لفيلم (الحارس) أخرجه الفنان الراحل (خليل شوقي) فيلم (سنوات العمر) و (الأسوار) للمخرج محمد شكري جميل... (فيلم الرأس) للمخرج فيصل الياسري (الأيام الطويلة) للمخرج... توفيق صالح .
كرم الراحل إبراهيم جلال نقيبًا للفنانين وكرم مع العاملين في فيلم (الأسوار) الحائز على جائزة (سيف دمشق الذهبي) من قبل رئيس الدولة عام 1979 باحتفالات القطر آنذاك بيوم المسرح العالمي ببغداد، وكرم وتوج في أكثر من مهرجان مسرحي عربي منها في (القاهرة وقرطاج ودمشق) كما قام بتمثيل أفلام عديدة منها (فائق يتزوج) إخراج إبراهيم جلال...(الفارس والجبل) للمخرج محمد شكري جميل.. وخاض الإخراج في فيلم (حمد وحمود) الذي قام بيبطولته كل من (الأستاذ حسين نعمة, والأستاذ أحمد نعمة, ونخبه من نجوم الفن العراقي...
أخرج أبرز مسرحياته منها (مقامات أبي الورد, البيك والسائق, آني أمك ياشاكر, الملحمة الشعبية, عقدة حمار, الطوفان, الأسود والأبيض, المتنبي, وآخرها: الشيخ والغانية) وقد أصيب بمرض السكر واستمر بالعطاء والعمل والإبداع... إبراهيم جلال من الرواد الأوائل في العراق يستحق ما ذكر عنه، يكفي أنه حيٌّ في قلوبنا وذاكرتنا ولا نزال نشاهد أروع الأعمال التي مثلها وأخرجها.. ويختم لنا الفنان العبقري إبداعه بعد أن بتر ساقه وهو يقوم بتصوير عمله الأخير (الوداع الأخير) يفارق الحياة وينتقل إلى رحمة الله في يوم(29أغسطس 1991 في بغداد)
هذا ما أكدته الدراسات وذكره الأستاذ (عدي خليل في دراسته إبراهيم محمود جلال في 17 يوليو2016) وبتأكيد من أولاد الأستاذ الراحل الدكتور إبراهيم جلال, كل من (علي إبراهيم جلال , وسوسن إبراهيم جلال) في تقديم الشكر والتقدير لكل من كتب وقدم التعازي للراحل الأستاذ إبراهيم جلال الفنان العبقري والعراقي الأصيل وعلمًا من أعلام الفن ورمز من الرموز الإبداعية... كنا معا في سفرة من سفرات الكرة الأرضية فحط الرحال في أرض الرافدين... مجرة من مجرات الإبداع والعمل الفني الدؤوب، والتي طرز مدارها بكواكب عظيمة براقة مضيئة وهذا الكوكب استطاع أن يحفر اسمه في سجل التاريخ الإبداعي للعراق...
فمرحى مرحى مرحى لك أيها الفنان المبدع الراقي بعلمه وفنه
مرحى لك يوم ولدت ويوم كنت وستبقى رمزًا مشرفًا وشمعة من شموع العراق الأبي...
الفاتحة لأرواح الأكرم منا جميعا
ولروحك يا ابن العراق العظيم...
نجاه صادق الجشعمي
 


محرر عام