«جزء من الفانية».. شموع تنير ونار تحرق

«جزء من الفانية».. شموع تنير ونار تحرق

العدد 632 صدر بتاريخ 7أكتوبر2019

ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في نسخته السادسة والعشرون قدمت فرقة المسرح الكويتي تأليف مريم نصار إخراج عبدالعزيز النصار (جزء من الفانية) وهو عرض مسرحي اعتمد اللغة العربية والحوار الدرامي المنطوق لغة تجريبية اكثر اتساقا والتصاقا بالثقافة العربية وهو المدخل الحقيقي لقراءة الواقع العربي المعاش قراءة حقيقية / واقعية / استشرافية فمع التجاء المبدعين إلي تحييد اللغة المنطوقة والملفوظة واعتماد لغة الجسد كوسيلة مثلي للتواصل مع الأخر لعالمية لغة الجسد من وجهة نظرهم رأي مبدعو جزء من الفانية إن اللغة العربية هي الأخري لغة عالمية التواصل حال اعتمادها بشكل يكفل ذلك مع الابتعاد عن الزخرفة اللفظية والاهتمام بآليات التمثيل وصدق الإحساس وإمتلاك ناصية الكلم والفعل وبساطة الحركة وعمقها عندها لن تقف اللغة عائق أمام غير الناطقين بها ولن يصبح التعبير الحركي عائق أمام الساعي إلي قراءة اللفظ دون إلتباس .
جزء من الفانية لفرقة المسرح الكويتي والمشارك في فعاليات الدورة السادسة والعشرون للمسرح المعاصر والتجريبي بالقاهرة إحتوي دلالات سينوغرافية وفكرية تنم عن اهتمام مبدعو العرض بالقضايا المحلية في شكلها الظاهري والإنسانية العالمية في تحليلها الأخير بشكل أكثر التصاقا بمقتضي الأحوال فرغم بساطة الديكور وعدم شغل فراغ خشبة المسرح بشي اإلا بمنضدة بسيطة إلا أن هذه المنضدة تشكلت في العرض المسرحي بشكل لافت واستطاعت نقل الزمان والمكان في اقل من الثانية مع نجاحها في الإحالة إلي دلالات أكثر عمقا من ظاهرها ففي بداية الأحداث نجدنا أمام رجلان يتسابقان ويعلو شهيقهما وزفيرهما بشكل يصيب المستمع بالتوتر وكأنه هو من يستبق أو يهرب من شخص ما أو يطارد شخص ما حتي يخترق هذا (التمبو) صوت خشن داعي الهارب إلي التوقف ثم لحظة صمت لا تخلو من الشهيق والزفير ليتغير المنظر المنقطع في بؤرة ضيقة علي يسار مقدمة المسرح لبؤرة أكثر اتساعا وضيقا وشحوب في منتصف عمق المسرح حيث المنضدة تلك الايقونة التي استخدمها المخرج بشكل لافت وعلي الرغم من خلو المنضدة إلا من الرجل الهارب في منصتفها إلا أن تشكيل المنضدة أحال إلي اللوحة العظيمة لـ(ليوناردو دافنشي) العشاء الأخير وكأننا أمام من خدع أو خدع من خان أو غدر به أمام المخلص أو الهارب من النور إلي الظلام وكلها دلالات تحمل الضد والضد معا وهي ليست دلالات دينية في معناه الحقيقي وإنما نراها دلالات فنية في معناها المجرد والتي جسدت خيانة يهوذا للسيد المسيح فهل خان الرجل كل أصدقاؤه فلهذا فرغت المنضدة من الجميع إلاه وعند بدأ الأحداث يلعب الحوار الملفوظ دورا هاما حيث الزوجة تدين فقر زوجها وعدم وجود طعام في المنزل للمائدة / المنضدة الفارغة وفي مفارقة تتسع بؤرة الاضاءة حيث طرفي المائدة / المنضدة عن اليمين واليسار رجل أخر وامرأة أخري يعانيان من الغني وتخمة الأموال ولكنها هذا لا يحقق لهما دفء العيش فوسط المنضدة علي ذلك يعاني من الفقر والعوز وبرودة العيش والحياة وطرفاها ليس أحسن حالا علي الرغم من وجود الأموال التي تكفل الحياة الكريمة فلم تكفلها أننا هنا أمام ضدين من النماذج تعاونا علي الهروب من مأزقيهما فتعاونا علي القتل كما اتضح من الحوار الملفوظ والدرامي الذي شخص وروي أحداثا لم نراها فًعدد الرجل عدد من قتل كانوا واحد فاثنان فخمسة ف... إلخ من الإعداد وكانوا رجالا ونساء وصحفيين وثوار و... إلخ من الكنيات ولأجل ماذا قتلوا لأجل الفقر تارة واللهو تارة وأهداف غير ملفوظة تارة أخري .
تشكلت المنضدة / المائدة إلي أشكال عدة بتغيير تشكيلها البنائي ليرسم المخرج الحركة المسرحية أمامها وورائها وفوقها وأسفلها مع تغيير شكلها من مائدة إلي متكأ إلي كرسي إلي ما استطاع تشكيله من أشكال هندسية أثرت الصورة التي غلب عليها الإضاءة الخافتة لقتامة الصورة المسرحية وعنف الدلالة الدرامية فكأننا نشاهد كابوسا رمادي اللون لا هو بالأبيض كالأحلام ولا أسودا كالليل الحالك وهي المسافة التي استطاع مبدعو العرض الإشارة إليها بشكل مميز .
إن الفقر والجوع والعوز الظاهر من الحوار الدرامي والملابس والإضاءة أخفي وراؤه المسبب الأساسي له وصرح بنتيجته وهو القتل الإرهاب من وجهة نظر مبدعو العرض ذلك ان ما كان لم يكن إلا لإتباع عقيدة القتل وسفك الدماء وبدلا من استخدام الصراخ والعويل ومشاهد تقطيع نياط القلوب كالمعتاد في معالجة تلك الأمور لجأ مبدعو العرض إلي الفلسفة المجرد واستخدام الدلالات المعقدة والمرهقة في تفسيرها وأن لم يخفي هذا جرعة الاستمتاع التي حققتها تلك الدلالات وأهمها الشموع التي استخدمت للتعذيب اللحظي أحيانا والمناجاة تارة أخري فكم من أشخاص أزعجهم ضوء الشموع لأنها تكشف ملامحهم وكم سعي الكثيرين لإشعال الشمعة لرؤيتها تحترق دون جدوي ومن أشعلها لتنير طريقا مقفر وكم كانت بعض الشخصيات في حياة بعض الشخصيات شموع تنير حياة ونارا تحرق حياة حتى أن الرجل الذي يقتل قيل إنه كان ينظف أحذية السادة من الشمع المنسحق تحتها فالحياة في هذا العرض تجزئة وتقطعة أوصالها حتي أن أحد أبطالها مزق الكلمة إلي أحرف فالحاء حصار والياء يأس والألف أرق والهاء تنهيدة تقطع القلوب لأشلاء. ولأن الإنسان للإنسان شمعة تنير حياته أن إضاءها بحب وصدق فما كان من الرجل المغيب الذي يقتل إرضاء لسيده ولهثا وراء القليل من المال إلا أن كسر الشمعة في يده أعقبها موت زوجته التي كانت وكانت ففقد بالتالي رغبته في الحياة فمع كسر الشمعة انطفأت ومع انطفائها انطفأة الحياة ليعقبها مشهد البداية لتبدء الحكاية في حلقة دائرية مفرغة وكأننا نجسد جزء يسيرا من الدنيا والدنيا في منتهي الأحوال فانية ليس لها خلود أو وجود إلا لصاحب الذكري ولا يخاف الأموات كلمة الفناء.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏