معتدل بهدوء غاضب جماليات الشعائر العقابية

معتدل بهدوء غاضب جماليات الشعائر العقابية

العدد 523 صدر بتاريخ 4سبتمبر2017

تلجأ السلطة إلي استخدام الوسائل العقابية كنوع من تأكيد ذاتها فأنين المجرم ليس أمرا مخجلا بالنسبة لها بل هو أمر تشعر بسببه بالفخر حيث يتجلي فيه قوتها ، في تلك السلطة ينشأ المهمشون و المدمرون و اللامنتمون حيث كمية ومقدار الوجع هي ما تحركهم وتؤكد مشاعرهم حالة من الشعائر العقابية الطقسية كانت عماد العرض المسرحي “ معتدل بهدوء غاضب “ فكرة و إخراج عمرو رضا تمثيل “ عبد الرحمن عادل و ضياء زكريا -مصمم التعبير الحركي- إضاءة محمد بسيوني ، والعرض الذي شارك ضمن فعاليات العروض المختارة بالمهرجان القومي في دورته ال 10 دورة الناقدة نهاد صليحة ، والذي جعل من التعذيب جماليات خاصة نستطيع من خلالها فك شفرات العرض .
يدخل شابا بؤرة الضوء الوحيدة علي خشبة المسرح ولكنه لا يأتي وحيدا فقد آتي حاملا لشاب آخر معه مكبلان بحبل واحد و يبدأ في التحكم فيه و كآنه دمية ماريونت إلي أن يفتح عينيه و هنا تبعث فيه الروح لنجد حوارا محصورا في كلمات منفردة و جمل منفصلة يتم إلقاؤها و نطقها بتأكيد مبالغ فيه مع حركات جسدية متصلة معا الأمر الذي جعلهم كتلة جسدية واحدة وهنا يكتشف الأمل المهدوم الذي هُتك من قبل المجتمع و نظم الدولة و الحب الراحل والشغف المفقود حيث ذوات إنسانية قابعة في ظلامها الداخلي و لا تستطيع الخروج ، بؤرة الضوء هي الوجه الآخر من السجن حيث العقوبة المسلطة علي أجساد الشابان بسبب تهمة اختلافهما عن الآخرين و رغبتهما الصادقة في قول لا وهي تهمة ندركها من حديثهما المبتور فأمر إصدار العقاب بالنسبة لنا أمر غير مرئي إنما العقوبة هي الحقيقة المرئية امامنا و العقوبة هنا تكمن في تركهما معزولان عن الآخرين وإن لم يتعرضا لعقوبة جسدية من السلطة الأمر الذي يجعلنا نظن إنه بسبب لطافة السلطة ، إلا انه في واقع الأمر آلما اشد ضررا من الألم الجسدي حيث التحول من تشويهات الجسد خارجيا إلي تشويه داخليا .
تسبب التشوية الداخلي في كشف حالة من الإنعكاسية غير المرغوب فيها التي ظهرت علي الشابان ، بحيث أصبح كل منهما وجها خفيا للسلطة “ الغير لطيفة “ فاعلا الممكن من أجل توقيع عقوبته الخاصة علي جسد زميله و جسده  ،فقد اتسم العرض بعنف واضح في الآداء الجسدي مُنَكِل كل منهما بجسد الآخر و هذا ما ينقلنا إلي التاريخ السياسي و الجسدي في مجتمع ندرك فيه أن فن الإستعراض السلطوي يبدأ من إدانات الجسد و محاولة خلق إنظباط محدد له داخل السجون و لعل ما رغب المخرج في إظهاره هو جعل العرض عار تماما من إخفاء العقوبة فلجأ إلي عرض تعذيبي مكشوف نلتمس الكوميديا السوداء من داخله التي خصت الجوانب الإنسانية في كلا من الشابان فنري جسد معذب و مريض و مجنون فاقد القدرة علي معرفة ذاته الحقيقية بسبب النفي الإجباري لهما من قِبل السلطة التي جعلت من أجسادهما استثمار سياسي لبقائها وبذلك تسكن الرهبة باقي جموع الشعب فحينما يقول الشابان ان هناك اناسا قادمين لهما سرعان ما ندرك تجاهلهم لهم و هنا تتم الإزاحة الجبرية لهم من قبل الشعب أيضا الذي لن يقدر علي مواجهة السلطة التي تجعل من تشويه  الشابين صورة واضحة عن قدرتها الغير محدودة .
الرقابة النفسية دائما أكثر فعالية من الرقابة البدنية فعلي الرغم من  محاولة كلا من الشابين في اللجوء إلي آداء جسدي شديد القسوة إلا انه لم يخل من البراءة التي اظهرت رغبتهما الشديدة في الدفء و العناية مثلهما مثل الأطفال يشتاقوا إلي لحظة سعادة وطمئنينة تحاول تخفيف الوحشة التي أصابتهما و لكن الأمر تخطا ذلك فقد أصبح التعامل معهما فيه إجبار علي تهميشهما بعدم وجود أسما لهما ،أصبحنا نتعامل مع شخصان لا يملكان من الدنيا شئ حتي مجرد أسم وهو الأمر الذي يحملنا بكثير من الشفقة عليهما ، فتصبح  بذلك آداءات الممثلين الجسدية هي الطريقة التأويلية لما  يحتويه العرض من معان باطنة مثل عبثية التضرع  بالدعاء فقد تم التوارث علي غلق العينتن و إنتظار الضوء ، اي ضوء سيتم إرساله داخل هذا الظلام ؟ ليطالبا بالرغبة في البقاء حقهم الآدمي المأخوذ سواء البقاء الآني ام المستقبلي بسبب حالة الخوف التي تحكمهما و تحكم جسدهما يريدوا البقاء و الخروج من بقعة  الظلام التي القيا فيها و في ذات اللحظة إن اصابتهم المنية يرغبان في ان يتذكرهما جموع الشعب بكونها العصفوران اللذان ارادا الحرية و الكلام و لم يقدرا علي الصمت .
إن التحول من سلطة تميت و تُنَكل إلي سلطة تسعي إلي استثمار حياة معارضيهم ليس دليل علي إنسانية تلك السلطة ، بل هو ما يُمَكِن السلطة من العمل عبر تحويل أشكال و تقنيات ممارساتها فإذا كانت السلطة قد  أماتت جسد الشابان فكيف ستعطي الشعب درسا في الصمت و عدم معارضاتها ؟ ، كل ما فعلته أن جعلت من حضورهما رسالة صريحة بغلق الأعين والأفواه لعدم المعارضة ، و قد أكد العرض ذلك عن طريق أحاديث الشابان المتبادلة فقد رغبا بالتغيير و الإنطلاق و الحرية مثل العصافير لم يظنا أن السقوط في الظلام سيكون هو نتاج رغبتهما الإنسانية ، وفي نطاق تلك السلطة يصبح الفرد موهوما ب “ فيروس السلطة “ حيث الإعتقاد في ملاحقه السلطة الدائمة له و تعقبه و مراقبته في كل حركاته و سكناته بل وايضا أنفاسه فلا يستطيع الفرد الخروج من تلك الشبكة التي تشبه شبكة العنكبوت حيث تنسج السلطة خيوطها في كل مكان يحيط به سواء كان مرئي أو غير مرئي و بسبب ذلك حاول كلا الشابان محاولة تمثيل قتل  كلا منهما للآخر حتي يحصلا بذلك علي رضا السلطة ليتم خروجهما ، و لكن دائما ما كان القدر في مثل  تلك الظروف ينذر بمصير مشئوم فقد قتل آحدهما الآخر عن طريق الخطأ ظنا منه إنه مجرد مشهد تمثيلي لتعذيبه وقتله .
مساحة فارغة و حيز مغلق هما المستحيل ولكنهما وجدا معا في فضاء واحد حيث التشكيل الذي اعتمد علي فضاء عاري تماما من اي قطع ديكورات او إكسسوارات معتمدا فقط علي بؤرة ضوئية وهي بؤرة احداث العرض فلا يخطو الممثلان خطوة واحدة خارج تلك الدائرة المغلقة التي يجريان و يتعاركان و يمشيان و ينامان فيها ، شعور بالسجن و العجز و الضيق يصاحبك مثلما يصاحب بطلينا فقط تلك البؤرة كانت كافية للكشف عن الآلام الإنسانية و المعاناة بكل صدق فني حتي ولو كان عن طريق القسوة و العنف في الآداء فلم نجد أحدهم قادرا علي التحكم الكامل في جسده ، دائما هناك عجز و خلل حيث يتم فك فبضاته عن طريق تحكم الآخر ، إنتظارهما للمجهول اشبه بشابان بيكيت في نصه “ في إنتظار جودو “  و إن كان لشابينا واقع آخر فهما لا ينتظرا الأمل فقد ضاع املهما حتي إننا  نري تكالب كل منهما ضد الآخر اثناء لحظات الضجر و الملل ثم سريعا ما يعاودا تكرار لعبة السلطة و الضحية ، كلاهما ضحية ولم يقدرا علي ان يتحولا إلي قامعين ، حتي قتل الرفيق كان عن طريق محاولة الحفاظ عليه ، عالم يحتاج إلي الشفقة .
اعتمد التجسيد الصوتي في بداية العرض علي صوت غير واقعي  حيث لا ينطوي علي كلمات نستطيع إدراكها بحيث كان اشبه بتعويذة تعبر عن الآلم و الحزن عن طريق تزامنه مع الشكل الإنهزامي للجسد ليُكَون تشكيله الخاص بمزج كلا من سيميوطيقا الصوت و الجسد معا ، و طوال العرض و نحن امام حالة من الجدل البصري و السمعي معا تشعر للحظات إنك مملوء بالغضب و عدم التوقع يسأل كل منهما الآخر لنجد أجوبة متضاربة مخالفة للأسئلة ثم نلاحظ تكرار الأمور فكل منهما يصبح الآخر و تتكرر العملية العديد من المرات شابان فقدا ارواحهما و إحساسها  بالزمن ويأسهما من الحياة فلا عجب أن يكون رد احدهم علي الآخر حين يسأله ما هو حلمه ليكون رده ان “صاح عاليا” صرخة فجائية عملت علي رهبة الجمهور كانها ناقوس الخطر الذي يقرع لننتبه للمعاناة كاشفا عن طاقته النفسية فيرسل حالة شك في كل الأمور سواء الروابط الأسرية أو العلاقات الغرامية وايضا العلاقة مع المؤسسة الحاكمة فكلاهما لم يرد الصمت ارادا فقط ان تتاح لهم إمكانية القول و هو ما عد جريمة في البلاد المظلمة  .
من الواضح إذا ان فلسفة العرض قد حاولت في مضمونها الدعوة إلي الحياة بمقاومة هذه السلطة التي تسري في جسم المجتمع كما يسري الدم في الجسم الإنساني ، و بدلا من الإستسلام الذي لاحق جموع الشعب بل لاحق الشابان ايضا داخل بؤرتهما و سجنهما الرمزي يود الخرج إقتراح طريقة ليست بجديدة لكنها اعتمدت علي شكل جديد في كيفية إبراز المقاومة و ضرورة مواجهة الخوف الكامن داخلنا من السلطة ، فقد انتهي العرض من موضع بدايته وهي رسالة مشفرة عن المحاولة المستميتة لدي الشابان أملا في وجود بقعة ضوء تكون قادرة علي إضاءة بؤرة حياتهما المشئومة و إنتظار أجساد متحررة لا طيعة لخدمة السلطة ، فهذان الشابان لم يكونا سوي أحد الآليات السلطوية التي أنتجتها السلطات علي مر الزمان ولم تؤدي سوي إلي قمع الأفراد بخلق بؤرة مسيجة رمزيا من المراقبة المستمرة والدائمة فيكون الحل الأوحد للعيش أن يبتكر الشابان تقليدهما الخاص وهو شعائرهما العقابية التي حملت في طياتها كل الفقر إلي الإنسانية وشبق السلطة في نظرتها لشعبها .
في أحد حوارات ميشيل فوكو قال “ أن الأخلاقية الوحيدة التي بإمكاننا الحصول عليها علي نحو ممارسة السلطة ( هي حرية الآخرين ) ، لذا لن أذهب لأجبركم “ ؛ لكن في واقع الأمر إن تحقيق مثل تلك المقولة أصبح أمرا صعبا بالنسبة للشابان و حين حاول أحدهما التذمر لم يكن في مقدوره سوي أن “ صرخ صرخة مدوية “ عبرت آذنينا ورحلت في حاجز الصوت دون نتاج حل فعلي للحفاظ علي رواسب إنسانيتهما الخفية في أعماقهما ، ولذلك رغم قصر مدة العرض و التي كانت  40 دقيقة إلا انه حملت قضايا فلسفية سياسية و مجتمعية وإنسانية و  دينية بشكل ادائي  امتلك طاقته وحضوره الخاص ورغم  النهاية الفاجعة الخاصة بقتل أحدهمبالخطأ إلا إنهما حاولا كسر الخوف بطرح اغنية “ ولا بنخاف “ حتي لا  يسمحا لأحد ان يقبع معهما في ذلك الظلام و يظلا في إنتظار الجسد الحر من أجل تحريرهما من بؤرتهما السوداء.


ضحى الوردانى