العدد 942 صدر بتاريخ 15سبتمبر2025
(تحرير: بيرت كاردولو - ترجمة: محمد رفعت يونس، القاهرة 2025) من إصدارات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى الدورة الثانية وثلاثين لعام 2025
حين نتأمل فى تاريخ المسرح العالمى، ونحاول الوقوف على لحظاته الحاسمة التى شكّلت مساره وأعادت صياغة أدواته الفنية والفكرية، نجد أن مفهوم الدراماتورجية يطل علينا باعتباره واحدًا من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والالتباس فى آنٍ معًا. فهو ليس مجرد وظيفة إجرائية فى كواليس العرض، ولا هو مجرد مصطلح نقدى مستعار من قاموس الغرب المسرحى، بل هو فضاء فكرى كامل يتجاوز حدود النص والعرض ليصل إلى مساءلة العلاقة العميقة بين المسرح بوصفه فنًا جماعيًا، وبين المجتمع بوصفه مرآة متحركة للأفكار والتحولات.
الدراماتورجية – كما يقدمها كتاب «ما الدراماتورجية؟» (تحرير بيرت كاردولو، ترجمة محمد رفعت يونس) – ليست تعريفًا ثابتًا ولا قالبًا مغلقًا، بل هى سؤال مفتوح حول وظيفة المسرح ذاته: ما الذى يقدمه للجمهور؟ ما الذى يضيفه للمجتمع؟ وكيف تتشكل معانيه بين النص والفرجة، بين الممثل والمتفرج، بين المؤلف والمخرج؟ هذا الانفتاح هو ما يجعل الكتاب أقرب إلى مختبر فكرى نقدى، يضع أمام القارئ مجموعة من الرؤى المتنوعة، المتناقضة أحيانًا، لكنّها جميعًا تحاول القبض على جوهر هذا الحقل المتحرك.
لقد ارتبطت الدراماتورجية تاريخيًا بالمشروع التنويرى الأوروبى، بدءًا من لسنج الذى دشّن موقع «الدراماتورج» رسميًا فى مسرح هامبورج فى القرن الثامن عشر، حين رأى أن المسرح لا يمكن أن يظل رهين القواعد الكلاسيكية الفرنسية، بل يجب أن يعكس نبض المجتمع ويمنح الجمهور فرصة التفكير فى مصيره. مرورًا بتجربة برتولت بريشت الذى ربط الدراماتورجية بالمسرح الملحمى، حيث لم يعد الهدف أن يندمج المتفرج فى الوهم الدرامى، بل أن يفيق ويطرح الأسئلة. وصولًا إلى الممارسات المعاصرة التى تجاوزت النص ذاته، وجعلت من الدراماتورجية أفقًا نقديًا يشتبك مع الوسائط الجديدة، ومع تحولات التلقى فى زمن الصورة والتكنولوجيا.
لكن أهمية هذا الكتاب لا تنبع فقط من أنه يعرض تاريخًا وتحولات لمفهوم غربي؛ بل من أنه يحاول أيضًا أن يفتح ثغرة فى جدار الممارسة المسرحية العربية. ففى مقدمة المترجم محمد رفعت يونس، نجد دعوة صريحة إلى إعادة النظر فى هذا الحقل، وإلى كسر الصورة النمطية التى حصرت الدراماتورجية فى «إعداد النصوص» أو «البرامج المصاحبة للعروض»، بينما هى فى حقيقتها جهاز معرفى متكامل، يمكن أن يسهم فى إعادة بناء العلاقة بين المسرح العربى وجمهوره، فى زمن يزداد فيه التعقيد الاجتماعى والثقافى.
إننا حين نقرأ هذا الكتاب، لا نجد أنفسنا أمام دراسة أكاديمية جافة، بل أمام سفر متعدد الأصوات، تتجاور فيه مقالات نقدية مع مقابلات مع ممارسين، وحوارات مع نقاد ومخرجين، وسير ذاتية لتجارب مسرحية كبرى. واللافت أنّ هذه الأصوات لا تسعى إلى تقديم صورة موحّدة للدراماتورجية، بل تضعنا أمام فسيفساء متشابكة: الدراماتورج بوصفه ناقدًا داخليًا، أو محررًا أدبيًا، أو مستشارًا فنيًا، أو حتى وسيطًا ثقافيًا بين العرض والجمهور.
من هنا، فإن قراءة هذا الكتاب اليوم تحمل قيمة مزدوجة:
على الصعيد العالمى، لأنه يقدّم لنا خريطة شاملة للتحولات الدراماتورجية فى أوروبا وأمريكا وإنجلترا وأوروبا الشرقية.
وعلى الصعيد العربى، لأنه يضعنا أمام تحدى التوطين: كيف نعيد صياغة هذا الدور فى سياق ثقافى مختلف؟ وكيف نستثمره فى مواجهة أزمة المسرح العربى، الذى يعانى من ضعف فى التواصل مع الجمهور، ومن غياب مؤسسات تحتضن التجريب والتأويل النقدى؟
إن المقدمة وحدها تكفى لتؤكد أن هذا الكتاب ليس مجرد «ترجمة» بقدر ما هو إعلان لحاجة ماسة: حاجة إلى أن نعيد النظر فى كيفية صناعة المعنى المسرحى، وأن نفكر فى المسرح ليس فقط كعرض أو كنص، بل كحوار حى بين الفكرة والتجسيد، بين التاريخ والراهن، بين المحلى والعالمى.
ولعل أبرز ما يميز هذا العمل هو أنه يضع الدراماتورجية فى قلب النقاش حول وظيفة الفن فى عالم اليوم: هل المسرح للترفيه أم للتفكير؟ هل هو وسيلة للهروب أم أداة للوعي؟ وهل يمكن أن يكون فى الوقت ذاته نقدًا للواقع واقتراحًا لعالم جديد؟ هذه الأسئلة تتردد فى ثنايا فصول الكتاب، وتمنح القارئ فرصة لإعادة التفكير فى معنى أن نكون معنيين بالمسرح، لا بوصفه متعة جمالية فقط، بل بوصفه ممارسة فكرية وجمالية مسئولة.
وعليه، فإن قراءة «ما الدراماتورجية؟» ليست مجرد رحلة فى تاريخ مصطلح، بل هى دعوة إلى إعادة بناء علاقة المسرح بذاته وبجمهوره. إنها محاولة لتوسيع مداركنا حول الدور الذى يمكن أن يلعبه الدراماتورج فى سياق عربى ما يزال يبحث عن هويته المسرحية بين استلهام التراث والانفتاح على التجريب.
من هنا تنطلق القراءة التحليلية لهذا الكتاب، عبر الوقوف على المحاور الفكرية الأساسية التى يتضمنها، والعودة إلى النقاط الجوهرية التى طرحها المؤلفون والمترجمون والممارسون، وصولًا إلى مقارنات نقدية بين الشرق والغرب، وبين النظرية والتطبيق، وبين النص والعرض.
القسم الاول قراءة فى المحاور الفكرية:
المحور الأول: الدراماتورجية كفكر وممارسة
من بين ما يلفت الانتباه فى كتاب «ما الدراماتورجية؟» أنّه لا يقدّم تعريفًا جامدًا أو قاموسيًا للمفهوم، بل يضعه فى إطار ديناميكى متحوّل، كحقل يتقاطع فيه الفكر بالنقد، والممارسة بالإبداع، والتاريخ بالراهن. فالدراماتورجية ليست مصطلحًا نظريًا يمكن ضبطه ببساطة، بل هى ممارسة متشعبة تكاد تختلف باختلاف المسرح والسياق والمرحلة التاريخية.
1. الدراماتورجية بين النظرية والتطبيق
يعرض الكتاب فى بداياته كيف أنّ الدراماتورجية نشأت كفعل نقدى ملازم للمسرح، ثم تحوّلت تدريجيًا إلى وظيفة عملية داخل المؤسسات المسرحية. فالمصطلح من حيث الجذر اللغوى يرتبط بـ «صناعة المسرحيات» أو «تقنيات التأليف»، لكنه مع مرور الوقت أصبح يعني:
اختيار النصوص وتحريرها.
إعداد البرامج المصاحبة للعروض.
تأطير التجربة المسرحية من خلال الأبحاث والسياقات التاريخية.
مواكبة البروفات وتقديم الملاحظات النقدية.
تثقيف الجمهور وربط العرض بأسئلته الفكرية والاجتماعية.
هنا نلمس أن الدراماتورجية ليست مجرد «خدمة» للمخرج أو للكاتب المسرحى، بل هى رؤية متكاملة تسعى إلى خلق توازن بين النص والعرض، بين التاريخ واللحظة الراهنة، بين الجمالية والفكر.
2. الدراماتورج كوسيط
يتكرر فى الكتاب تشبيه الدراماتورج بـ «الوسيط» أو «المترجم» أو حتى «المهندس». فهو يقف على الحافة بين الكاتب والمخرج، بين النص والفرجة، ويحاول أن ينسّق بين وجهات النظر المختلفة دون أن يطغى أحدها على الآخر. فى هذا المعنى، يشبه الدراماتورج «مراقب حركة المرور» الذى يمنع الاصطدام بين الرؤى، ويبحث عن المسار الأنسب لمرور الفكرة إلى الجمهور.
هذا الدور الوسيط يجعله أيضًا أقرب إلى المفكر النقدى الذى لا يكتفى بالجانب الإجرائى، بل يسائل دائمًا: لماذا نقدم هذه المسرحية الآن؟ ما معناها فى هذا السياق؟ كيف نتوجه إلى الجمهور؟ وهى أسئلة تمنح المسرح بعدًا فلسفيًا يتجاوز المتعة الجمالية إلى الفعل الاجتماعى.
3. وظيفة إشكالية
يبرز الكتاب أنّ إشكالية الدراماتورجية تكمن فى كونها وظيفة لم يتم الحسم فيها حتى الآن، لا فى أوروبا ولا فى أمريكا. فبعضهم يرى الدراماتورج مجرد مساعد أدبى، وآخرون يعدّونه ناقدًا داخليًا، بينما يعتبره آخرون المخرج الثانى أو «الظل» الذى يحاور المخرج من خلف الكواليس. هذا الغموض ليس عيبًا بقدر ما هو سمة جوهرية للمجال، إذ يجعله مفتوحًا على التأويلات، ويمنحه مرونة تتيح التكيف مع مختلف البيئات المسرحية.
4. الدراماتورجية كإنتاج للمعنى
أحد أهم الدروس التى يقدمها الكتاب هو أنّ الدراماتورجية ليست مجرد عملية تنظيمية، بل هى إنتاج للمعنى المسرحى. فهى لا تتعلق فقط باختيار نصوص أو ترتيب مشاهد، بل بطرح أسئلة حول «المغزى» و»الهدف». فى هذا السياق، نستحضر سؤال آرثر باليه (أحد أبرز الدراماتورجيين الأمريكيين): «لماذا نقدم هذه المسرحية أصلًا؟ ولماذا هنا والآن؟”
هذا السؤال يعكس جوهر الدور الدراماتورجى، بوصفه ضميرًا نقديًا يسائل الوظيفة الثقافية للمسرح، ويحاول أن يحافظ على التوازن بين الفن كجمالية، والفن كرسالة اجتماعية أو سياسية.
5. بين الشرق والغرب: اختلاف فى التلقي
فى المقارنة بين الممارسات الغربية والعربية، نلاحظ أن الغرب قد طوّر مؤسسات حقيقية تحتضن وظيفة الدراماتورج، لا سيما فى ألمانيا؛ حيث لكل مسرح بلدى قسم خاص بالدراماتورجية. بينما فى العالم العربى، ما زال المصطلح يتأرجح بين التجاهل والاختزال. إذ يُنظر أحيانًا إلى الدراماتورج كـ»معدّ نصوص» أو «مستشار فكرى»، دون الاعتراف بالدور العميق الذى يمكن أن يلعبه فى إنتاج المعنى، وفى ربط المسرح بجمهوره.
هنا يفتح الكتاب بابًا مهمًا للتساؤل: هل نحن بحاجة إلى «استيراد» نموذج غربى للدراماتورجية، أم إلى إعادة صياغة عربية تراعى خصوصية ثقافتنا ومسرحنا؟ هذا السؤال سيظل مفتوحًا، لكنه يشير إلى أن الدراماتورجية ليست رفاهية، بل ضرورة لمواجهة تحديات المسرح العربى فى زمن تزداد فيه الحاجة إلى النقد والتأويل.
المحور الثانى: الجذور الأوروبية (لسسنج، بريشت، ألمانيا)
إذا أردنا أن نفهم الدراماتورجية فى سياقها التاريخى والفكرى، فلا بد أن نعود إلى ألمانيا فى القرن الثامن عشر، حيث ارتبط المصطلح أول مرة بمشروع تنويرى ضخم كان يسعى إلى تحرير المسرح من وصاية «القواعد» الكلاسيكية الفرنسية، وتحويله إلى فضاء للتفكير والنقاش الاجتماعى. وهنا يطل اسم غوتولد إفرايم لسنجLessing بوصفه المؤسس الأول لمهنة الدراماتورج فى المسرح الغربى الحديث.
1. لسنج والدراماتورجية الهامبورجية
عام 1767، عُيّن لسنج كأول دراماتورج رسمى فى المسرح الوطنى فى هامبورج. لم يكن مجرد محرر نصوص أو مترجم، بل كان مفكرًا ومراقبًا نقديًا داخليًا، يقيّم العروض، ويكتب مقالات تواكبها، وينشر رؤيته حول وظيفة المسرح.
أهمية لسنج تتجلى فى أمرين:
أنه فكّ الارتباط مع النموذج الفرنسى الذى كان يهيمن على المسرح الأوروبى، القائم على القواعد الصارمة للوحدات الثلاث واللياقة الكلاسيكية.
أنه فتح الباب أمام شكسبير بوصفه نموذجًا جديدًا للدراما، أكثر قربًا من الحياة اليومية وأكثر قدرة على التعبير عن الصراعات الإنسانية.
كتابه الشهير «الدراماتورجية الهامبورجية» لم يكن مجرد نقد للعروض التى شهدها مسرح هامبورج، بل كان وثيقة تأسيسية وضعت حجر الأساس لفكرة أن الدراماتورجية هى فعل نقدى ملازم للممارسة المسرحية، وليست نشاطًا خارجيًا.
2. بريشت: الدراماتورجية الملحمية
إذا كان لسنج قد فتح الباب للتنوير المسرحى، فإن برتولت بريشت (Bertolt Brecht) قد أعاد صياغة وظيفة الدراماتورجية فى القرن العشرين عبر مشروعه المسرح الملحمى.
مع بريشت، لم يعد الهدف أن يندمج الجمهور فى الوهم المسرحى، بل أن يبقى فى حالة يقظة نقدية، يسائل ما يراه، ويربطه بواقعه الاجتماعى والسياسى. هنا أصبح الدراماتورج أقرب إلى المنظّم الفكرى للعمل، فهو الذى يساعد المخرج على بناء العرض بوصفه أطروحة سياسية-جمالية، ويؤطر العلاقة بين النص والجمهور فى ضوء فكرة التغريب الشهيرة.
بريشت نفسه كان يمارس الدراماتورجية من الداخل، حين كان يعمل مع ماكس راينهارت وإرفين بيسكاتور فى برلين، ثم حين أسس فرقته «برلينر إنسامبل». كان يكتب النصوص، ويعيد صياغتها فى ضوء البروفات، ويحوّل المسرح إلى فضاء جدلى مفتوح على الأسئلة.
الدراماتورجية البريختية إذن لم تكن تقنية فقط، بل كانت موقفًا سياسيًا يرى فى المسرح أداة لتغيير الوعى الاجتماعى، لا مجرد انعكاس للواقع.
3. الدراماتورجية فى ألمانيا: مؤسسة مستقلة
منذ لسنج وحتى اليوم، حافظت ألمانيا على مكانة الدراماتورجية كمؤسسة قائمة بذاتها داخل المسرح. معظم المسارح البلدية هناك تمتلك أقسامًا دراماتورجية متخصصة، تشرف على:
اختيار الريبرتوار المسرحى وتوازنه بين الكلاسيكى والمعاصر.
إعداد بروتوكولات تفصيلية حول النصوص (تاريخها، سياقها، ترجماتها).
مرافقة البروفات وتقديم الملاحظات النقدية.
كتابة المواد المصاحبة (البرامج، الكتيبات، المقالات النقدية).
الدراماتورج فى المسرح الألمانى ليس تابعًا للمخرج، بل قد يمتلك سلطة معرفية تفوق المدير الفنى نفسه، كما أشار مارتن إسلن فى كتاباته. وهذا ما جعل الدراماتورجية الألمانية نموذجًا فريدًا عالميًا، باعتبارها جهازًا نقديًا مؤسسيًا يضمن أن يظل المسرح فى حوار دائم مع المجتمع.
4. البعد الفلسفى: من لسنج إلى ما بعد الدراما
لم تتوقف الدراماتورجية فى ألمانيا عند لسنج وبريشت، بل تطورت مع تحولات الفكر المسرحى الحديث:
ما بعد الدراما عند هانز تيس ليمان، الذى تحدث عن «سرقة الواقع» وكيف لم يعد العرض المسرحى يقدم معنى جاهزًا بل فسيفساء متشظية.
التجارب المعاصرة التى تجعل الدراماتورجية شريكًا فى تصميم العروض متعددة الوسائط، حيث لم يعد النص محورًا وحيدًا، بل جزءًا من شبكة علامات معقدة.
5. المقارنة مع المسرح العربى
فى مقابل هذا الجذر الأوروبى، يبدو المسرح العربى متأخرًا فى إدماج الدراماتورجية. ففى حين أسست ألمانيا وظيفة مستقلة، ظل المسرح العربى يعتمد على ثنائية الكاتب/المخرج، مع غياب «الناقد الداخلي» أو «الوسيط الفكري». وغالبًا ما يُختزل الدور فى «إعداد النص» أو «الاقتباس».
هذا الفارق يعكس اختلافًا مؤسسيًا وثقافيًا: الغرب، خصوصًا ألمانيا، تعامل مع الدراماتورجية كجزء من المشروع الثقافى التنويرى، بينما تعامل العرب معها كـ «ترف فكري» لا ضرورة له.
المحور الثالث: التجارب الأمريكية والاختلافات النقدية
إذا كانت ألمانيا قد منحت الدراماتورجية جذورها الفلسفية والتاريخية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية مثّلت فضاءً آخر لاختبارها، ولكن من منظور مختلف، مشدود إلى طبيعة المسرح الأمريكى الذى يتأرجح بين النزعة التجارية (Broadway) وبين الحركات المسرحية المستقلة. ومن هنا، جاء الجدل الأمريكى حول الدراماتورجية أكثر حدّةً، إذ لم تُستقبل بوصفها ضرورة بديهية كما فى أوروبا، بل خضعت لنقاش مطوّل حول شرعيتها ووظيفتها.
1. ولادة متأخرة
ظهرت وظيفة الدراماتورج فى الولايات المتحدة متأخرة نسبيًا، تحديدًا مع صعود حركة المسرح الإقليمى فى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. هناك، كان على المسارح المستقلة أن تجد طريقة مختلفة عن هيمنة برودواى التجارية، فاستعارت من التجربة الألمانية فكرة الدراماتورج المقيم، الذى يعمل كمستشار أدبى وفكرى.
إلا أن هذا الاستعارة لم تكن سلسة، إذ لم يكن المسرح الأمريكى مؤهلًا تقليديًا لتقبّل دور الناقد الداخلى. فالمخرجون والكتاب الأمريكيون غالبًا ما كانوا يرون أنفسهم «مبدعين منفردين»، يخشون تدخل طرف ثالث قد يهدد رؤيتهم. لذلك، كانت مكانة الدراماتورج فى أمريكا دائمًا محل تفاوض، بل أحيانًا محل شك.
2. الدراماتورجية كـ «خدمة»
يبرز الكتاب كيف أن الكثير من المسارح الأمريكية تعاملت مع الدراماتورجية فى البداية باعتبارها وظيفة «خدمية»:
اختيار النصوص من بين الأعمال المقدمة.
تنظيم قراءات علنية لتلك النصوص.
إعداد مواد تعريفية للجمهور.
كتابة ملاحظات البرامج.
لكن هذه الوظيفة «الخدمية» كثيرًا ما عُدّت ثانوية، وجعلت الدراماتورج أقرب إلى موظف إدارى منه إلى مفكر مسرحى.
3. انفجار دراماتورجى
رغم هذه البداية المتواضعة، شهدت السبعينيات والثمانينيات ما وصفه المحرر بيرت كاردولو فى مقدمته بـ «الانفجار الدراماتورجي”. ففى هذه الفترة، بدأت الجامعات الأمريكية (مثل جامعة ييل، وجامعة كاليفورنيا بسان دييغو) بتأسيس برامج أكاديمية لتدريب الدراماتورجيين، مما أضفى شرعية معرفية على الحقل. كما نشأت حركة نقاشية واسعة فى المجلات المسرحية حول: من هو الدراماتورج؟ وما دوره الحقيقي؟
وقد اتضح أن الحاجة إلى الدراماتورج لا تقتصر على الجانب الأكاديمى، بل تمتد إلى ضبط هوية المسارح الإقليمية، وإيجاد بديل نقدى عن هيمنة برودواى الاستهلاكية.
4. خرافات دراماتورجية
واحدة من أبرز الإسهامات الأمريكية التى ينقلها الكتاب هى مقالة ديفيد كوبلين «عشر خرافات دراماتورجية”، حيث يفنّد مجموعة من التصورات الخاطئة، مثل:
أن الدراماتورج يتدخل فى كتابة النصوص ويعيد صياغتها.
أن الدراماتورج مجرد ناقد موضوعى محايد.
أن الدراماتورج يقتل الإبداع لحساب الأفكار الباردة.
أن وجود الدراماتورج يعطل العلاقة الطبيعية بين المخرج والكاتب.
هذه الخرافات تكشف عن أزمة ثقة حقيقية بين الدراماتورج والممارسين الآخرين، وتوضح أن الدراماتورجية فى أمريكا لا تزال فى طور البحث عن هويتها، على عكس ألمانيا حيث ترسّخت منذ القرن الثامن عشر.
5. الجامعات والحرم الأكاديمى
يبرز الكتاب أيضًا أهمية الجامعات فى ترسيخ مفهوم الدراماتورجية فى أمريكا. فهناك، لم يعد الدراماتورج مجرد موظف مسرحى، بل أصبح أيضًا باحثًا أكاديميًا يدرّس ويؤلف وينشر. الجامعات أعطت للدراماتورجية طابعًا مؤسساتيًا، وأسهمت فى ربطها بالبحث العلمى والنقد الثقافى.
إلا أنّ هذا الطابع الأكاديمى أدى بدوره إلى انفصال نسبى عن الممارسة الحية، إذ صار الدراماتورج الأمريكى أحيانًا أقرب إلى الناقد النظرى منه إلى الشريك العملى فى البروفات.
6. المقارنة مع أوروبا
فى ألمانيا: الدراماتورج هو عنصر مؤسسى ثابت، يعمل داخل المسارح البلدية، ويمتلك سلطة معرفية ونقدية.
فى أمريكا: الدراماتورج هو وظيفة متنازع عليها، إما تُختزل فى الخدمات الأدبية أو تُنقل إلى الأكاديميا.
فى إنجلترا (كما سنرى لاحقًا): تقترب التجربة من التقاليد النقدية، مع أسماء بارزة مثل كينيث تاينان.
7. انعكاسات على المسرح العربي
إذا قارنا بالتجربة العربية، نجد أن المأزق الأمريكى يشبه إلى حد ما مأزقنا المحلى: كلاهما يفتقر إلى مؤسسة مستقرة تعترف بدور الدراماتورج. لكن الفارق أن أمريكا حاولت حل الإشكال عبر الجامعات والبرامج الأكاديمية، بينما لم يواكب المسرح العربى هذه الخطوة إلا بشكل محدود.
من هنا، يمكن القول إن الدراماتورجية الأمريكية تقدّم لنا درسًا مزدوجًا:
أهمية إيجاد مؤسسات تعليمية وتدريبية متخصصة.
ضرورة الحذر من اختزال الدراماتورجية فى الجانب الأكاديمى فقط، بعيدًا عن الممارسة الحية.
المحور الرابع: إنجلترا وأوروبا الشرقية
بعد أن رأينا كيف تأسس الدور الدراماتورجى فى ألمانيا وكيف تطور فى أمريكا، ينتقل بنا كتاب «ما الدراماتورجية؟» إلى محطتين مختلفتين من حيث الظروف التاريخية والسياسية: إنجلترا، التى عرفت الدراماتورجية عبر بوابة النقد الأدبى والصحافة، وأوروبا الشرقية، حيث وجدت نفسها مرتبطة بالسياق السياسى المغلق والرقابة الصارمة.
1. إنجلترا: الدراماتورجية بوصفها نقدًا حيًّا
فى إنجلترا، لم يكن هناك تقليد مؤسسى للدراماتورجية كما فى ألمانيا. فالمسارح البريطانية، خاصة «المسرح الملكى القومي» و»رويال شكسبير كومباني»، اعتمدت طويلًا على سلطة المخرج وعلى المحررين الأدبيين. لكن مع منتصف القرن العشرين، برزت أسماء لعبت دور «الدراماتورج» دون أن يُطلق عليهم هذا المسمى بالضرورة.
كينيث تاينان (Kenneth Tynan): يعد من أبرز الأمثلة، إذ عمل فى المسرح الوطنى بلندن فى الستينيات، حيث كان مسؤولًا عن اختيار النصوص، ووضع السياسات الفنية، وربط المسرح بالجمهور من خلال مقالات نقدية وصحفية.
جون راسل براون (John Russell Brown): مارس دورًا مشابهًا، لكن من منظور أكاديمى وبحثى، إذ كان يربط العروض بسياقاتها الفكرية والتاريخية.
اللافت فى التجربة الإنجليزية أنّ الدراماتورجية اقترنت دائمًا بالصحافة والنقد الأدبى، أى أنها وُلدت فى فضاء النقد العام أكثر من كونها ممارسة داخلية ملازمة للبروفات. لذلك كان تأثيرها مرتبطًا بقدرة الناقد على التواصل مع الجمهور وعلى تشكيل ذوقه المسرحى.
2. الطابع الإنجليزى: الفردية والإبداع
ما يميز الدراماتورجية الإنجليزية هو أن المخرج ظل دائمًا فى المركز، بينما ظل «المستشار الأدبي» أو «الناقد» فى الهامش. لم تظهر مؤسسات خاصة بالدراماتورجية كما فى ألمانيا، بل بقيت الوظيفة مرتبطة بأفراد بعينهم، وبمواهبهم الخاصة فى الجمع بين النقد والتنظيم الفنى.
هذا الطابع الفردى جعل الدراماتورجية الإنجليزية أقل استقرارًا من مثيلتها الألمانية، لكنها أكثر مرونة، لأنها لم ترتبط بقواعد مؤسسية، بل بخبرة الأشخاص ومبادراتهم.
3. أوروبا الشرقية: الدراماتورجية فى ظل الرقابة
على النقيض تمامًا، نجد فى أوروبا الشرقية (خاصة خلال حقبة الحرب الباردة) وضعًا مختلفًا. هناك، كان المسرح خاضعًا لرقابة الدولة، ولم يكن من الممكن أن يظهر الدراماتورج كناقد حرّ. بل كانت وظيفته مرتبطة إلى حد كبير بـ التوجيه السياسى والأيديولوجى.
فى بولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا، كان الدراماتورج يعمل غالبًا كـ «مراقب» يضمن التزام النصوص بالخط الرسمى.
لكنه فى بعض الحالات كان يتخفى فى ثوب «الوسيط الذكي»، محاولًا تمرير أفكار نقدية أو رمزية عبر النصوص والعروض.
هذه المفارقة جعلت الدراماتورجية فى أوروبا الشرقية ساحة صراع بين الإبداع والرقابة: فإما أن تتحول إلى أداة للسلطة، أو تصبح وسيلة مقاومة ذكية من داخل المؤسسات.
4. الدراماتورجية كفعل مقاومة
الكتاب يبرز كيف أن بعض المبدعين فى أوروبا الشرقية استثمروا الدراماتورجية للتحايل على القمع. فبدلًا من أن يكون الدراماتورج رقيبًا، صار أحيانًا مفسرًا مغايرًا للنصوص، يقدّم قراءات مضادة للخطاب الرسمى. وبهذا المعنى، أصبحت الدراماتورجية ممارسة مزدوجة: علنية فى طاعة النظام، وسرية فى تمرير النقد الاجتماعى والسياسى.
5. مقارنة بين إنجلترا وأوروبا الشرقية
إنجلترا: الدراماتورجية نابعة من النقد الأدبى والصحافة، مرنة لكنها غير مؤسسية.
أوروبا الشرقية: الدراماتورجية مسيّسة، مضبوطة بالرقابة، لكنها تحمل بذور المقاومة الثقافية.
ألمانيا: مؤسسة مستقرة، فلسفية الطابع.
أمريكا: بين الخدمة الأدبية والشرعية الأكاديمية.
6. انعكاس على المسرح العربي
التجربتان الإنجليزية والشرقية تقدمان للمسرح العربى درسين مهمين:
من إنجلترا: قيمة الناقد المسرحى والصحفى فى بناء الذائقة المسرحية وتوسيع الجمهور.
من أوروبا الشرقية: كيفية تحويل الدراماتورجية إلى أداة مقاومة ثقافية، حتى فى سياقات القمع السياسى.
وبهذا، تصبح الدراماتورجية ليست فقط أداة جمالية أو تنظيمية، بل وسيلة للتفاوض مع السلطة ولحماية المسرح من التهميش.
القسم الثانى قراءة فى فصول الكتاب
خلال العقود الأخيرة تغيّر المسرح بطرقٍ لم تكن متوقعة: تداخلت الوسائط، تبدّلت آليات الإنتاج، تفتّتت السرديات الخطّية، وظهر جمهورٌ متعدّد المرجعيات والتوقّعات. فى مثل هذا المناخ يصبح التمييز بين النص والعرض، بين الفكرة والتجسيد، أمرًا أقل وضوحًا. هنا تأتى أهمية الدراماتورجية: لا كـ«مهمة شكلية» تقف خلف الكواليس، بل كوظيفة معرفية/تطبيقية تقيم جسرًا بين الفكر والممارسة، بين البحث والتجريب، بين التاريخ والحاضر.
كتاب ما الدراماتورجية؟ (تحرير بيرت كاردولو) لا يقدم إجابة نهائية واحدة - وهذا هو سر قوته. بدلًا من ذلك، يجمع بين مقالات، مقابلات، وتحليلات تاريخية ونقدية، ليعرض تنوّع الممارسات والفهم عبر مناطق زمنية وجغرافية مختلفة: من ليسنج فى ألمانيا، إلى التجربة الأمريكية، مرورا بإنجلترا وأوروبا الشرقية. ترجمته العربية (محمد رفعت يونس) تأتى فى توقيتٍ ملائم للمشهد المسرحى العربى الذى لا يزال فى حاجة إلى تأصيلٍ مؤسسى وعملى لدور الدراماتورج.
فى هذا المقال سأقدّم تحليلًا معمَّقًا لكل فصل رئيسى فى الكتاب، مستفيدًا من نصوصه ومُتوسّعًا بأمثلة عملية ونقدية، ثم أُقدّم مقارنة منهجية بين ممارسات الدراماتورجية فى «الغرب» و«الشرق» (بمعنى الأنظمة والمؤسسات والتقاليد الثقافية المختلفة)، وأنهى بتوصيات عملية قابلة للتطبيق فى البيئات العربية.
الفصل الأول: «ما هى الدراماتورجية؟» — تعريفات، أدوار، وإشكالات
الفصل الأول يفتح الملف التعريفى للدراماتورجية: من تعريفات المعاجم البسيطة إلى فهمٍ أعمق يشمل البحث التاريخى والاجتماعى للنص، الإمكانات الإخراجية، والسياق الثقافى. يقدم الفصل وصفًا تفصيليًا لمهام الدراماتورج المعاصر: اختيار النصوص، البحث التاريخى، التحرير اللغوى، الترجمة، التحضير لبروفات العرض، كتابة مواد البرامج والملصقات، قيادة مناقشات ما بعد العرض، وتثقيف الجمهور.
الدراماتورجية كوظيفة هجينة
النص يبرهن أن الدراماتورجية ليست اختصاصًا وحيدًا؛ بل هى «محور التقاء» بين أدوار عدة: الناقد، الباحث، المترجم، المحرر، والميسر التعليمى. هذه الهجينة تمنح الدراماتورج إمكانيات واسعة للتأثير على السياسة الثقافية للمسرح (كما أشار مارتن إسلن بخصوص الأدوار التخطيطية فى المسارح الألمانية).
الغموض والالتباس الوظيفى
المحور الأهم الذى يطرحه الفصل هو التباس الوظيفة: هل الدراماتورجى هو مجرد «محرر نصوص» أم «ضمير المسرح»؟ كتابات مثل قول آرتور باليه أنّ الدراماتورجى يجب أن يسأل «لماذا نقدّم هذه المسرحية هنا والآن؟» تضعه فى موقعٍ استراتيجى يتجاوز الجوانب التقنية إلى قلب السياسة الجمالية للمؤسسة.
الدراماتورج والتلقي
نصوص الفصل تركّز على قدرة الدراماتورج على بناء «جسر معرفي» بين الجمهور والعمل: ملاحظات البرنامج، دفاتر العمل، والمحاضرات المدرسية ليست خدمات ترويجية فقط، بل أدوات بلاغية تشكّل فهم الجمهور للنص. وفى عالم ما بعد الميديا حيث التلقّى متعدد الطبقات، تصبح هذه المهمة حاسمة.
أمثلة تطبيقية (عملية)
قبل البروفات: تجميع «دفتر دراماتورجي» يتضمن: تاريخ النص، قراءات نقدية، خطوط زمنية للشخصيات، تحليلات لنسخ نصية مختلفة، قوائم مصادر سمعية/بصرية للمخرج والممثلين.
أثناء البروفات: تقديم ملاحظات موضوعية مرتبطة بالبحث (مثلًا: سياق تاريخى لعبارةٍ عاجزة عن الترجمة الحرفية)، تنظيم جلسات قراءة مع فريق الكتابة، وتوثيق التغييرات النصية المقترحة.
ما بعد العرض: قيادة جلسة نقاش مع الجمهور، إعداد دليل مدرس للتعامل مع نص العرض فى المدارس.
نقد: حدود الفصل
الفصل ناجح فى رسم مهام الدراماتورج، لكنه يترك بعض المساحات لأسئلة لا تتحقق فيها الإجابات الواضحة: كيف تُقاس فعالية الدراماتورج؟ هل هنالك مؤشرات أداء موضوعية؟ الكتاب يقدّم أدوات وممارسات لكنه أقل وضوحًا فى مؤشرات التقييم المؤسساتى.
«الدراماتورج الشامل» و«عشر خرافات دراماتورجية» — قراءة مركبة «الدراماتورج الشامل»
الفكرة هنا تشير إلى الدراماتورج الذى يغطى كل أدوار الدراماتورجية: من البحث إلى التواصل الجماهيرى، وحتى التدخل فى الجوانب الإدارية. هذا النموذج شائع فى مسارح الريبرتوار الكبيرة (ألمانيا مثالًا) حيث يتطلب توزيع النصوص وتخطيط العروض شخصًا ذا رؤية شاملة.
إيجابيات: رؤية استراتيجـية متماسكة لبرمجة الموسم، توازن بين نصوص جديدة وكلاسيكية، محافظة على استمرارية الفرقة.
سلبيات: خطر مركزية السلطة، إمكانيـة تصادميات مع المخرج، واحتمال أن يُستخدم المنصب كأداة تحكم أكثر من كونه وظيفة فنية نقدية.
«عشر خرافات دراماتورجية»
الفصل الذى يسرد الخرافات يهدف إلى تفكيك سوء الظفاهيم الشائعة — أمثلة للخرافات المتداولة: «الدراماتورج مجرد محرر نصوص»، «الدراماتورج هو مخرج غير مُعلَن»، «الدراماتورج يسرق الأعمال». الكتاب يردّ على كل خرافة بوقائع مهنية ونظرية تُعيد تحديد الوظيفة باعتبارها مطلبًا معرفيًا لا مبدعيًا فحـسب.
ملاحظة تطبيقية: أفضّل أن يُحوّل كل مسرح صغير أو معهد تدريب قائمة «الخرافات» هذه إلى تدريب داخلى يتيح للفرق فهم حدود ومسؤوليات الدراماتورج.
الفصل الثاني: الدراماتورجية فى ألمانيا - مؤسسات، تقاليد، وسلطة
يتتبع الفصل تاريخ الدراماتورجية الألمانية من ليسنجLessing الذى أسّس المفهوم العملى فى مسرح هامبورج، إلى بنية المسارح البلدية التى تضم أقسامًا للدرا ماتورجية. يتناول مقابلات مع ممارسين محليين (من بينها مقابلة مع هيرمان بيل) ويحلل دور الدراماتورج فى تخطيط الريبرتوار وتنظيم دور العرض.
التأصيل التاريخى: ليسنج والنموذج الألماني
ليسنج لم يكن مجرد مفكر؛ لقد أسّس منصبًا مؤسسيًا للدراماتورج، متحديًا الدور التقليدى للنقاد فى السوق المسرحى. هذا التأصيل جعل الدراماتورج جزءًا من بنية المشهد المسرحى - دورًا له قوة تنفيذية وسياسية.
المسارح البلدية والريبرتوار
الميزة الأساسية فى النموذج الألمانى هى وجود «ريبرتوار منظّم» تتطلبه مسارح المدن - فالتوزيع المتوازن بين الكلاسيكيات والجديدة، وإدارة جدول الأدوار، يتطلب دراماتورجًا ذا كفاءة إدارية وفنية. هذا ما يفسر امتلاك الكثير من المسارح الألمانية قسم دراماتورجية مستقل.
السلطة والصراع مع المدير الفنى
نصوص الفصل توضح أن الدور قد يصبح ذى سلطة مهيمنة أحيانًا؛ إسلن يشير إلى أن الدراماتورج الرئيسى «يطغى» فى بعض المسارح على المدير الفنى. هذا يخلق توترًا مؤسسيًا: حتى إن الدراماتورج يمكن أن يكون عامل استقرار أو مصدر نزاع لصنع القرار الإبداعى.
أمثلة ومعاينات ميدانية (توضيحية)
برمجة موسم متوازن: كيف يختلف توجه اختيار نص لمسرح يخدم جمهور مدينة صغيرة عن مسرح وطني؟ الدراماتورج فى ألمانيا يصوغ خطة تمتد لعدة مواسم، مع مراعاة حقوق الممثلين، تمويل الجمهور، ومسارح الجولات.
تحرير نص كلاسيكي: مثال تطبيقي: عند تحضير عرض لمسرحية كلاسيكية، يقوم الدراماتورج بالبحث فى نسخ النص المتاحة، توثيق التعديلات الإنتاجية التاريخية، واقتراح مخارج تأويلية للمخرج بناءً على الأطر الاجتماعية المعاصرة.
النموذج الألمانى قوى، لكن تحوّل الدراماتورج إلى «سلطة» يطرح أسئلة أخلاقية ومؤسسية عن الشفافية والتشاركية. النموذج يستحق الدراية لمن يريدون بناء دراماتورجية مؤسسية، لكنه يحتاج آليات رقابة مهنية واضحة.
الفصل الثالث: الدراماتورجية فى أمريكا - ولادة مهنة وسط حركة المسرح الإقليمى
يتناول الكتاب نشوء الدراماتورج فى الولايات المتحدة فى سياق صعود حركة «المسرح الإقليمي»، دور «مديرى الأدب» كمراحل انتقالية، وكيف تطورت المهنة لتشمل تدخلًا نشطًا فى البروفات، كتابة ملاحـظات البرامج، ودعم تطوير النصوص الجديدة.
مَدْرَجٌ تاريخى: من مدير الأدب إلى الدراماتورج
فى الولايات المتحدة لم تنتشر الدراماتورجية بالسرعة التى حدثت فى ألمانيا؛ لكنها ارتفعت فى الستينيات والسبعينيات مع تأسيس مسارح إقليمية غير تجارية (Guthrie مثالًا) التى احتاجت إلى وظائف مهنية لتطوير نصوص محلية، ترتيب برامج، وتثقيف جمهور جديد.
الدراماتورج فى بيئة السوق والأكاديمية
نموذج أمريكى مزدوج: فى المسارح الإقليمية يميل الدراماتورج إلى العمل التطبيقى مع المخرجين والكتاب، بينما فى الجامعات يصبح دوره أكاديميًا/تدريبيًا - تأهيل طلاب للمهنة وكتابة نصوص نقدية.
التعاون مع الكاتب والمخرج
فى التجربة الأمريكية يظهر الدراماتورج كوسيط: يسهل حوارًا منتجًا بين الكاتب والمخرج، خاصة فى تطوير نصوص جديدة. هنا تكمن قيمته فى تعزيز المسرح المحلى.
أمثلة
حالة Guthrie وLincoln Center: تجربة جون لوهر (كما ورد فى الكتاب) تُظهر الانتقال من مهام تقليدية (ملاحظات البرامج) إلى عملٍ أكثر عمقًا فى البروفات والتكييفات النصية.
مجموعات تطوير النص: فى أمريكا تطورت ثقافة الـworkshop جلسات كتابة وعرض مبكر تساعد على صقل النص قبل الإنتاج، حيث يلعب الدراماتورج دور الوسيط والميسر.
المرونة الأمريكية تمنح الدراماتورج فرصًا واسعة للتجريب ولكنها تعانى من هشاشة مؤسسية - لا توجد دومًا هياكل مستقرة مثل النظام الألمانى. كما أن الضغوط السوقية قد تُضعِف دور الدراماتورج فى المسارح التجارية.
الفصل الرابع: الدراماتورجية فى إنجلترا - تاريخ نقدى وممارسة أدبية
يتضمن الفصل مراسلات ومقابلات مع مديرى الأدب الإنكليز (كنيث تاينان، جون راسل براون..)، ويقترح نموذجًا إنكليزيًا يميل إلى الطابع النقدي/الأدبى، مع تركيز على برامج المهرجانات ومسارح المؤسسات الكبرى.
تحليل
المناخ النقدى
إنجلترا تمتلك تقليدًا نقديًا مسرحيًا قويًا؛ الدراماتورج/مدير الأدب غالبًا ما يأتى من خلفية نقدية، ما يجعل دوره أكثر نظرية وتركيزًا على التقييم الجمالى والنقدى.
المؤسسات الكبرى والـWest End
الفرق بين المؤسسات الوطنية والمهرجانات من جهة، والـWest End التجارية من جهة أخرى، يخلق تنوعًا فى أدوار الدراماتورج. فى المؤسسات الوطنية الدراماتورج يساهم فى تكوين البرمجة والقراءة النقدية؛ فى الساحات التجارية دوره أقل وضوحًا.
ممارسات
المكتب الأدبى بالمسرح الوطني: يقوم بترشيح نصوص للموسم، إدارة العلاقات مع الكتاب، وإنتاج أدلة للمشاهدين.
مهرجانات الاختبار: وجود مهرجانات تجريبية يمنح الدراماتورج منصة لاختبار قراءات جديدة للنص.
الطابع النقدى قد يجعل المهنة «أكاديمية» أحيانًا؛ أى أنها تقدم تحليلًا غنيًا لكنها قد تبقى بعيدة عن ممارسة الإنتاج اليومية، خصوصًا فى الفرق الصغيرة.
الفصل الخامس: الدراماتورجية فى أوروبا الشرقية — سياسات، مقاومات، وإبداع تحت القيود
الفصل يتناول الدور السياسى والثقافى للدراماتورجية فى بلدان أوروبا الشرقية، حيث كانت الوظيفة مرتبطة غالبًا بمقاومة رمزية داخل نظام رقابى أو أيديولوجى.
تحليل
الدراماتورج كمتوسط بين الفن والرقابة
فى أنظمة تخضع لقيود سياسية صارمة كان الدراماتورج يلعب دور المفسّر الذى يتيح للعرض أن يتجنّب الرقابة عبر الاستعارات والسياقات الضمنية. هذه المهارة جعلت الدراماتورج عنصرًا أساسيًا فى الحفاظ على مسببات إبداعية ضمن بيئة مغلقة.
المقاومة الثقافية
استُخدمت الدراماتورجية كأداة لصياغة «قراءات بديلة» للنصوص، حيث تُخفى القضايا الحقيقية وراء رموز درامية تبدو مقبولة للسلطة لكنها تحمل رسائل مضمنة للجمهور.
إنتاجات تُحوّل النصوص الكلاسيكية إلى تعليقات اجتماعية معاصرة عبر تغييرات دراماتورجية دقيقة، دون أن تبدو معرضة للرقابة.
العمل تحت قيود: كيف يُعيد الدراماتورج ترتيب عناصر العرض (إضاءة، صوت، مساحات) ليخلق داخل النص بيئته النقدية دون اصطدام مباشر مع أجهزة الرقابة.
المنهج فى أوروبا الشرقية يرينا إمكانات الدراماتورج كـ«ماهر فى التورية»، لكنه يطرح أيضًا مسائل أخلاقية حول حدود المشاركة السياسية والتواطؤ. كما أن ما نجح فى سياقات القهر التاريخى قد لا يترجم مباشرة إلى ممارسات فى بيئات أكثر حرية.
القسم الثالث : مقارنة شاملة: ممارسات الدراماتورجية فى «الشرق» و«الغرب»
لنقارن الآن عبر محاور محددة لتبيان الاختلافات والتقاطعــات.
1. المؤسَّسة والهيكلة
ألمانيا (الغرب الأوروبي): بنية مؤسسية قوية (مسارح بلدية، أقسام دراماتورجية)، عمل دائم ومستقر.
أمريكا: مرونة أكبر، ظهور فى المسارح الإقليمية والجامعات، مهنة أقل مركزية.
إنجلترا: هجين؛ مؤسسات كبرى تتمتع بمكاتب أدبية واضحة، بينما المشهد التجارى يضع دور الدراماتورج فى هامش.
الشرق (بما فى ذلك الدول العربية عمومًا فى السياق الحديث): غياب واضح لوظيفة مُؤسَساتية فى كثير من المسارح، دور غالبًا غير رسمى أو يُؤدى بأسماء أخرى (محرر، مستشار فنى).
2. النفوذ والسلطة
ألمانيا: دراماتورج ذو سلطة تنفيذية فعلية، جزء من القرار الفنى.
أمريكا/إنجلترا: سلطة معرفية وتأهيلية، لكنها تتقاطع وتتفاوت بحسب المؤسسة.
الشرق: سلطة غالبًا تكتيكية أو فردية، إن وُجدت، وغالبًا ما تتقيد بالظروف المالية والسياسية.
3. التدريب والتعليم
الغرب: برامج أكاديمية مخصصة، ورش عمل مهنية، شبكات احترافية.
الشرق: ندرة برامج متخصصة، اعتماد على الخبرة الذاتية أو التدريب العملى داخل الإنتاج.
4. العلاقة بالمخرج والمؤلف
الغرب: شراكة واضحة تتنوع بين الدعم النقدى والمساهمة الإبداعية.
شرق: غالبًا علاقة غير محددة وقد تتحول إلى تداخلات أو إقصاء بسبب غياب تعريف وظيفى واضح.
5. الدور السياسي/الإيديولوجي
أوروبا الشرقية: الدراماتورجية كأداة للتكيّف/المقاومة تحت القيود.
الغرب: قد تكون نقدية سياسيًا، لكن ضمن أطر حرية أوسع.
الشرق: تتأثر كثيرًا بالسياسات الثقافية المحلية؛ إمكانيتها فى المناصرة محدودة دون دعم مؤسساتى.
إن كتاب ما الدراماتورجية؟ يقدم مادة غنية لفهم تعدد وجوه هذا الحقل. لكن أهم ما يقدمه هو السؤال نفسه لا الجواب النهائي: كيف نريد أن نمارس الدراماتورجية فى عصرنا؟ هل نريدها أداة بنيوية داخل مؤسستنا، أم ممارسة مستقلة تُغذى إنتاجاتنا من خارجها؟ الإجابة تختلف وفق السياقات، لكن البديهى أن وجود وظيفة دراماتورجية واضحة ومؤسساتية سيساهم فى رفع مستوى الإنتاج المسرحى وجعل قراءات الجمهور أكثر ثراءً ومتانة.