السـينولوجيا العرقية الجسم هو الروح (1)

السـينولوجيا العرقية  الجسم هو الروح (1)

العدد 848 صدر بتاريخ 27نوفمبر2023

  نبذة مختصرة 
هذه المقالة تقدم وصفا لعلم أعراق جديد يقوم على الحاجة لتجنب أي شكل من التمركز العرقي في دراسة فنون الأداء والممارسات في سياق ثقافي وتاريخي واجتماعي. وتوضع السينولوجيا العرقية Ethnoscenology في علاقة مع علم الموسيقى العرقية ودراسات الأداء وأنثروبولوجيا المسرح. ونقترح تعريفا استكشافيا تليه مناقشة لمفهوم الممارسة الأدائية المستمدة من المصطلح الجديد الذي اقترحه جروتوفسكي كأداة مفاهيمية مفيدة لوضع علم عام للسينولوجيا  scenology (علم إعداد المشاهد). علاوة على ذلك أجادل بأنه من الضروري أن نتخلى عن الاستراتيجيات أحادية البعد في البحث ونتبنى منظورا عابرا للمجالات العلمية التي تتضمن علوم الأعصاب والعلوم الإدراكية وتعزز الحوار بين العلماء والمؤدين.
 السينولوجيا العرقية مصطلح جديد مبني على النموذج الشائع المستخدم في المصطلحات العلمية لتمييز مجال جديد. وقد حدث التأسيس الرسمي في المركز الرئيسي لمنظمة اليونسكو في باريس يوم 3 مايو 1995، وبعد ذلك ظهر في دار ثقافات العالم Maison des Cultures du Monde من خلال الندوة الدولية التي عقدت في مساء اليوم التالي. وفي غضون ثلاث سنوات أنشئت شبكة من الباحثين الذين نظموا الندوة في كورينافاكا (في المكسيك) في يونيه عام 1996، وفي سالفادور في البرازيل عام 1997، وفي باريس في عام 1998. وقد دافع عدد من أطروحات لنيل درجة الدكتوراه عن المصطلح، بينما لا يزال البعض الآخر منها قيد الإعداد. وتم اقتراح دورات دراسية متخصصة في جامعات مثل سالفادور في البرازيل وفي باريس 8 في فرنسا. 
 ولا يمكن الخلط بين إطلاق المجال الجديد والسفينة المبنية حديثا. فالطبيعة التطورية لعمليته تعني أنه في بيئة مواتية، اجتمع الحدس القديم والتجارب العلمية والبيانات الأصلية والحساسية معا في تشابك دينامي كاف لإسقاط النماذج السائدة وطرح فرضيات جديدة ووجهات نظر أخرى. إذ لم يتم ولادة السينولوجيا العرقية تلقائيا، بل إنها بالأحرى نتاج تلاقي أحداث وفعاليات أدت إلى اقتراح مجال بكل ما يستتبعه من أنساق نظرية جديدة ومناهج إرشادية. وكما هو الحال في كل العلوم، فإن السينوغرافيا العرقية ليست كيانا من المعرفة العقائدية والموجودة ومسبقا ولكنها إشارة إلى اتجاه، ودفعة باتجاه مكان للبحث الدائم. 

 تعريف استكشافي 
تدرس السينولوجيا العرقية Ethnoscenology ممارسات الأداء الإنساني المنظمة لمختلف الجماعات العرقية والجماعات الثقافية حول العالم، ومن ضمنها الغرب. وهي تضم: 
1- المجالات العلمية الموجهة إلى تفسير وتحليل السلوك الانساني، ولاسيما علم الأخلاق وعلم النفس وعلم الأعصاب وعلوم الإدراك والأنثروبولوجيا. 
2- العلوم الإنسانية. 
3- معلومات المؤدين العملية. 
4- النماذج المحلية الضمنية والعلنية. في محاولة لمراعاة بين العموميات الخاصة بالجنس البشري بأكمله وجميع السمات الثقافية والشخصية المميزة التي تدعمها القدرة الإنسانية على التكيف والإبداع، وتشارك السينولوجيا العرقية في التطوير التدريجي لعلم السينولوجيا العامة. 
لا يجب أن تُفهم كلمة ممارسات بمعنى سلوكي أو وظيفي. فهذه الكلمة تؤكد البعد الجسدي للظاهرة موضوع البحث. تتناول السينولوجيا العرقية، كموضوع لدراستها، الحدث المركب الذي يشمل فردا أو أكثر الذين ينظر إليهم في مجملهم بشكل بيولوجي ونفسي وروحاني واجتماعي. يتناقض المنظور الشمولي للسينوغرافيا العرقية مع النهج الثنائي الذي يرى من خلاله الفعاليات الرمزية غير الجسدية، والأنشطة الجسدية الخالية من الدلالات الإدراكية والنفسية. وعلى نفس المنوال، فان هدف السينولوجيا العرقية لا تعني ببساطة اقتراح حصر شامل للأشكال ووصفها، ولكن أيضا لتحديد ما يحدث عندما يحدث الأداء. والفرضية الأحادية للسينولوجيا العرقية يتعلق بنموذج “الجسم/العقل”: فلا يوجد جسم بدون عقل ولا يوجد عقل بدون جسم. فالجسم هو العقل، والأداء كما يحدث في الطقوس وفنون الأداء هو أداء جسدي وإدراكي وعاطفي وروحاني علاوة على ذلك. 
 وكلمة مشهدي spectacular لا توجد بالنسبة لنا إلا باعتبارها صفة، في حين أن كلمة مشهد spectacle أو أداء performance تشير إلى شيء مكتمل. فرؤيتنا للعالم تحددها لغتنا. وترسم لغة كل إنسان حدود تفسيره للعالم. والإشارة إلى الفن باعتباره عرضا، أي مسرح الأداء، كما يشير جروتوفسكي بشكل صحيح، لا يركز على ما يظهر على خشبة المسرح، بل يركز على ما يفهمه الجمهور.  تحدد صفة “مشهدي” الوسيط المتغير الذي يشير إلى طريقة محددة في معالجة المعلومات الحسية عندما تتناقض كثافة الشيء المدرك البيئة. فالكلمة توضح أن أحد أبعاد موضوع الدراسة هو العلاقة القائمة بين الأفراد. وبالتالي فإن المصطلح اليوناني “مشهد skenos” في السينولوجيا العرقية ethno-skeno(sceno)logy يشمل جسم الفنان (إذ يتحدث جروتوفسكي عن الفاعل) وأيضا جسم المتفرج. وتصف كلمة “مشهدي” بحدة كل ما يتناقض بشكل حاد مع تفاهة الحياة اليومية، وتسطيح الوجود من خلال حدث مبني ينفذه مؤدٍ أو مجموعة من المؤدين. 
 ولا يجب أن يجعلنا ظهور هذه العناصر القابلة للمراقبة، وقوتها في الاستيلاء علي انتباه المتفرج، ننسى أنه الحدث في جملته هو الذي ينتج المعنى، وليس هذا المكون أو ذاك. والإشارة إلى المرئي بكلمات لاتينية أو يونانية الأصل, والتي تحدد في ثقافتنا الفن والممارسات المرتبطة به، هي إشارة مضللة. فكلمة «المشاهدة spectare” اللاتينية تعني أيضا “التأمل”. وكلمة “مسرح” مشتقة من الفعل اليوناني “theomai” بمعنى “يرى” وهي تؤكد أهمية الرؤية في الثقافة اليونانية، مع كلمة “theatron” والتي تشير إلى التغير العميق للنموذج من الثقافة السمعية إلى الثقافة البصرية. ولا يزال يتعين كتابة تاريخ النظر، ولكن يمكنه أن يوضح بالتأكيد أن المكانة الحواسية للنظر ليست عامة بين المجتمعات الإنسانية. فبعض اللغات ليست بها ترجمة معجمية لمفهوم “مشهدي spectacular”، أو كلمة “مشهد spectacle”. ففي اللغة اللينجالية مثلا وهي إحدى اللغات في الكونغو وزائير، فإن كلمة “مشهدي» تنتمي معجميا إلى مجال الألعاب (Ilsano, Kosakana). أو في اللغة الصينية، يرتبط الجذران الرئيسيان للصورتين الفكريتين المستخدمتين في تسمية فنون الأداء “الألعاب والأعمال العنيفة”. 
 يسمح لنا ذكر الطبيعة المنظمة لهذه الممارسات لتمييزها عن التجليات التعبيرية التلقائية. وتؤكد على أدوار النشاط الإدراكي والتدريب الشكلي الذي ينطوي على إشباعها بصمتها الخاصة في حياة الجماعة. والتنظيم ليس موجودا فقط في الشفرات الشكلية التي تكون بنية الحدث – وهو ما يسميه البعض العرض – ولكنه موجود أيضا في التدريب التمهيدي للمؤدين والمشاركين، والمحتوى الدلالي لمضمون العلامات اللفظية والبدنية، والنزعة الرمزية عموما. وتميز القدرة على تنظيم وبناء مختلف أنواع الأشياء والعلامات والرموز والارتباط بها والتعبير عنها والتناغم معها نوع جنسنا. وتوجد السمة المؤسسة  للغة في كل مستويات النشاط الإنساني. 

الجاذبية الذاتية:  
يتعهد مشروع تطوير السينولوجيا العامة – الذي تساهم فيه السينولوجيا العرقية بتجنب إغراءات التمركز العرقي. ويتكون الأول من تصنيف خبرات الآخرين من خلال فكرتنا المفاهيمية المرجعية. ويكمن الثاني في الميل استيعاب مجالات العلم ونبذ العلوم التي توجد خارج الحدود الأكاديمية. والثالث ولكنه ليس الأخير، يحاول حرمان الممارسين من موضوعهم: مثلما يعتبر اليوم عدد قليل فقط من العلماء أن الراقصين قادرين فكريا على التعليق على فنهم، فإن الفنانين الذين يكتبون عن النظرية (ستانسلافسكي وجروتوفسكي وباربا) غالبا ما يتعرضون للانتقاد بسبب تعبيرهم عن رؤاهم وخبراتهم الأصلية بطريقتهم الأيديولوجية الخاصة. 
 وتوضح هذه الأمثلة أننا يجب أن نكون حذرين مع اختيار المصطلحات. وبالتالي، بالنسبة لتعريفنا للسينولوجيا، فليس من المرغوب فيه الاحتفاظ بالتعريف الذي اقترحه جيلبرت روجيه: “إنها الخطاب العلمي حول ميزانسين ممارسات الجماعات العرقية”. فمثلما أن مفهوم الموسيقى ليس مقصورا على التأليف, فكذلك الحال فإن المفهوم الذي يجب أن يظهر باعتباره لب السينولوجيا العرقية لا يمكن أن يحصر نفسه في أحد العناصر فقط. ففكرة الميزانسين كما نعرف اليوم فكرة حديثة. ففي فرنسا في القرن السابع عشر كان يمكننا أن نتحدث فقط عن “الإعداد La mise” لوضع الممثلين وآليات دخولهم. وقد مُنح اللقب السابق لشخص مسئول عن تنظيم الاحتفال له ميزة إبراز المفهوم الرئيسي للتنظيم الذي يشكل أساس لعرض المسرحي. 
 ويمكن تطبيق تعليقات مماثلة على مفهوم “الدراما العرقية ethnodrama” الذي اقترحه في الخمسينيات لويس مارس نتيجة لعمله في طقوس المس في هايتي. وقد أراد مارس، وهو طبيب وعالم في الأعراق، أن يصف ما اعتبر أنه ظاهرة دينية ومسرحية بطبيعتها. وهذا المفهوم بالتأكيد مفيد ويجب الاحتفاظ به: على الرغم من أنها ذات صلة بالمجموعة الفرعية المحددة جيدا للمؤلف، إلا أن هذه الفكرة تفتقر إلى النطاق الدلالي المطلوب للمفهوم الذي من شأنه أن يشمل المجموعة العامة من الأشكال والممارسات التي تكون السينولوجيا العامة. مثلما تشارك السينولوجيا العرقية في البناء التدريجي للسينولوجيا العامة. 
 ويتماشى مفهوم تقنية الجسم body technique كما صاغه مارسيل ماوس مع الحدس الأساسي للسينولوجيا العرقية. وقد فهم ماوس المصطلح بمعنى «الطريقة التي يعرف من خلالها الناس، داخل كل مجتمع، من خلال التقاليد، كيفية استخدام أجسامهم. «ويوضح هذا التعبير أهمية التعلم الثقافي لأغلب السلوكيات الأولية، وهذا يعني السلوكيات التي يعتقد أن البرمجة الجينية تحددها بالكامل بسبب خصائصها العامة: المشي والسباحة والجماع والحركات العنيفة والأكل والشرب والنوم. يبرز مفهوم تقنية الجسم حقيقة أنه لا شيء بيولوجي كلية في السلوك البشري، وأن البيولوجيا الإنسانية من المرجح أن يتم توجيهها وتشكيلها وفقا للعمليات البيولوجية العصبية للانتخاب الترميز. ومع ذلك، بمدح هذا المفهوم، والدعوة لإنشاء أرشيف دولي لتقنيات الجسم، ركز كلود ليفي شتراوس على طرق استخدام الجسم البشري، فحصرها في النشاط البدني، وفشل في النظر إلى فرضية أن النشاط الإدراكي يمكن أن يكون مثار قلق. وفي الآونة الأخيرة فقط، اعتبر علماء البيولوجيا، والأنثروبولوجيا، وعلماء النفس أن الإدراك والدلالة ليس لهما إلا علاقة ثنائية متعارضة. 
 ومن العناصر الثلاثة التي تكون كلمة السينولوجيا العرقية ethnoscenology، يبدو أن الإلمام بالمحدد الرئيس لكلمة “مشهد sceno” مفيد، ولكنه يؤكد أنه خادع. إنه مفيد بسبب المعاني المتعددة المرتبطة بأصوله وقابليته الصوتية، ومخادع بسبب الاستخدام واسع النطاق للمفردة في المسرح الغربي وبشكل مؤثر، تستحضر القراءة أو الاستماع الأول لكلمة “مشهد sceno” كلمة خشبة المسرح stage بمعناها المسرحي ومشتقاتها “السينوغرافيا” و”تغيير المشاهد” و”المناظر” و”المشهدي” و”إعداد المشاهد”. وقد زاد سوء الفهم اليوم من خلال تأثير الاستعارات الدرامية التي استغلت بشكل مفرط في العلوم الانسانية – الاثنولوجيا وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي وعلم النفس الإكلينيكي. ويوجد أصل الاستعارة المسرحية المعاصرة في الحياة الاجتماعية في الأدبيات حول التفاعلية الرمزية التقليدية – ميد وتوماس وتيرنر وماكول – وفي أعمال مورينو وبالز وساربين وهار وسكند وفيكتور تيرنر. وهناك تأثيران إضافيان هما بارسون ولويس. وبسبب الافتقار إلى نظرية مرضية للأسس البيولوجية والثقافية لسلوكيات الأداء الإنساني المنظم والممارسات الاجتماعية , استمد هؤلاء المنظرون نماذج ومفاهيم مختلفة عن فنون الأداء. فبالنسبة لبعضهم, المسرح هو استعارة للحياة الاجتماعية، وهي مفيدة في فهم الكيفية التي يتفاعل بها الأفراد والجماعات . وبالنسبة لآخرين، فإن هذه الحياة توصف بحق بأنها العامية المسرحية، لأن المسرح هو الحياة. فالأدوار المتاحة في مسرحيات الحياة تتضمن مخرجا وبطلا وبطلا مضادا وجمهورا مساندا وكاتبا مسرحيا وجوقة. وهذه الأدوار تُؤدى في الوقت المناسب على خشبة المسرح، وخارج خشبة المسرح أو وراء الكواليس. وقد أدى الإفراط في استخدام هذه الاستعارة إلى موت الدلالات والمكانة المتميزة لنموذج المسرح الغربي. 
 وبالتالي، يجب علينا أن نتذكر أهمية مفهوم الأداء، الذي يقدمه في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الستينيات ريتشارد شيكنر، استكمالا لكتابات علماء أنثروبولوجيا مثل فيكتور تيرنر. ودعونا أيضا لا ننسى المقاومة ضد مؤسسي دراسات الأداء، الذين كانوا حريصين على توسيع مجال الدراسات المسرحية. وقد رفض بعض المنظرين للدراما والمسرح حاليا أن يتناولوا بجدية ما سموه «الأدائية performancism “التي رأوا فيها الانتقال من علم الجمال باتجاه العلوم الاجتماعية. وبالنسبة لهؤلاء المنتقدين، كان من الخطأ إعادة النظر في المسرح بمقياس العلوم الناعمة: “لم يوفر شيكنر ملاذا آمنا للنص في تدرجه الواسع للأشياء. وشئنا أم أبينا، فان الهدف الأساسي للمسرح يرتكز على عرض النصوص، كما أن الهدف الأساسي للموسيقى العالمية هو الاعتراف بعزف وغناء النصوص. ودعونا نلاحظ أن الجزء الأخير من الجملة لا يعكس توجها يقل عن ضيق الأفق والتمركز العرقي الغريب، نظرا لأنه يفشل في إدراك مغزى الموسيقى غير المكتوبة!. وفي الواقع، مفهوم الأداء في الإنجليزية الأمريكية يخدم إزاحة ملائمة للاستعارة المسرحية في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا. ورغم ذلك، لا يستبعد الحاجة إلى إنشاء نظرية عامة للأداء الإنساني، إذا لم نختزله إلى وصف متمركز عرقيا  لكثير من الأشكال التي يجسدها. 
 ومفهوم “المشهد skeno” كما نفهمه يقع في مرمى النيران. فمن ناحية، هناك المجالات التي تنطلق لتحليل الطقوس التفاعلية اليومية بالاشتراك مع أعمال حول الاتصال غير الشفهي، ومن الناحية الأخرى، يقف نموذج المسرح الغربي كما تطور منذ القرن الثامن عشر بثبات. ه1ا التمركز غير المريح للسينولوجيا العرقية يرجع إلى الفجوة المفاهيمية التي تؤثر على فهم الإنساني ويؤدي إلى مجاز التمركز العرقي. 

............................................................................
جان ماري برادير  كاتب وباحث فرنس في مجال المسرح، وأهم كتبه 
تدريب الممثل عام 2000
علم المسرح عام 2003
الأثنوجرافيا عام 2012


ترجمة أحمد عبد الفتاح