فن التمثيل باعتباره عملية استفسار فينومينولوجى(2)

فن التمثيل   باعتباره عملية استفسار فينومينولوجى(2)

العدد 925 صدر بتاريخ 28أبريل2025

 «العيش فى living in” والذى يُفهم منه قدرة الممثل على اختراق وملء كل لحظة من حياته على خشبة المسرح بمادة نابضة بالحياة لخلق الحياة، وفى أوقات أخرى لإكمال الفعل. العيش فى يعنى البقاء على قيد الحياة فى كل ثانية من الفعل على خشبة المسرح، والذى يتحرك إلى الأمام كعملية معقدة لا تتوقف.
فى تأمله للعملية والإرث الذى ورثه عن ستانيسلافسكى، أصر جيرزى جروتوفسكى على أن المؤدى يستمع «للأشياء ذاتها» - وهو تأكيد فينومينولوجى متأصل. كما صاغ بحكمة عملية التمثيل وظاهرته فى شكل سؤال: «كيف يلمس الممثل ما لا يمكن لمسه؟».
  كما هو الحال مع كتاباتى السابقة، ولاسيما “التمثيل النفسى الجسدى psychophysical acting” (2009)، فقد استوحيت هذا الكتاب من زيامى، وستانيسلافسكى، وجروتوفسكى، ولقاءاتى الطويلة الأمد مع الأداء غير الغربى للتفكير فيما نفعله عندما نمثل وكيف نفكر ونتحدث عن التمثيل كظاهرة وعملية. وما أقدمه هنا ليس إجابات نهائية بل أقرب إلى شكل من أشكال “الاستفسار المجسد”، أى،
مسعى جمالى يتطلب بشكل أساسى أن يكون الجسد المعاش the lived body هو “المكان” الذى يحدث فيه الفهم الحميم لكل من التجربة واللغة.
فعندما ننظر إلى التمثيل باعتباره ظاهرة وعملية، فإن كل من نظرية الفينومينولوجيا ونظرية التجسيد تدعوانا إلى الاستماع والتأمل من منظور ضمير المتكلم فى «الأشياء نفسها»، أى الوعى المتجسد، والاهتمام، والوعى الحسى، والزمنية، والتخيل، والخبرة فى حد ذاتها.

التمثيل باعتباره سؤالا.. ومفارقة
  وعلى غرار جروتوفسكى، أعتبر التمثيل بمثابة “سؤال” ينبغى استكشافه فى الأستوديو، ثم التفكير فى.. كيف يستطيع الممثل أن “يلمس.. ما لا يمكن لمسه”، ويقول.. ما لا يمكن قوله، ويفعل.. ما لا يمكن فعله، ويجسد الخيال بالكامل؟ بصفته أحد أهم ممثلى النو اليابانيين وأكثرهم تأثيرًا فى القرن العشرين، أوضح كانزى هيساو:
أريد أن أتواجد على خشبة المسرح كما قد توجد الزهرة؛ تلك الزهرة التى تزهر بالصدفة هناك.. الزهرة حية. والزهرة يجب أن تتنفس. ويروى المسرح قصة الزهرة.
إن الطبيعة غير المعقولة والمتناقضة ظاهريًا لكل من رغبة كانزى هيساو فى «الوجود على المسرح كزهرة» وكذلك سؤال جروتوفسكى حول كيفية «لمس ما لا يمكن لمسه» يمكن اعتبارهما شكلًان من أشكال التشويش أو التعتيم المتعمد. ولكن عندما نقرأهما باعتبارهما مقترحين يجب استكشافهما عمليًا فى الأستوديو، فإن الزهرة كاستعارة حية يجب تجسيدها على المسرح، وسؤال جروتوفسكى المتناقض ظاهريًا حول «لمس.. ما لا يمكن لمسه» يصبح ملموسا وماديا. فالأستوديو هو مساحة/مكان يستكشف فيه الممثل كيف يكون «على المسرح كزهرة» وكذلك كيف يلمس ما لا يمكن لمسه, فكيف تلمس الممثلة بلسانها وشفتيها وأسنانها وعينيها وأذنيها وراحتى يديها وأنفاسها وكتفها وأطراف أصابعها؟ وكيف «يتأثر» الممثل عندما يدخل فى عملية التخيل المجسد؟ ان التمثيل كظاهرة وعملية، «سيظل» (فى النهاية) «غير قابل للمس» حتى عندما نمد أيدينا نحو إمكانية لمسه فى ممارساتنا الملموسة التى ترتكز على الأستوديو أو عندما نتأمل ممارساتنا.
  يلاحظ جروتوفسكى بحكمة كيف أن الممثل فى الأستوديو لا ينبغى أن يستمع إلى الأسماء التى تُطلق على الأشياء؛ بل ينبغى له أن ينغمس فى الاستماع إلى الأشياء نفسها.
وفى هذا الكتاب، نستكشف طرقًا للانغماس بشكل أكثر اكتمالاً فى الاستماع إلى «الأشياء نفسها» وفهمها. فنحن كممثلين من داخل العملية أو عند توجيه المؤدى كمخرج/معلم، فى نقطة معينة من عملية الاستماع إلى اللمس أو الوصول إليه، قد ننطق ونضع فى كلمات شيئًا يساعد الممثل فى اكتشاف كيفية «الاستماع» وكذلك كيفية اللمس - حتى لو كان ما يتم لمسه «غير قابل للمس» فى النهاية. ومهما كانت الكلمات قليلة، فهى جزء من أى عملية توجيه واكتشاف إبداعى.

نقاط الانطلاق: الجزء (2)
  كيف يبدأ الممثل فى إعداد عقل جسمه bodymind (أو “الجسم العاقل mindful body”)(1) لأداء «قطعة من المونولوج» لبيكيت؟ كيف يمكن للمرء أن يتعلم الانتباه إلى «الشيء نفسه» فى الفم أو الاستماع إليه أو لمسه/ملمسه/تشكيله - كلمة «الولادة» - أو أن يصبح زهرة على خشبة المسرح؟ وقد اقترح جروتوفسكى نقطة انطلاق واحدة:
لا يمكن للإنسان أن يعمل على نفسه.. إذا لم يكن داخل شيء منظم ويمكن تكراره، شيء له بداية ووسط ونهاية، شيء كل عنصر فيه له مكانه المنطقى، الضرورى تقنيًا.
تقدم بعض أشكال التدريب النفسى الجسدى المتعمق هياكل محددة «حيث يكون لكل عنصر مكانه المنطقي» - وهى بنية تقدمية يمكن من خلالها «العمل على الذات». يمكن لأى عملية نفسية جسدية تعد الممثل للتعبير عن هذه الكلمة الأولى أن تبدأ بالتعامل مع ثلاثة أبعاد أساسية لـ «العمل على الذات»:
1- التباطؤ من أجل البدء فى الاهتمام باستكشاف أذواق/ملمس الكلمات فى الفم؛
2- اكتشاف ما هو “ضروري” فى اللحظة الأدائية فى نطق الكلمات؛ وبالتالي
3- السماح للذات بالتأثر بالفعل المتجسد المتمثل فى تشكيل/نطق “الكلمة الأولى”.
  إن أحد المسارات العديدة المنظمة نحو هذه العملية الأساسية هو اكتشاف الوعى المتجسد من خلال استكشاف علاقة المرء بالتنفس أثناء الحركة من خلال فن قتالى آسيوى مثل التاى تشى تشوان taiqiquan - وهو مسار أشترك فيه مع العمل الاستوديو الرائد لهربرت بلاو وفرقته المسرحية كراكينKRAKEN، ومع أحد مرشدى وناصحى، أ. سى. سكوت - مؤسس برنامج المسرح الآسيوى / التجريبى الذى ورثته من سكوت وأدارته لأكثر من 20 عامًا فى الولايات المتحدة. لقد استخدمنا جميعًا التاى تشى كتدريب ما قبل الأداء لاستكشاف ما وصفه سكوت بقدرة الممثل على “الوقوف ساكنًا أثناء عدم الوقوف ساكنًا” (1975). وشرح بلاو استخدامه المبكر للتاى تشى على النحو التالي:
(التاى تشي) مفيد للممثل فى التعامل مع المعضلة غير القابلة للحل: الفعل أو الدافع، والوجود أو الصيرورة، والداخلى أو الخارجى - أيهما يأتى أولاً؟.. يتجسد كل منهما فى الآخر.
من خلال الانتباه الدؤوب إلى حركة التنفس، يسمح هذا النوع من التدريب للفرد ببدء استكشاف أساسى للوعى المتجسد، أى توجيه انتباه المرء، وفتح الوعى الحسى، و»الاستماع» الحركى، وعمليات التخيل. إن ممارسة شكل منظم مثل التاى تشى تشوان يسمح للمرء باستكشاف ذلك المكان بين الإلهام والزفير. التكرار. التصحيح. التأمل. المزيد من التكرار. المزيد من التصحيح. المزيد من التأمل. ضرورى لتسكين وتحقيق ما هو محتمل داخل أى نمط معين من الحركة، وأى تنفس أثناء الحركة. وربما، كما قال هربرت بلاو، يمكن أن تكون الممارسات النفسية الجسدية مثل التاى تشى تشوان أشكالاً من «التأمل الجسدى فى الظل والتنفس.. «التأكيد على الوضوح فى الفراغ – الحركات الدقيقة والنظيفة والنقية، فى حين لا يمكن فصلها أو فك رموزها”. وسواء كان ذلك تاى تشى تشوان أو عملية أخرى من التدريب النفسى الجسدى المنظم مثل تدريب سوزوكى، فإن المهم هو إشراك واستكشاف الوعى المتجسد، والاهتمام بالإدراك والتخيل، بالتفصيل بينما يتعلم المرء كيف يكون الاستماع، ولمس “ما لا يمكن لمسه”.

الفينومينولوجيا: نحو فهم التجربة والوعى
  ولمساعدتنا فى عملية الاستكشاف والاكتشاف هذه، سأستخدم الفينومينولوجيا بشكل أساسى. فعلى عكس الأنواع الأخرى من الفلسفة التى تتعامل مع الأسئلة الميتافيزيقية أو الوجودية الأساسية، فإن الفينومينولوجيا ليست نظرية فى حد ذاته. وكما يوضح فريدريك جيه ويرتز، الفينومينولوجيا ليست مجموعة ثابتة من المعرفة، بل هى طريقة أساسية للتحقيق يمكن تكييفها بشكل مرن وتظل مفتوحة للاكتشافات الجديدة والمصطلحات وتعديل الممارسات.
  إن الفينومينولوجيا تشبه التمثيل من بعض النواحى، فهو عملية وممارسة فى الوقت نفسه. وتقدم طرقًا للتعامل مع ومحاولة وصف بنيات وأسس اهتمامين أساسيين يشترك فيهما ستانيسلافسكى وجروتوفسكى وزيمي: التجربة والوعى، أى العالم المعاش/الحى كما نواجهه ككائنات مجسدة وواعية/متأملة عندما نكون على خشبة المسرح. ولا تحاول الفينومينولوجيا إثبات الحقائق المطلقة ولا تحاول تقديم وصف نهائي/كامل لبنية وأسس عالمنا المعاش/الحى، بل تحاول فهم وتوضيح كيفية تشكل الخبرة والإدراك والوعى والتخيل وما إلى ذلك عندما نواجه العالم بكل تعقيداته. وتتيح لنا هذه العملية والظاهرة المفتوحة للانخراط فى العالم المعاش/الحى إدراك هذا العالم والتصرف فيه والانخراط فيه والتأثر به.
  مع بدء تطور الفينومينولوجيا فى أوائل القرن العشرين، حولت فينومينولوجيا هوسرل الفلسفة بعيدًا عن افتراض وجود واقع موضوعى واحد محدد تمامًا. وكما يوضح ديفيد أبرام، فقد حرك هوسرل الاستقصاء الفلسفى إلى
«الأشياء فى ذاتها»، والى العالم كما تتم تجربته فى مباشرته الملموسة.. [الفينومينولوجيا] لن تسعى إلى تفسير العالم، بل إلى وصف الطريقة التى يجعل بها العالم نفسه واضحًا للوعى، والطريقة التى تنشأ بها الأشياء أولاً فى تجربتنا الحسية المباشرة.
أصبحت الفينومينولوجيا حركة فلسفية متعددة الأبعاد تركز فى المقام الأول على ما يشكل ويبنى تجربتنا المجسدة، والجسد/العقل الحى الذى نواجه من خلاله «العالم»، وطبيعة الوعى البشرى، والذاتية؛ وبالتالى، فإن المحور المركزى للعديد من الروايات الفينومينولوجية هو كيف أن الأجسام والوعى والمهارات تشكل الأساس فى بناء الخبرة والإدراك والفعل.
  كما وضّح إيفان تومسون، تسعى الفينومينولوجيا إلى فحص “الطبيعة النوعية لما يتم اختباره، وأشياء التجربة”، فضلاً عن “الطبيعة الذاتية للنشاط نفسه، وأفعال التجربة”. ونتيجة لذلك، فعندما نفحص ما نشعر به - عند الرؤية أو السمع أو الشم أو التذوق أو اللمس أو الحس الحركى العميق - أو عندما نشعر أو نفكر أو نتخيل أو نتذكر، يركز الوصف الفينومينولوجى على ما يشبه كل نشاط، أى “ما يشعر به المرء عند مواجهة العالم” بصريًا أو سمعيًا أو باللمس أو عند الحركة أو عند التذكر أو التخيل، إلخ. وكيف يكون شعورنا عند تجربة لون أو شكل التفاحة التى نراها، أو صوت التشيلو سوناتا، أو السطح الأملس/الصلب للقرع الذى نلمسه، أو جسمنا أثناء تحركه استجابة لعملية معينة من التخيل، أو فعل معين من التذكر؟ تهتم الفينومينولوجيا بكل من بنى هذه التجارب وما يشبه كل من هذه التجارب. تدعونا الفينومينولوجيا إلى طرح السؤال، كيف يختلف السمع عن الاستماع، أو التخيل، أو التذكر، أو اللمس؟. وعلاوة على ذلك، تدعونا الفينومينولوجيا أيضًا إلى التساؤل عما إذا كانت تجربة شكل التفاحة على خشبة المسرح فى الأداء تشبه أو تختلف عن تجربة التفاحة فى بستان التفاح وكيف. كما تدعونا أيضًا إلى التفكير فى كيف يشعر الممثل بتجربة “طعم” التفاحة الفاسدة المتخيلة من خلال الانتباه إلى تجمع اللعاب فى فمه. وإذا فهمنا التمثيل باعتباره وسيلة من وسائل الاستقصاء المتجسد، أى ظاهرة وعملية المفاجأة والاكتشاف فى اللحظة، فيمكن أيضًا فهم التمثيل وكذلك الإخراج باعتباره طريقة “للقيام”بالفينومينولوجيا.(2) (انظر الملحق للحصول على لمحة تاريخية موجزة عن الظواهر ذات الصلة بالتمثيل/الأداء، وفيما يتعلق بالقضايا الرئيسية المتعلقة بالجنس والعرق والإعاقة).

بين الفينومينولوجيا والعلوم الإدراكية
  ونظراً لمركزية قضية الوعى فى مجال البحث الفينومينولوجى، فقد نشأت منذ تسعينيات القرن العشرين رؤى جديدة حول الوعى من خلال التعاون المثمر بين علماء الفينومينولوجيا وعلماء الإدراك، ولاسيما فرانشيسكو فاريلا وإيفان طومسون وغيرهما من المتعاونين معهم.(3) وقد أسسوا أبحاثهم فى كثير من الأحيان على الإمكانيات التحويلية للتجربة التى توفرها ممارسات اليقظة المجسدة المحددة داخل التقاليد البوذية للتأمل التى تعود إلى قرون مضت.

الهوامش  
1-  Vnutrenij Zrenie: استخدام “العين الداخلية” (بينيديتى فى ستانيسلافسكى 2008: 684)، وإنشاء Vldenie: “الصور العقلية” (بينيديتى فى ستانيسلافسكى 2008: 684).
2- يعود مفهوم “ممارسة الفينومينولوجيا” على الأقل إلى كتاب هربرت سبيجلبرج “ممارسة الفينومينولوجيا: مقالات عن الفينومينولوجيا وفيها” حيث يؤكد أن “التحدى الرئيسى بالنسبة لى كان دائمًا الحاجة إلى إثبات الفينومينولوجيا بشكل ملموس من خلال ممارستها بدلاً من التحدث عنها” (1975:xiii). وعلى نحو مماثل، فإن كتاب إدوارد كيسى “التخيل” - الذى نُشر لأول مرة فى عام 1976 - يوضح “ممارسة كيسى للفينومينولوجيا”، أى “القيام بعمل وصفى دقيق” حول “التخيل” أو “التذكر” (2000:ix-x)
3- انظر بشكل خاص Varela, Thompson and Rosch (1991)؛ Depraz, Varela and Vermersch (2003)؛ و Thompson (2007). بالنسبة لأولئك المهتمين بأحدث التطورات فى نظرية التنفيذ، انظر Enaction: Toward a New Paradigm for Cognitive Science، تحرير Stewart, Gapenne and Di Paolo (2010)، Shaun Gallagher’s Enactivist Interventions: Rethinking the Mind (2017)؛ Eqezuiel A. Di Paolo, Thomas Buhrmann, Xabier E. Barandiaran, eds. Sensorimotor Life: An Enactive Proposal (2017)؛ و Christoph Durt, Thomas Fuchs and Christian Tewes, eds. التجسيد، التنفيذ، والثقافة (2017)

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح