في عقر دار عم نجيب امرأة أقوى من نساء رواياته

في عقر دار عم نجيب امرأة أقوى من نساء رواياته

العدد 554 صدر بتاريخ 9أبريل2018

 في إطار نسائي الزعامة، ومن داخل روايات الكاتب الروائي نجيب محفوظ، استعان الكاتب المسرحي د. سامح مهران ببعض الشخصيات التي تُعد من الشخصيات المنقسمة نفسيا، المزدوجة، والمدعية الفضيلة أحيانا، والمُمارِسة للرزيلة أحيانا أخرى، هذا إسقاط وكشف عن الوجه الآخر للإنسان المعاصر. ومن خلال شخصيتي سعدية وعباس، الزوجين مع إيقاف التنفيذ، الباحثين عن منزل يجمعهما، بينما يعانيان الفقر المدقع الذي يحول دون ذلك، ودون حتى امتلاكهما أبسط حقوق الحياة الكريمة كالمأكل والنظافة والاستحمام، وفي أحد الأيام – وهو بداية الحدث الدرامي المسرحي – وحين يسيران على كورنيش النيل شأنهما كشأن الكثير من الشباب المشتت الضائع الباحث عن الأمل، وهما يأكلان (الترمس) ويتنازعان على حباته الأخيرة، وفي مزحة من عباس يقول لسعدية إن قرطاس الترمس لا يقل إفادة عن الترمس ذاته لما يحويه ورق القرطاس هذا من معلومات وتثقيف لقارئه، يقومان بقراءة سطور هذه الورقة ويقرآن إعلانا عن شقة للإيجار، فيعجلان بالذهاب إلى عنوانها، وهنا تبدأ رحلة المتاعب الكبرى بالنسبة لهما. حيث يلتقيان بصاحب الشقة الباشا المتعجرف الإقطاعي، الذي ينظر إليهما بدونية وطبقية، متعاملا معهما وكأنهما عبدان أو قطعتان من الشطرنج يحركهما كيفما يشاء، ويواجههما بأن الشقة مسكونة بالأشباح وعندها تفزع سعدية وترفض الإقامة بها، بينما يقوم الباشا - الذي نكتشف في النهاية أنه أحد الأشباح - بإقناع عباس والدخول إليه من ناحية الغريزة والرغبة في الانفراد بزوجته، مما يُخضع سعدية بالإقامة في تلك الشقة، وعندما يحاولان الانفراد ببعضهما البعض، تبدأ الأشباح في الظهور وتبدأ رحلتهما نحو صراع القوى والضمائر، هذه الرحلة التي تكشف عن مدى صلابة سعدية أمام أية مغريات، كما تكشف هزيمة عباس أمام رغباته وغرائزه وطموحاته التافهة وشخصيته الزائفة الباحثة عن مُتع الدنيا في مقابل التخلي عن القيم والمبادئ.
في رحلتهما بين جدران هذا المنزل وبعد أن أقنع عباس سعدية بالجلوس معه فيه كي ينفذا الزيجة، وداخل غرفة النوم، وبمجرد اقترابهما من بعضهما البعض تبدأ أشباح شخصيات نجيب محفوظ في القفز على الأحداث، لنرى خروج شخصية (سي السيد أحمد عبد الجواد) من دولاب الملابس ليبدأ بنصح عباس بأن الزوجة ليست للمعاشرة والمتعة هي فقط للخدمة والطاعة العمياء، وأن المتعة الحقيقية خارج المنزل لدى أمثال زبيدة، وبينما ينصاع عباس وراء كلمات ونصائح السيد أحمد عبد الجواد خاصة عندما تخرج من الدولاب الست أمينة مطيعة لجميع أوامر زوجها لها، وزبيدة ترتدي زي الرقص قائمة بتدليله، تبدأ سعدية بالاصطدام مع شبح أحمد عبد الحواد ومحاولة إبعاده وإبعاد أفكاره البالية عن زوجها عباس، ولكن دون جدوى، فقد انصاع عباس خلفه وحدث ما حدث حتى إنه ركع على ركبتيه لتركب زبيدة فوق ظهره. ثم تظهر شخصية ثانية من شخصيات نجيب محفوظ وهي الإرهابي ذو الرأسين، الذي ينزل من أعلى إلى الأسفل مرتديا الأسود الذي يدعي أنه اضطر لقتل قرينه الطيب - الذي ما زالت رأسه معلقة على أكتاف الإرهابي - حتى يعيش هو، ولأن هناك من يجب أن يموت ليلوذ الآخر بالحياة، في إشارة إلى فكرة أن كل إرهابي يعيش على الأرض يحمل على أكتافة ومُعلق بعنقه الكثير من الرؤوس البريئة، كما أن فكرة نزوله إلى الأحداث الدرامية ومستوى الأداء من أعلى تشير إلى قناعة الإرهاب أنه آتٍ بأوامر ودساتير سماوية، ومن ثم فهو مصور كونه إبليس لديه الكثير من الأيادي الخفية والأبناء الذين يشعلون الفتنة في المجتمعات، فنراه يستحضر أبناءه وأحفاده ويوجههم نحو الشر كيفما يشاء، دون سيطرة عليهم من سعدية، وعندما يضيق صدرها لاستيعاب كل ما يحدث حولها، ولضياع عباس منها، تقرر الهروب من هذا المنزل والعودة للحياة التي ألفتها والواقع الذي تعرفه حتى وإن كان صعبا ومُرهقا، ولكن ما إن نوت مغادرة المنزل حتى خرج لها من قلب لوحة شخصية (علي طه) الشاب الثوري برواية القاهرة 30 الذي كان يقوم ببث روح الأمل في حبيبته من خلال الأشعار وقراءة الكتب لحثها على تحمل مصاعب الحياة ومعوقاتها، مثلما كان يقوم بهذه المقاومة في حبه لوطنه عن طريق محاربته للملكية وتوزيع المنشورات، ومن داخل ثلاجة تخرج فتاة السمان والخريف ريري، الساقطة العاهرة التي تعرف عليها في الإسكندرية عيسى الدباغ المواطن الذي تقلد مناصب وظيفية عالية حين كان حزب الوفد المنتمي إليه في دائرة حكم البلاد ثم مع تغيرات وتقلبات الحياة السياسية انخفض شأنه الوظيفي الذي كان يستمد منه قوته، فزادت شراسته وتخبطه، ووقع في علاقة عابرة مع ريري العاهرة التي أخبرته يوما ما أنها تحمل جنينا منه، فيتشكك ويتبرأ من هذا الجنين، وتواجه ريري مستقبلها وتتوب عن العهر وتنجب طفلتها مواجهة الحياة العثرة بكل ما تحمل من تقلبات ومعوقات.
ومن داخل مفهوم الازدواجية الذي أراد المؤلف تناوله باختياره لشخصيات محددة من أعمال نجيب محفوظ دونا عن غيرها، انطلقت رؤية المخرج جلال عثمان مع مهندسة الديكور نهاد السيد في تصميم وتنفيذ الديكور، فبادئ ذي بدء جاءت الألوان بالأسود والأبيض، ليدخلونا عالم الأحداث من خلفية تاريخية، وبأجواء عالم السينما المصرية القديمة التي تناولت تلك الروايات، ولخلق دلالة هامة داخل العرض وهي أن كل ما يحدث من تلك الشخصيات وما ينتهجونه ينتمي للماضي وأصبح من التراث ولا يمت للحاضر بصلة، كما تُرجمت هذه الازدواجية في انقسام مناطق الأداء بغرف منقسمة ومستقلة، يحدث بكل منها شيئا منفصلا على حدة، وأن هذه الغرف تحتوي على قطع من الديكور ذات أفكار مبتكرة، ومستغلة بشكل مختلف، كأن نرى بغرفة النوم بعض الأشباح تخرج من دولاب الملابس، أو من تحت السرير، أو من داخل لوحة بأعلى الجدران يكون ملصقا عليها يخرج منها وقت استحضاره ويعود إليها فيما بعد، كشخصية (علي طه) الذي يخرج يتحرك ويتحدث للحظات ثم يعود لثباته مرة أخرى، في دلالة على عدم قدرته على التغيير أو اتخاذ موقف حاسم تجاه شيء ما، أو من داخل ثلاجة كشخصية (ريري) التي تخرج متجمدة الجسد، تدب فيها الحيوية لدقائق تتحدث عن معاناتها وانكساراتها وتخلي المجتمع عنها ثم تعود لتجمدها وللثلاجة مرة أخرى دليلا على الاستسلام والانهزام.. وبجانب الديكور وكون العرض في قاعة وليس مسرح العلبة الإيطالي، وبجانب ما لعروض القاعة من خصوصية ودلالة، فقد اتخذ المؤلف والمخرج قرارا هاما خاصا بعلاقة المتفرج بالعرض أكثر عمقا، وهو أن يجلس في قلب قاعة العرض، بينه وما يجاوره مسافة تسمح بأن يلتفا بالمقعد، بحيث في لحظات من العرض يكون من هو في الصف الأول في الصف الأخير ومن بالوسط أقرب شخص للممثل، كما يضيف هذا بعدا دراميا هاما في قلب الأحداث، وهو عدم طبقية الجمهور وجلوسه في الصفوف الأولى وفقا لثمن التذكرة أو أسبقية الحضور، بجانب مشاركة الجمهور للأهوال التي تلاقيها سعدية، بحيث يتفاجأ معها، يندهش، يُفجع، ينظر لكل ما يحدث حوله بتتبع، يشعر بالمحاصرة وعدم القدرة لي الإفلات أو الخروج من قاعة العرض/ الشقة، يستشعر أنفاس سعدية اللاهثة الباحثة عن مخرج من هذا المكان الموحش وينتظر لحظة انتهاء هذا الكابوس مثلها أيضا.
أما عن موسيقى العرض التي قامت بتأليفها د. ياسمين فراج أستاذة الموسيقى، فقد لجأت إلى آلات العصر الذي تنتمي إليه شخصيات نجيب محفوظ، والأكثر انتشارا في هذه المجتمعات آنذاك كالأوكورديون، وهي آلة لها خصوصية شديدة ومرتبطة بالمجتمع المصري والعازفين القدامى في الأحياء الشعبية وبين الطبقات العامة، كما استعانت ببعض أغاني تلك الفترات الزمنية المعروفة وتوظيفها دراميا بحيث تستدعي في ذهن المتلقي معاني محددة ولتصل الرسالة والهدف من اللحظات الدرامية التي تساندها تلك الأغاني والموسيقى.
وعن اختيار المخرج للممثلين، وتسكينهم في أدوار العرض، وبما أن هذا الاختيار جزء أصيل من رسالة العرض، فهو انتقى من الممثلين ما يتناسب تماما مع طبيعة النص ومعاناة أبطاله، فسعدية التي قامت بأداء دورها بحرفية شديدة وحساسية عالية هبة توفيق، وعباس الذي أداه خضر زنون، كان يتضح أن أعمارهما الحقيقية في منتصف الثلاثينات، وهذا يتناسب مع فكرة أن هذين الزوجين لا يجدان سكنا للزواج وأن زواجهما فقط هو حبر على ورق منذ فترة طويلة وأن الزواج في العصر الحالي وإيجاد السكن أصبحا من المستحيلات، حتى وإن وجدا السكن فسيظهر لهما عائق جديد أكثر صعوبة. والباشا الإقطاعي الذي أداه بحنكة وبشكل يشبه نفسه شريف عواد، كما أن لجميع الممثلين أثرا هاما على أدوارهم، ربما رغم قلة مساحتها فإنهم تركوا بصمات هامة، مثل أحمد نبيل الذي أدى دور علي طه، ومحمد عبد الرحيم في دور الإرهابي ذي الرأسين، ومروة يحيى في دور ريري، وسلمى رضوان في دور زبيدة الراقصة، وريهام حسن في دور الست أمينة، وهادي محيي في دور السيد أحمد عبد الجواد.
وبجانب طرح مفهوم الازدواجية الذي يعاني منه مجتمعنا حاليا، وعلى عكس ما صور نجيب محفوظ المرأة المصرية في أعماله، فهي إما فتاة ليل أو عاهرة أو عشيقة في الظل أو بائعة لجسدها لكسب قوت يومها، مثلما طرحها في شخصيات مثل (إحسان في القاهرة الجديدة، وحميدة في زقاق المدق، ونفيسة في بداية ونهاية، وزهرة في ميرامار، وريري في السمان والخريف)، فقد صور سامح مهران امرأة اليوم مثلما يراها ونراها جميعا كل يوم، وفي كل حي، وطبقة اجتماعية، فهي مكافحة، صبورة، أكثر صلابة من الرجل وأكثر ثباتا على الموقف السليم، عفيفة، لا خانعة ولا ساقطة حتى وإن كانت محدودة الثقافة، لا تستغل العهر طريقا كي تعيش بل تناضل للإبقاء على قيد الحياة وبعفة وشرف، حاملة لواء الثورة على الظلم والأمل في غد أفضل. فالجميع يلقي على عاتقها مسئولية الخروج بهم من الظلمات إلى النور ويعول عليها أن تتغلب هي على ما لم يستطع هو التغلب عليه لتصل به إلى بر أمان. في إشارة واضحة من العرض والنص أن حاضر ومستقبل المجتمعات أصبح رغما عن الجميع بيد المرأة وبإدارتها وإدارة عقلها.
 

 


رنا عبد القوي