الحلم الأمريكى المكسور بين «وفاة بائع متجول» و«الأسوار».. قراءة مقارنة

الحلم الأمريكى المكسور  بين «وفاة بائع متجول» و«الأسوار».. قراءة مقارنة

العدد 953 صدر بتاريخ 1ديسمبر2025

فى المسرح الأمريكى، يطلّ الحلم الفردى ككلمة سحرية، لكن ما أن نقترب منه حتى يتضح أنه وهم يلمع أكثر مما يضىء. أحلام الصعود، النجاح، الحرية، والعمل الجاد.. كلها تتحول فى لحظة إلى أسوار تحاصر الإنسان بدل أن تفتح أمامه الأبواب. فينقلب الحلم إلى خيبة، والخيبة إلى جرح يتردد صداه عبر الأجيال.
من هنا تتقاطع مسرحيتان كلاسيكيتان: «وفاة بائع متجول» لأرثر ميلر و«الأسوار» لأوجست ويلسون. الأولى كتبت قبل أكثر من سبعين عامًا، والثانية جاءت بعد عقدين تقريبًا، لكن كلتاهما تعيدان صياغة السؤال نفسه: ما الذى يبقى من الحلم حين يصطدم بجدار الواقع؟

الدروس العابرة للحدود
ليست المسرحيتان حكايتين أمريكيتين فحسب بل مرآتان للإنسان أينما كان. 
«ويلى» فى مسرحية ميلر و«تروى» فى نص ويلسون يبدوان كجيران نعرفهما نحن أيضًا، آباء حملوا أحلامهم وأرادوا توريثها، لكنهم لم يجدوا سوى جدارًا يسد الطريق.
هذه المآزق ليست غريبة عن مجتمعاتنا العربية: أحلام الآباء التى لم تتحقق، والأبناء الذين يرثون خيبات لم يصنعوها. وكأن خشبة المسرح، فى أمريكا أو فى العالم العربى، لا تعرض قصصًا بعيدة بل تكشف ما نخفيه فى أعماقنا نحن.

تراجيديا إنسان عادى
ليس «ويلى لومان» ولا «تروى ماكسون» بطلًا أسطوريًا من طينة هوميروس بل رجلًا عاديًا يسحقه الواقع.
ويلى يصرخ: «أنا ليس لدى أحد آخر، كل شيء يعتمد على!»، وهو يغرق فى الوهم بأن الولاء والعمل الجاد يكفيان ليفتحا له باب النجاح.
أما تروى، فيحمل على كتفيه خبرة مرة مع التمييز العنصرى، فيبنى سياجًا حول أسرته، معتقدًا أنه يحميها، لكنه فى الحقيقة يقيّدها. حب يتحول إلى قيد، وسياج يصبح رمزًا لحماية تُخفى فى داخلها حرمانًا من الحرية.

الأبناء.. صدى الأسوار
فى كل نص، يتحول الصراع إلى مواجهة بين أب وابنه.
«بيف»، ابن ويلى، يعترف: «كنت أحاول أن أكون مثل أبى، لكنه لم يكن كما أردت أن يكون!». جملة تختصر مأساة جيلين: أب أسير للوهم، وابن يسعى إلى الحقيقة.
أما «كورى»، ابن تروى، فيصرخ: «لا أريد أن أكون نسخة أخرى من تروى ماكسون، لكنى أريد أن أكون نفسى ولا شىء غيرها».
هنا، الخوف الأبوى من جدار العنصرية يتحول إلى سياج يقطع الطريق على الابن. هكذا يُصبح الحب سجنًا حين يُقمع باسم الحماية.

المرأة.. حين يتحول الصمت إلى صدى
وسط عتمة الوهم وصخب الصراع الذكورى، تظل المرأة هى النبرة الأكثر صدقًا.
«ليندا»، زوجة ويلى، تحاول أن تذكّره بأن الاستسلام ليس خيارًا، لكنها لا تستطيع إنقاذه من الغرق
بينما «روز»، زوجة تروى، تقف أكثر صلابة: تواجه خياناته وأخطائه، وتبقى السند الوحيد للأسرة بعد رحيله.
هنا يتحول الصمت الأنثوى إلى صدى، والصرخة إلى مرساة. المرأة ليست شاهدًا على السقوط فقط، بل اليد التى تلتقط شظايا البيت المكسور وتعيد لملمته.

حقيبة وسياج
لا يخلو المسرح من رموزه: الحقيبة التى يحملها ويلى على كتفيه، وزنها ثقيل كأوهامه، رمز للحلم الذى لم يتحقق.
والسياج الذى يبنيه تروى حول منزله، يحمل المعنى المزدوج: حماية من الخارج، لكنه فى العمق أسوار داخلية تحبس الأبناء وتعيد تكرار القيد نفسه الذى عاشه الأب.
الرمز هنا لا يشرح نفسه، بل يتسلل إلى وعينا كما يتسلل الماء بين الأصابع.

حين يضيق الزمان ويتشقق المكان
الأربعينيات والخمسينيات فى «وفاة بائع متجول»: زمن ما بعد الكساد، حيث الفرد الأبيض يكتشف أن السوق لا تعترف بالأحلام.
الخمسينيات فى «الأسوار»: زمن الأمريكى الأسود، حيث العنصرية تصنع تفاصيل اليوم، وتجعل من كل باب مغلقًا جدارًا إضافيًا.
هكذا يتحول الزمن والمكان إلى شرك، إلى مسرح ضيق تملأه الأسوار، فتبدو حياة الفرد صراعًا بين ماضٍ يثقل الخطوات وحلم لا يصل أبدًا.

لغة تبحث عن مرآتها
لغة ميلر لغة الأمريكى الأبيض المتوسط، مكشوفة، حادة فى نقدها للرأسمالية.
أما ويلسون فيكتب بإيقاع السود، بذاكرتهم الجمعية ونبرتهم الشعبية، فيحوّل اللغة إلى هوية، ويجعلها مرآة لجماعة بأكملها لا لفرد وحده.

النهاية.. موت وانفتاح
حين يسقط الستار، يبقى الموت حاضرًا كخاتمة وكاشف.
ويلى يختار الانتحار، تاركًا جملة ثقيلة: «لا أحد سيحزن كما أنا حزنت!». موت بلا عزاء، يفضح خداع الثقافة التى وعدت ولم تفِ.
أما تروى، فيموت موتًا طبيعيًا، لكن موته يفتح بابًا للتصالح.
عبر «كورى»، يتجدد الرابط بين الأجيال، وكأن الانكسار قد يتحول إلى بذرة أمل.

ما بين الانكسار والأمل
على خشبة المسرح، كما فى الحياة، يتضح أن الحلم الأمريكى ليس سوى مرآة مشروخة. لكنها مرآة تكشف لنا نحن أيضًا، حين نحاول أن نلمسها بأيدينا.
الأسوار لا تخص أمريكا وحدها، بل تحاصر كل إنسان يحلم بما لا يُتاح له. لكن خلف كل جدار، يبقى هناك صوت، يبقى هناك مسرح، يبقى هناك ابن يحاول أن يبدأ من جديد.


محمد الروبي