يظن كثيرون أن المهرجانات الكبرى لا تكتمل إلا بمسابقات وجوائز، وأن بريق الميداليات والدروع هو ما يمنحها قيمتها. لكن هذا الوهم سرعان ما يتبدد إذا نظرنا إلى تجارب عالمية أثبتت أن الفن قد يكون أعمق وأكثر صدقًا حين يتحرر من منطق الحوافز المادية والتحكيم التنافسي. فهناك مهرجانات لا تعترف إلا بالجمهور شريكًا وحكمًا، حيث تكون المشاركة نفسها هي الجائزة. منذ القدم، ربطت الكثير من المهرجانات الكبرى قيمة الفنان بجوائزها. تسللت هذه الفكرة إلى عقل الجمهور والصناعة: أن الفوز بالميدالية أو الدرع هو ما يمنح الفنان شرعيته، وأن التنافس على الجائزة هو المحرك الحقيقي للإبداع. لكن هذا وهم كبير.والحقيقة أن الفنان الحقيقي لا يحتاج إلى جوائز ليبدع، ولا تتشكل عبقريته تحت ضغط المنافسة. التجربة المسرحية نفسها، اللقاء المباشر مع الجمهور، القدرة على نقل فكرة أو إحساس أو قصة، هي الحافز الأعظم للفنان. الجوائز قد تُلهيه عن جوهر عمله، وتجعل الإبداع يتقزم ليخضع لمعايير لجنة أو ذوق سوقي محدد.هناك مهرجانات عالمية أثبتت أن الفن يمكن أن يكون أعمق وأكثر صدى حين يتحرر من فكرة المسابقة: مهرجان إدنبره فرينج في اسكتلندا يحوّل المدينة كلها إلى مسرح مفتوح لكل التجارب، بلا أي جوائز. ومهرجان فيتينا في النمسا يمزج المسرح بالموسيقى والفنون البصرية دون منافسة رسمية. لكن المثال الأكثر إلهامًا يبقى «مهرجان أفينيون» في فرنسا، الذي صار منذ انطلاقه أحد أكبر الملتقيات المسرحية في العالم، من دون أن يوزع جائزة واحدة.انطلق «أفينيون» عام 1947 على يد المخرج جان فيلار، برغبة صادقة في كسر عزلة المسرح عن الناس. بدأ بثلاثة عروض في فناء «قصر البابوات» بمدينة أفينيون في جنوب فرنسا، ثم توسع ليشمل المدينة كلها: ساحات، قصور، أديرة، شوارع… حتى صارت المدينة في أيامه أشبه بمسرح عملاق ينبض بالحياة. يقوم المهرجان على برنامجين متوازيين:الرسمي (In): عروض مختارة بعناية تمثل رؤية المهرجان الفنية، تُقدم في فضاءات تاريخية أو مسارح مجهزة.الموازي (Off): فضاء حر لأي فرقة أو فنان يريد المشاركة، في أي مكان يمكن أن يتحول إلى مسرح.ملامح أفينيون الأساسية تتمثل في الانفتاح الثقافي، والتجريب بلا حدود، والمزج بين الفنون، وإشراك الجمهور في النقاشات بعد العروض. وهو مهرجان بلا لجان تحكيم ولا منافسة على ألقاب، بل احتفال جماعي بالفن الحي.والأن نعود إلى السؤال: هل يمكن لمصر أن تنشئ مهرجانًا مسرحيًا على غرار أفينيون؟ تخيل مدينة مثل الأقصر( وغيرها من المدن الكثير ) بكل ما تحمله من تاريخ ومعمار فريد، تتحول لعشرة أيام إلى مسرح مفتوح: عروض رسمية في المعابد والساحات التاريخية، وعروض موازية في الأسواق والكورنيش، وورش عمل وجلسات حوارية تدمج الفنانين بالجمهور. لا جوائز ولا تنافس، بل فسحة للقاء والتجريب، حيث تصبح المدينة كلها خشبة، والجمهور كله شريكًا في العرض.إن التخلي عن الجوائز ليس رفضًا للاعتراف بالفن، بل هو تحرر للفنان الحقيقي، ومنح الجمهور فرصة لمشاهدة الفن في أنقى صوره، حيث الإبداع قائم على التجربة نفسها وليس على لقب أو ميدالية.فهل نفعلها ؟