عباسية المجانين !!

عباسية المجانين !!

العدد 869 صدر بتاريخ 22أبريل2024

أشرنا إلى أن مسرحية «عباسية» التي عرضها الريحاني عام 1931، هي عينها مسرحية «مستشفى المجانين» التي عرضها يوسف وهبي عام 1926. وهذا الأمر أشار إليه ناقد مجلة «المصور» في مقالته المنشورة تحت عنوان «عباسية على مسرح الريحاني»، قائلاً: هي ثانية روايات الموسم الحالي، وسبق أن عرض موضوعها على مسرح رمسيس باسم «مستشفى المجاذيب»، ولكن الريحاني استطاع أن يوجد لها جواً مصرياً، وأن يهيئ لأفرادها حياة مصرية صرفة يعيشون فيها دون أن يؤخذ على الرواية أنها من أصل أجنبي وهكذا يتمكن الريحاني من إظهار رواياته كلها بالمظهر المصري الصميم.
وتتلخص المسرحية في أن ثلاثة من الفلاحين - رجلان وامرأة - وفدوا إلى القاهرة للبحث عن الزواج مفضلين ذلك على التزوج من بلدتهم، فرماهم سوء طالعهم في مكتب أحد المخدمين فظنهم هذا المخدم أنهم في حاجة إلى العمل كخدم في بيت من بيوت الأغنياء. وتصادف أن طبيباً كان يزمع الاقتران فطلب من هذا «المخدم» أن يرسل له فوراً ثلاثة من الخدم فلم يتوان هذا في إرسال أولئك الفلاحين الثلاثة. وهناك في منزل الطبيب – وحيث تقام معدات الفرح – يفد الرجلان والمرأة فيجدون العروس وشقيقة العريس، ويظن الفلاحان أنهما الفتاتان اللتان سيقدر لهما الاقتران بهما. كما تعتقد المرأة «الفلاحة» أن زوجها هو هذا الطبيب بعينه. وبعد مفاجآت جمة لحمتها هذا الاعتقاد الغريب يتسلم الطبيب رسالة من مستشفى المجاذيب – الذي يعمل فيه – تفيد بأن رجلين وامرأة قد هربوا من المستشفى، فلا يداخله شك في أن خدمه الثلاثة هم نفس من يبحث عنهم المستشفى. فيأمر بالقبض عليهم والذهاب بهم إلى «العباسية». وفي المستشفى تقع حوادث جمة تكاد تذهب بعقولهم إلى أن تظهر الحقيقة ويقبض على المجانين الثلاثة فيطلق سراح أولئك الفلاحين الذين يعودون إلى قريتهم وهم يقسمون ألا يتزوجوا من غيرها. 
ويعلق الناقد على هذا الملخص، قائلاً: تلك إلمامة وجيزة من موضوع رواية الريحاني وقد استخلص منها عظة لا بأس بها تنص على ضرورة التزوج بالوطنيات وعلى أن كل «فولة» يجب أن يكون لها «كيال»!! وكانت الرواية ناجحة وقد حوت من المشاهد الظريفة ما جعلها سلسلة متواصلة من الفكاهات العذبة المستملحة. فقد كاد الضحك يميت القلوب في غالب تلك المشاهد. ويكفي أن نشير إلى ما كان من الطبيب في الفصل الثالث عندما أحضر الفلاحين إلى المستشفى وهو يزعم أنهم مجانين وأعتزم أن يعالجهم بالموسيقى وهم لا يفقهون سبباً لذلك. فكلما أمرهم بالرقص على الأنغام وامتنعوا هددهم بصنوف العذاب فواصلوا الرقص دون إمهال. كذلك حدث في الفصل الثاني عندما دخل الفلاحون بيت الطبيب وهو يعتقد أنهم خدم في حين يعتقدون هم أنهم أزواج فما كاد نظرهم يقع على العروس وشقيقة الطبيب حتى بدأ الرجلان في منازلة ظريفة مضحكة لا يمكن أن يجري بوصفها قلم. دعك من هذا وتصور أن الريحاني هو الذي قام بدور «شمبكي» الفلاح ثم قدر ما يكون عليه موقفه في مثل هذا الدور!! فنجيب شخصية خفيفة الروح إلى أكبر حد ثم هو فنان لا يجاري إذ يستطيع أن ينفخ الحياة في الأدوار الضعيفة السخيفة، فما بالك به في دور كهذا كله حياة وكله حركة؟ أما محمد كمال المصري «شرفنطح»، وحسين إبراهيم فقد قام أولهما بدور الفلاح الثاني، وقام الآخر بدور الفلاحة. فكانا من مكملات نجاح الرواية وكان امتزاج دوريهما بدور «شمبكي» مدعاة إلى إظهار الأدوار الثلاثة في أحسن مظاهرها. كذلك كان عبد الفتاح القصري ناجحاً في دور «المخدم» إلى حد بعيد شأنه في جميع الأدوار ذات اللهجة «البلدية» التي تستند إليه. وأحسنت فيوليت صيداوي في دور «العروس» وإن كنا لم نفهم الحكمة في جعلها لثغاء بالثاء مع أن المفروض فيها أنها جميلة رائعة كاملة «خالية العيوب»!! كذلك أتقنت فكتوريا كوهين دور «الشقيقة» وخصوصاً في نوبة «الصرع» التي أصيبت بها .. وبالجملة أرى أن الريحاني وفرقته يستحقان كل تهنئة وثناء.
خلافاً لهذه المقالة حول المسرحية، وجدت مقالات أخرى أهمها مقالة جريدة «الوادي» بتوقيع «قصير القامة»!! نشرها في نهاية يناير 1931، وبدأها بهذا التساؤل: أكانت كوميدية أمس التي شاهدتها على مسرح الريحاني في مصاف الروايات الفائقة التي يندر إخراج أمثالها على مسارحنا المصرية؟ أم هي كوميدية عادية لا تحتاج أن يعيرها النقاد وجمهور الأدباء نظرة تحليل أو نقد .... أما أنا فأعتقد أنها تزيد عن المتوسطة قليلاً ولا أنكر أني ضحكت فيها كثيراً و كثيراً جداً كما أني صفقت مع المصفقين إعجاباً واستحساناً وسجلت للأستاذ بديع خيري مقدرته الفائقة في التأليف، وأكبرت عبقرية الأستاذ نجيب الريحاني في مواقفه المدهشة التي كان يقوم بها زعيم المضحكين فتبعث فيك السرور والانشراح بل الإغراق في الضحك، والضحك الكثير الذي ينسيك - نوعاً ماً - متاعب الحياة ويجعلك تختلس فترات من وقتك تلهو فيها وتعبث عبثاً بريئاً، وتمتع نظرك أثناء الرواية بالرقص على نوعية الغربي من فرقة “زار ياس” التي أود لو تشاهد راقصاتها الرشيقات الساحرات الخفيفات اللطيفات، والرقص الشرقي من المدموازيل “ميمي” التي كانت تكرر رقصها البديع مقاطعة بضجة من التصفيق.
ينتقل كاتب المقال إلى العرض المسرحي، وينتقي منه بعض المواقف الكوميدية، معلقاً عليها بأسلوبه، قائلاً: رفعت الستار عن مكتب مخدم وهذا بعض المخدمين حاضرين يشكو إليه خادماً استخدمه من مكتبه، ناعياً عليه هذه الصناعة، كيف أن الخادم سارق؟! يسرق أحذية سيده ويهدد المخدم بأنه سيكون مسئولاً أمام النيابة عن سرقة الخادم. وكانت صورة مضحكة عما يحدث في مكاتب المخدمين لا سيما عندما يستجير المخدوم قائلاً: “أترى أحمل أحذيتي في سلسلة ساعتي؟!” فيجيبه المخدم: “هو أنا مغسل وضامن جنة؟!”. ويحتدم بينهما الجدال ويكثر الأخذ والرد ثم يذهب الرجل إلي سبيله تاركاً الخدم في مكتبه الذي ترى فيه ألوانا و أنواعاً من طلاب الخدمة «الوظيفة»! فترى فيه المخدم خفيف الروح والحركات، يتتابع عليه الخدم والخادمات من أنواع مختلفة وأشكال متباينة. يسردون له مطالبهم الكثيرة عند المخدومين ويدافعون عن حقوقهم دفاعاً يعطيك صورة قد تكون مبالغ فيها بالنسبة لشرقيتنا!! فهذه خادمة تحتج على مخدومها لأنه لا يريد أن يهيئ لها طعاماً من الضأن!! وكيف لا تشاركه في أكل الموز والتفاح الأمريكاني! ولماذا لا تخيط لها ثوباً كلما أشترى لنفسه بذلة جديدة! وكيف لا تصحبه إلى السنيما والمسرح في المساء! .. إلى غير ذلك من الطلبات المثقلة المرهقة الكثيرة! ثم هذا طبيب في الأمراض العقلية حضر ليطلب من المخدم ثلاثة لمناسبة زواجه من فتاة كانت تنتظره في السيارة مع الست أخته بالقرب من باب المكتب، ويتصادف أن يلتقي هنا “بلبلوبة” إحدى الفتيات الثرثارات (المدموازيل كيكي الرشيقة الحسناء) كان قدمها فيما مضى بأنه سيكون زوجها ويوهمها الآن أنه دكتور في الفنون الحربية لا (يوزباشي) كما صرح لها من قبل، فيحصل سوء تفاهم عندما تحضر أخته وخطيبته من السيارة ليستعجلاه ويكون الموقف شاذاً فيه سوء تفاهم إلى حد مضحك!! أما الطبيب فيفهم أخته وخطيبته أن صديقته هذه هي إحدى المريضات التي يعالجن في المستشفى، قابلها هنا مصادفة في حين أنه يوعز إلى فتاته أن أخته ممثلة وينكر أمر خطيبته فتذعر أخته عصبية المزاح عندما تعرف خطأ أن صديقته مجنونة ولكن «لبلوبة» تندفع في الكلام معه ومع السيدتين فلم ير الدكتور بُداً من الانصراف. ويدخل بعد ذلك ثلاثة من أهل الريف رجلان أحدهما شمبكي وامرأة زاعمين أن هذا مكتب للزواج في البندر!! ويمكنهم أن يتزوجوا بواسطته ولكنهم يجدون المخدم غير موجود فيفترشون الأرض ويمنون أنفسهم بالزواج، فيدخل عليهم المخدم الذي يحاول أن يفهم سبب مجيئهم إليه فيلغطون معه بكلام لا يفهمه المخدم، إلا أنهم يطلبون بيتاً للخدمة، فيسره ذلك ويرى أن يقدمهم للدكتور في حفلة زفافه، وهنا يحضر الدكتور مرة أخرى مع أخته وخطيبته ليذكر المخدم بطلبه فإذا هو جاهز، وهؤلاء هم الخدم الذين سيرافقونه، فلا يرى مانعاً من قبولهم. أما هؤلاء الريفيون فيعتقدون أن السيدتين ما هما إلا زوجين، أما الطبيب فهو بعل المرأة الريفية وينصرف الطبيب مع أهله، وقد انتهت مسألة الخدم وينصرف الريفيون وقد انتهت - في ظنهم - مسألة الزواج وهم فرحون لذلك أشد الفرح وسيبدرون في الغد في الذهاب إلى منزل الطبيب. فإذا كان الفصل الثاني فنحن في منزل الدكتور المفروش فرشاً فاخراً والمزين بأحسن الرياش استعداداً للزواج، وهذه العوالم البلدية “شوبش يا حبايب العريس .. شوبش يا حبايب العروسة”! وهذا العريس يسأل التومرجي: هل حضر الخدم الذين سبق طلبهما من مكتب المخدم؟ فيجيبه: لم يحضروا. وبعد قليل نرى الريفيين قد حضروا ومعهم الزيارة لمنزل صهرهم “أعواد القصب” و “أشراش الجزر”! والفطير .. ويدخل الطبيب فيرجونه أن يقبل هذه الهدية البسيطة، أما الطبيب فيأمر التمورجي بأن يحمل هذه  القاذورات ويرميها في سلة المهملات ويطلب إليه أن يأخذهم ليغيروا ملابسهم الريفية .. فيفرح القرويون لهذا أشد الفرح لأنهم سيصبحون من أهل المدن وسيتركون الريف وسيتزوجون في مصرف وهاهم خارجون للبس ملابسهم الجديدة ... ثم يحضر التمورجي ويستأذن الطبيب في دخول المخدم فيسمح له بالدخول وما يلبث أن يخبره أن صديقته “لبلوبة” قررت أن تلقي عليه ماء النار في حفلة العرس فيجب عليه أن يحتاط للأمر .. ثم يخرج المخدم ويرتبك الدكتور قليلاً ثم يستعيد هدوءه لأن حفلة الزفاف قد قربت .. وفعلاً يُزف العروسان على الطريقة الشرقية، ثم ينصرف المدعوون ويبقى في الصالة طبيب وعروسه وأخته نعناعة. وبعد برهة يدخل «شنبكي» في ملابس سائق العربة مع صاحبيه. وفي اعتقادهم أنهم سيتزوجون  .. فيداعب الرجلان المرأتين وتداعب الفلاحة الطبيب!؟ وتعود المواقف إلى سوء التفاهم مرة أخرى! ثم يعقب ذلك ضجة يصحبها ضرب الكراسي، وهنا تحضر «لبلوبة»، صاخبة ساخطة كيف يتزوج الدكتور من غيرها؟ وأين وعوده السابقة .. يا للخيانة العظمى! فيحاول الطبيب إقناعها بكل الوسائل دون جدوى. فتنتاب السيدة نعناعة نوبتها العصبية المعتادة، ويحضر الريفيون الثلاثة ليروا ما الذي حدث! وتذهب لبلوبة إلى غرفة مجاورة. وفي هذه الفترة يستلم الطبيب خطاباً من المستشفى فحواه أن ثلاثة من مرضى مستشفى الأمراض العقلية - رجلان وامرأة - قد هربوا، فيتعجل الطبيب بأن يأمر التومرجي بأن يكتف بالحبال هؤلاء الثلاثة الريفيون الذين حضروا للزواج ويأمره بأن يكتف معهم صديقته لبلوبة، ويأمره بإرسال الأربعة إلى العباسية أي إلى مستشفى المجانين، ويصبح المنظر غريباً بسبب سوء التفاهم فيضحك الجمهور! فإذا كان الفصل الثالث فنحن في إحدى حُجر مستشفى المجاذيب بالعباسية وهؤلاء هم الثلاثة القرويين منزوين في أحد أركان الغرفة يعجبون أشد العجب لمجيئهم إلى هنا، ويذكرون الدش الساخن والبارد ويسرد كل لصاحبه قصته ثم يدخل الطبيب ليفحصهم من جديد ويضع تقريره عن حالتهم العقلية وبعد فترة يستلم رسالة تفيده أن الثلاثة الذين هربوا من المستشفى قد عثر عليهم البوليس، وتكون لبلوبة قد حضرت، ويعود سوء التفاهم مرة أخرى فإذا بالجمهور يستأنف الضحك من جديد. وفي النهاية تتجلى للطبيب حقيقة المسألة ويسدل الستار. 
وأخيراً نشرت مجلة «الصباح» مقالة عن المسرحية، تُعد الأفضل كونها كانت أقرب إلى النقد منها إلى الوصف، ومما جاء فيها أن المسرحية عمدت إلى إظهار نقاط الضعف في المجتمع التي استعرضتها ووضعتها تحت المجهر حتى ظهرت مكبرة واضحة، وهي مع ذلك لم تبعد كثيراً عن الحقيقة في هذا التكبير! بل كانت في بعض الأحيان تصور الواقع كما هو بلا زيادة في حجمه حينما يكون هذا الواقع من الظهور بحيث لا يحتاج للتكبير. فقد صورت الرواية شخصية كثير من الشبان المصريين الذين يتخذون كل يوم خليلة. ثم يوعدونها بالزواج توصلاً إلى الغرض المعلوم ثم تظهر الخديعة بعد ذلك ويكون الهروب من العشيقة القديمة إلى الجديدة أو إلى الزوجة في بعض الأحيان. وكذلك أعطتنا صورة واضحة لمشكلة الخدم في مصر ومقرها «مكتب المخدم» وما في هؤلاء الخدم من نقائص وعيوب، ثم ما يطمح إليه هؤلاء الخدم من مطالب إن لم تكن اليوم فغد. ولعل أهم صورة أخرجتها الرواية هي صورة الفلاح المصري، فهي صورة صادقة جداً وإن كان بعض جوانبها «مكبرة» ليزداد وضوحها!! فقد صورت لنا الفلاح في درجة فاضحة من الجهل والتأخر فهو يحسب مدينة القاهرة شيئاً عجيباً غريباً لا يستطيع فكره أن يصل إليه عظمة وسمواً وهو إذ يحضر إلى هذه القاهرة يكون كالمشدود التائه لا يدري كيف يخطو أو كيف يتنفس ثم هو بعد ذلك عرضة لكل من يريد به السوء من أهل المدينة لأنه يقدسهم ويخضع لكل إشارة منهم، وهو مع ذلك كله سليم النيّة لا يشك ولا يتظنن، بل يفترض لكل شيء غرضاً حسناً يخلعه عليه من نفسه وهو بعد هذا وذلك جاهل بكل أدوار المدنية الحديثة والمستحدثات الجديدة يحسب «المروحة» الكهربائية مثلاً فرامة لحم ويقلب الكرسي «الفوتيل» حائراً مشدوهاً لا يدري لتركيبه سراً ويجلس على الأرض فوق «البساط» ظناً أن ليس في الجنة لهذا من نظير .. إلخ!! وهذا الفلاح جاء به المؤلف ليتزوج من القاهرة وفي نفسه هذه الصورة عن القاهرة وأهلها، حتى إذا جاء إليها وقف مشدوهاً كما مر بك ثم لاقى في سبيل هذا الزواج الآلام المبرحة حتى وصل إلى السراي الصفراء «العباسية».


سيد علي إسماعيل