كشكش بك والفرانكو آراب!!

كشكش بك والفرانكو آراب!!

العدد 856 صدر بتاريخ 22يناير2024

بعد شهر واحد من تمثيل مسرحية «ليلة جنان» بوصفها من نوع الفرانكو آراب، عرض الريحاني مسرحيته الثانية «مملكة الحب» من النوع نفسه، حيث لا موضوع لها ولا قصة ولا مغزى - رغم أنها بقلم بديع خيري ونجيب الريحاني - وكل ما فيها لجذب الجمهور: راقصات أجنبيات ونكات وأغانٍ مجونية وديكور وإضاءة.. إلخ عناصر الاستعراض! وقد تحققت من ذلك بنفسي عندما قرأت مخطوطة المسرحية – التي تقع في 65 صفحة – فلم أجد بها أي ترابط بين الفصول أو بين الأحداث أو بين الشخصيات!! فكلها عبارة عن مواقف كوميدية قصيرة مأخوذة من مواقف «كشكش بك» التي مرّت علينا والمعروفة منذ ظهور الريحاني!!
وتوثيقاً لهذه المسرحية، ننقل إعلانها التفصيلي المنشور في مجلة «النيل المصور» بتاريخ مارس 1927، وهذا نصه: “مسرح الريحاني بشارع عماد الدين أمام الكوزموجراف، تليفون نمرة 5074 إدارة أصلان عفيف، ابتداءً من هذا المساء الرواية الاستعراضية الكبرى «مملكة الحب»، فرانكوآراب ذات 3 فصول تأليف بديع أفندي خيري ونجيب أفندي الريحاني. مناظر فخيمة صنع لومباردي الرسام، ملابس من محلات كلاري من باريس، 25 راقصة على رأسهم المدموازيل روكنج ملكة الراقصات، 40 ممثل وممثلة فرانكوآراب: بهجة، رقص، مناظر فخيمة، ضحك متواصل، حب على آخر مودة. يمثل دور كشكش بك نجيب الريحاني. كل يوم ثلاثاء حفلة نهاية الساعة 6 ونصف للسيدات فقط، وكل يوم خميس وسبت وأحد حفلة نهارية للعائلات”.
وبمقارنة بسيطة بين هذا الإعلان وإعلان المسرحية السابقة «ليلة جنان»، لن نجد فرقاً إلا في اسم المسرحية فقط!! وبالرجوع إلى مخطوطة مسرحية «مملكة الحب»، سنجد مكتوباً على صفحتها الأولى الداخلية أنها عُرضت لأول مرة بمسرح الريحاني يوم الثلاثاء 8 مارس 1927، والممثلون هم: نجيب الريحاني، عبد اللطيف جمجوم، ألفريد حداد، محمود التوني، عبد الفتاح القصري، جبران نعوم، حسين إبراهيم، سيد سليمان. وللأسف لم أجد أية مقالات نقدية منشورة لها، إلا مقالة واحدة كتبها «محرم كمال» في مجلة «الحسان» تحت عنوان «مملكة الحب على مسرح الريحاني»، أكد ما قلناه كون العرض لم يخرج منه بأي معنى أو موضوع أو مغزى، والعرض كله عبارة عن نكات ومواقف كوميدية ورقصات من راقصات أجنبيات .. إلخ.
وللمرة الثالثة يكرر الريحاني الإعلان نفسه مع تغيير اسم المسرحية، عندما أعلن عن مسرحيته الثالثة «الحظوظ» أواخر مارس 1927 في مجلة «النيل المصور»، وهذا نص الإعلان: “مسرح الريحاني بشارع عماد الدين أمام الكوزموجراف، تليفون نمرة 5074 إدارة أصلان عفيف، ابتداء من 7 إبريل والأيام التالية الرواية الجديدة الاستعراضية الثالثة «الحظوظ»، فرانكو آراب ذات 3 فصول تأليف بديع أفندي خيري ونجيب أفندي الريحاني، مناظر فخيمة صنع لومباردي الرسام، ملابس من محلات كلاري من باريس، 25 راقصة على رأسهم المدموازيل روكنج ملكة الراقصات، 40 ممثل وممثلة فرانكو آراب: بهجة، رقص، مناظر فخيمة، ضحك متواصل، حب على آخر مودة. يمثل دور كشكش بك نجيب الريحاني. كل يوم ثلاثاء حفلة نهاية الساعة 6 ونصف للسيدات فقط، وكل يوم خميس وسبت وأحد حفلة نهارية للعائلات”. ونص هذا الإعلان هو نفسه نص إعلان المسرحيتين السابقتين «ليلة جنان، ومملكة الحب»!! مما يعني أن مسرحية «الحظوظ» كانت الثالثة لنوع الفرانكو آراب، وهو النوع التمثيلي الذي قدمه الريحاني بصورة متتابعة!
وكتب «محرم كمال» ناقد مجلة «الحسان» مقالة بعنوان «الحظوظ على مسرح الريحاني»، أشار فيها إلى أن الريحاني بدأ موسمه في نهاية موسم أغلب الفرق الأخرى، وهو أسلوب ذكي من الريحاني حيث يتأخر ويقدم مسرحياته في نهاية الموسم ليجذب الجمهور، وأن مسرحية «الحظوظ» من الفرانكو آراب .. إلخ. ثم بدأ يسدي النصائح للريحاني فيما يتعلق بالألحان، قائلاً: “ولفائدة هذا المسرح أنصح بأن يهتم بالألحان وكثرة إيجادها في هذه الروايات، فالريفيو لا يمنع مطلقاً التلحين بل أن التلحين على العكس من ذلك يفيد ويضيف إلى الرواية رونقاً جديداً هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن يعمل على قدر الإمكان التقليل من تلك المونولوجات الطويلة التي تُلقى بالفرنسية، ولنتذكر دائماً أن المسرح مصري وأن جُلّ الحاضرين مصريون إن لم يكن كلهم، وأن من يحضر من غير المصريين يفهم العربية جيداً كالسوريين مثلاً، وأن خير طريقة هي استبدال هذه المنولوجات والقطع والأشعار الفرنسية بنوع من الفرانكو آراب الذي يعرفه الريحاني جيداً لأنه هو الذي أوجده، وهو الذي لاقى به نجاحه الأول أيام أن كان يعمل في الإجيبسيانة في الأعوام التالية لسنة 1918، برواياته: حمار وحلاوة، ورن، وإش، وغير ذلك .. وفي شيء من الوضوح هو خليط من الفرنسية والعربية في المونولوج الواحد وفي الحوار الواحد، فهذا أدعى إلى الفكاهة والتسلية لمن يعرف الفرنسية. ثم شيء أخير أهمس به في أذن صاحب هذا المسرح، وهو أن يهتم جداً بالحبكة المسرحية في تأليف الروايات التي يمثلها بحيث لا تكون أجزاؤها متنافرة أو متفككة”.
بعد هذه المقدمة بدأ الكاتب كلامه عن مسرحية «الحظوظ» قائلاً: الرواية من نوع الريفيو، مقسمة إلى ثلاثة فصول ولعل القراء وسيداتي القارئات يذكرون ما كتبته في الأعداد الماضية عن هذا النوع، فقد قلت إن الريفيو لفظة أفرنجية يمكن أن يترجمها إلى العربية بالاستعراض، لأن قصص هذا النوع ما هي إلا استعراض لرقصات ومناظر ومواقف مختلفة، تعتمد على قوة الاستعراض وجمال المناظر أكثر مما تعتمد على التمثيل، وبذلك فلا يمكن أن ينتظر مني القارئ في روايات هذا النوع أن أعطيته ملخصاً لها أو أن أوجز له موضوعها، فإن المرآة لا تستطيع أن تعطي صورة إذ لم يكن أمامها شبح أو خيال، فإذا عدم هذا الشيء الذي هو بمثابة الأصل، انعدمت الصورة على المرآة تبعاً له! ولعل نصف نجاح هذا المسرح يجب أن نرجعه إلى جمال المناظر، والنصف الآخر إلى رقص الراقصات الجميلات دون شك! وهذه حقيقة نعترف بها سواء كنا راضين عنها أو غير راضين، والواقع يجب أن يُذكر مهما كان موضوع هذا الواقع نفسه، ومهما كان مخالفاً للعرف والتقاليد والآداب والحشمة! فقد كان في الرواية ثلاثة مناظر. وقيل إن الذي رسمها هو المسيو لومباردي، وهي بحق مناظر جذابة، كان أروعها وأبهجها المنظر الثاني وهو تمثيل القبر المسحور. والمناظر لا يمكن أن تظهر على المسرح جميلة مرتبة، دون أن يضع «الميزانسين» يده في الموضوع فيرتبه وينسقه، وهذا أمر يجب ألا ننساه فللإخراج قوة تعادل قوة التأليف. والإخراج الحسن يأتي الرواية بالنجاح، فإلى محمد أفندي شكري مدير المسرح الفني نقدم تهانينا القلبية على نجاحه في إخراج استعراضاته بالأبهة الواجبة والروعة الأخاذة. أما «الرقص» فكان العامل الثاني أو الأخير في نجاح هذا المسرح وإقبال الجمهور عليه إلا أنه يميل إلى التبذل والاستهتار. فحركاته عابثة وملابسه تساعد على الفتنة، ولقد وجهنا نظر الفرقة إلى هذا في كل مرة كتبنا فيها عن هذا المسرح. أما «التمثيل» فيقوم على عدة أفراد معدودين في مقدمتهم نجيب أفندي الريحاني. والريحاني هو دائماً الرجل الكوميدي ذو الروح الجذابة الفكهة الذي يميل دائماً إلى اللهو والمرح، وربما يليه في العمل عبد اللطيف جمجوم الذي يلوح لي أن الفرقة تعتمد عليه إلى حد كبير.
ومما سبق نجد أن الريحاني عرض ثلاث مسرحيات من نوع الفرانكو آراب نالت نجاحاً ملحوظاً وإقبالاً جماهيرياً، رغم عدم وجود قصة أو موضوع أو مضمون أو مغزى!! إذن لماذا نجحت، ولماذا أقبل عليها الجمهور؟! هذا الأمر تناوله أحدهم، وكتب مقالة بتوقيع «هاتف»، نشرها في مجلة «الفنون» أواخر أبريل 1927 تحت عنوان «السر في نجاح الريحاني»، قال فيها:
في الوقت الذي كان حضرة نجيب أفندي الريحاني يعمل على النهضة بتمثيل «الدرام» ويأخذ بيد الفضيلة، كانت كل الصحف المسرحية تحاربه بكل أنواع الأسلحة، ولم يقف إلى جانبه ويشد أزره ويأخذ بيده غير صاحب مجلة الفنون، وكان كلما التقى بحضرته كان يشكره ذاكراً فضله عليه! وكان لا يقارننا بزملائنا ويتمنى لو أن كل من يعمل في الصحف يكون على مثالنا. نعم كانت «الفنون» تأخذ بيده الضعيفة خصوصاً إذا كان صاحب اليد جاداً في عمله لا يبتغي غير خدمة المصلحة العامة عن طريق الشرف والنبل! ولكن نجيب في عمله الجديد «كش كش بك» غير ذلك الرجل الذي كنا نعرفه عزيز النفس شريف الطبع لا يطمئن إلى غضاضة ويبرأ بنفسه عن أنماط الابتذال. لقد وصل «كش كش بك» في عمله الجديد إلى منتهى آماله من حيث المادة، فإن سوقه في رواج وكل الطبقات تقبل على مشاهدة رواياته، والسر في نجاحه انقياده إلى تلك المرأة المخاطرة القديرة «مارسيل» صاحبة كباريه «كازينو دي باري» الذي يجب ألا يطلق عليه إلا كلمة «ماخور»!! فإن هذا المكان يستطيع كل شخص أن يتصيد منه أية امرأة فيه! وقد تفلت هذه المرأة إلى مسرحه كل غانية وراقصة أنصارهن مباءة للابتذال والدعارة والفجور السائد في «كازينو دي باري». استعانت هذه الإبليسة بالرجل الضعيف نجيب الغلبان على أن تجعل مسرحه وسيلة لاستجلاب كل غانية أو عاهرة عجزت عن الإتيان بها من مختلف بلدان أوروبا لشدة رقابة القنصليات فيها والتدقيق في التصريح لهن بالدخول إلى البلاد المصرية. ولكن اليوم يدخلن إلى مصر على أنهن ممثلات يحترفن الفن في مسرح الريحاني، ويجالسن الرجال والشبان في «ماخورها» إذا ما انتهين من العمل فوق المسرح! والدليل أن «الكباريه» لا تؤمه الجحافل من الشبان إلا إذا انتهى مسرح الريحاني من خزعبلاته وتهتكاته. فمن شاء من رجال الحكومة من وزراء ووكلاء الوزارات ومدير إدارة الأمن العام وحكمدار العاصمة وضباط البوليس الذين يحافظون على الآداب العامة أن يروا كيف تذبح الفضيلة وتهاج الشهوات فليذهب إلى مسرح الريحاني!! فهنالك النسوة عاريات الساقين والصدور والظهور والنواهد وذوات الخصور الناحلة والأرداف الكبيرة، وبتلك البشرة البيضاء المشربة باللون الوردي بأشكال مزرية، لا يرضى بها كل من تجري في عروقه نقطة دم للفضيلة.
ويستمر الكاتب في حديثه ويضرب مثلاً بواقعة حقيقية حدثت مقارناً بينها وبين ما يحدث في مسرح الريحاني، قائلاً: لقد سمعنا أن رجال البوليس دخلوا في إحدى صالات الرقص وكتبوا محضراً ضد إحدى الراقصات لأنها ترقص رقصة لا تتفق والآداب مع أنها ترقص في دائرة الحشمة وبثياب تغطي كل جسمها من النحر إلى القدم، ولكن أين هذا من تلك المناظر المزرية التي يشاهد فيها الابتذال والفجور والعهارة في مسرح الريحاني! إنّا نلفت أنظار كل رجال حفظة الآداب من وزير الداخلية إلى أصغر رجل في البوليس إلى العمل على إيقاف هذه المخازي في تلك الثورة المفسدة للأخلاق المبهجة للشهوات. لقد تكلمنا مع كل كبير يهتم بالآداب العامة في وزارة الداخلية وطلبنا إليهم أن يحافظوا على الأخلاق والآداب العامة بإيقاف هذه المرأة التي تمزق الفضيلة استنزافاً للأموال، وقلنا لهم إنه يجب على الحكومة إلى جانب الروايات التي تراقبها إدارة المطبوعات [أي الرقابة المسرحية] أن تراقب التمثيل وما يحصل فيه من بواعث الإفساد. وكم كان سرورنا لما علمنا أن إدارة المطبوعات استدعت المدير الفني في هذا المسرح ونبهت عليه بأن يراعي الآداب والحشمة في التمثيل بل أنه أخذ عليه التعهد بذلك. إننا نسمع من وقت لآخر أن الحكومة تنفي النساء والرجال المشتغلين بتجارة الرقيق الأبيض.. ومن في مصر لا يعرف أن مارسيل صاحبة كازينو دي باري والمشرفة على مسرح الريحاني لا تعمل على نشر هذه التجارة الدنيئة بأساليب يهنئها الجن والسحرة لأنها تغيب عن أذهانهم وعقولهم. فخليق بالحكومة محافظة على الآداب العامة أن تخلع الشر من جذعه بنفي هذه المرأة رحمة بالفضيلة والشرف.
ومن الواضح أن سمعة مدام مارسيل السيئة، كانت تحمل شيئاً من الحقيقة، لدرجة أن مجلة «الستار» نشرت رسماً كاريكاتورياً يظهر فيه مدير المسرح «أصلان عفيف» واقفاً على باب كازينو دي باري منادياً على الجمهور قائلاً: “يالله يا جدع قبل ما نلعب.. تعالوا شوفوا مدام مارسيل لسة عايشة.. وملحة في عين اللي ما يصلي!!”.
لم يقدم الريحاني جديداً بعد ذلك، حيث جاء الصيف فسافر بفرقته إلى الإسكندرية وعرض مسرحياته الثلاث «ليلة جنان، ومملكة الحب، والحظوظ» في تياترو «البلفدير»، وكانت التذاكر تُباع في محل خالد أفندي محمد الصائغ بالصاغة الصغرى بالميدان، وفي محل منسي أفندي الساعاتي بشارع فرنسا.. هكذا كانت تنشر جريدة «الأهرام» إعلانات الفرقة. أما مسرح الريحاني في القاهرة فقد شغلته «فاطمة رشدي» بعد أن كوّنت فرقة مسرحية خاصة بها وبزوجها «عزيز عيد» بعد انفصالهما عن فرقة يوسف وهبي، وقد استغلت فاطمة اسم «مسرح الريحاني» في إعلاناتها المنشورة في الصحف، حتى يُخيل للقارئ أن الإعلان خاص بفرقة الريحاني فيزيد الإقبال الجماهيري! ومن أهم الإعلانات الخاصة بفرقة فاطمة رشدي ومذكور فيها اسم مسرح الريحاني، إعلانات مسرحيات: «غادة الكاميليا، الحب، كن الزيزفون، تيودورا، روكامبول».


سيد علي إسماعيل