العدد 822 صدر بتاريخ 29مايو2023
عقدت جمعية محبي الفنون الجميلة ندوة للاحتفاء بالكاتب الكبير الراحل محفوظ عبدالرحمن، أدارها الكاتب الصحفي محمد نوار، وتحدث فيها الفنانة القديرة سميرة عبدالعزيز، رفيقة دربه، ود. عمرو دوارة، ود. سميرة أبو طالب، وقدم الموسيقار علي إسماعيل مجموعة من الأغنيات، في حضور مجموعة من المهتمين.
مبدع على درجة عالية من الإنسانية
في كلمته رحب الكاتب الصحفي محمد نوار بالحضور، موضحا أن هذه الندوة ضمن برنامج الندوات الخاص بجمعية محبي الفنون الجميلة، حيث تعقد الجمعية ندوة أسبوعية عن أحد المبدعين الذين أثروا الحركة الفنية والمسرحية بأعمالهم الخالدة، كما رحب بالفنانة القديرة سميرة عبدالعزيز، واصفا لها بـ»أم العظماء»، ورحب بالمخرج والمؤرخ د. عمرو دوارة، وبالكاتبة د. سميرة أبو طالب، مشيرا إلى أنها قدمت أربعة كتب عن الكاتب.
بدأت الندوة بأغنية «اللي بنى مصر» عزف وغناء الموسيقار علي إسماعيل، ثم عادت الكلمة للكاتب الصحفي محمد نوار الذي أوضح خلالها أن من لم يتعرف أو يقترب من الكاتب محفوظ عبدالرحمن، فقد حُرم من شيء جميل في الحياة، لأنه دون مبالغة ملاك يسير على الأرض، ومبدع على درجة عالية من الإنسانية.
وتابع قائلا: أول لقاء جمعني به كان عام 97 في ندوة عن الدراما التاريخية، منذ هذا التاريخ أصبح الأستاذ والصديق والحبيب، وأصبحت أناديه «بالعم محفوظ» فهو يتمتع بتواضع كبير وإنسانية شديدة، وبمجرد اللقاء الأول به تصبح صديقه، وهو أمر غير مألوف عند الكثيرين.
سميرة عبدالعزيز: كان عاشقا لمصر وأعماله تخاطب العقول والوجدان
الفنانة القديرة سميرة عبدالعزيز قالت: بحكم عمل والده كضابط بوليس، فقد تنقل في كثير من المحافظات، وكان عشقه لمصر يفوق الخيال، وعندما كنا نسافر إلى العواصم الأوربية ومنها باريس، وأبدي إعجابي بها وبالنظام الذي تتميز به، كان دائما يقول إن مصر أجمل البلاد وأجمل من باريس، كان يرى أن مصر بها حياة وأن باريس وغيرها من عواصم أوروبية سكانها يسيرون كالآلات بلا روح، كان يرى الأشياء التي لا تعجبني جميلة، وكان دارسا لتاريخ مصر، مكتبته كانت تضم خمسة آلاف كتاب أهديتها إلى مكتبة الإسكندرية، وقد خصص مدير المكتبة جزءا بالمكتبة أطلق عليه «مكتبة محفوظ عبدالرحمن»، كان قارئا كبيرا وكان يدون ملاحظاته في ورقة صغيرة، وكان ذلك ليساعده في عمله. وعن الجزء الإنساني في حياة الكاتب قالت: كان عاطفيا جدا، عندما تزوجته كانت ابنتي تعيش معنا وكان يعاملها كأب وأقام لها عرسا جميلا في أحد الفنادق الكبيرة ليدخل على قلبها السعادة. ومن المواقف التي لا أنساها له أنه حقق لابنتي أملا رفض والدها نفسه أن يحققه لها، هو إنسان على درجة عالية جدا مثلما هو كاتب قدير وعلى درجة عالية من التميز، كما كان إيمانه شديدا بجانب عواطفه النبيلة.. وقد ترك فراغا كبيرا، ولكني ما زلت أحيا به، ودائما على صلة بأولاده. وذكرت عبدالعزيز شيئا عن فيلم «ناصر 56» قالت: كان الفنان أحمد ذكي متخوفا بشدة من تقديم شخصية الرئيس جمال عبدالناصر حيث يخشى عدم تصديق الناس الذي أقنعه هو محفوظ عبدالرحمن، وخاصة أن ملامحه مصرية خالصة تجعله أقرب شكلا من الرئيس الراحل، وكان الفنان أحمد ذكي يعيش في فترة تحضير الفيلم في منزلنا.
الكاتب الصحفي محمد نوار ذكر أنه في إحدى الندوات التي أقيمت في حب محفوظ عبدالرحمن، وضمت كل أصدقائه وزملائه ورفقاء دربه قبل اندلاع ثورة 25 يناير بأسبوعين، سأله أحد الحاضرين عن انتمائه للناصرية والتأميم، فجاءت إجابته عبقرية ووجه سؤالا للقائل وهو: هل مصر في هذا الوقت لم تكن تحتاج للتأميم والعدالة الاجتماعية؟ أضاف إن هذا الحلم كان وما زال يراود عموم الشعب المصري.
سميرة أبو طالب: يمكن حصر القضايا التي عالجها في ثلاثية «الأرض، واللغة، والتاريخ».
د. سميرة أبو طالب قالت إن محفوظ عبدالرحمن قدم لمصر أجمل ما لديه في الدراما التي كتبها، سواء على مستوى المسرح أو التلفزيون أو السينما وكذلك الإذاعة والقصص التي كتبها.
وتابعت: يحضرني عبارة كتبها الكاتب الكبير خيري شلبي عنه في مجلة الإذاعة التلفزيون، قال: إن أقاصيصه مثل الحقنة المركزة، لها قدرة اللدغ، ويستمر أثرها لوقت طويل. والمتأمل لهذه العبارة يجدها تعبر عن خصائص الكتابة لدى محفوظ عبدالرحمن، ولكن قبل عملية الكتابة أود أن أتوقف عند الكاتب واختياراته.. فمحفوظ عبدالرحمن ومنذ اللحظة الأولى جعل الكتابة هي القضية الأولى بالنسبة له، وهذا ما يستدعي المسئولية في كل ما يكتب.
وأضافت: حينما يود البعض الآن أن ينتقد ما يكتب عن الدراما التلفزيونية يستدعي ما قدمه محفوظ عبدالرحمن كي يكون ردا على كل هذا القبح الذي يقدم في الدراما التلفزيونية، التي تبتعد كثيرا عن روح المجتمع المصري التي هي موجودة في كل تفصيلة كتبها محفوظ عبدالرحمن، لذا فكل من يتابع دراما محفوظ عبدالرحمن يجد نفسه فيها.
قالت: لقد أعطى للتاريخ روحا تنبض، وقدم المضيء منه كي يكافح القبح الذي يمتلئ به الشارع، فقد «قاوم القبح بالجمال».. كان يرى الجمال في كل تفاصيل مصر، وعبّر عن هذا الجمال في كل الدراما التي قدمها، على مستوى الدراما التلفزيونية، والسينمائية كذلك.. فما صاغه في فيلم «ناصر 56» لم يكن حياة الزعيم إجمالا، ولكنه اختار منها اللحظة الأكثر تعبيرا عن روح هذا الشعب، عن الإصرار والعزيمة لتغير الواقع المضمحل. أضافت: استوقفني أيضا ما كتبه خيري شلبي «إن أبرز نقش في ملامح محفوظ عبدالرحمن هو الإرادة والتصميم والإصرار»، فهو إصرار فلاح يعي قدرته على التغيير والإسهام بقوة في قضايا مجتمعه، وأما عن القضايا التي ركز عليها في جملة الأعمال الدرامية التي قدمها، فيمكن حصرها في ثلاثية «الأرض، واللغة، والتاريخ».
واختتمت حديثها بالقول إنه كان يضع قدمه في التاريخ والتراث العربي، ولكنه يخاطب اللحظة الحاضرة استشرافا لمستقبل آتٍ، ويقول عن عملية الكتابة إن كل كاتب لديه حلم وما لم يستطع الكاتب أن يعطي الأمل والحلم للمتلقي، فلن يكون كاتبا على الإطلاق، وإن الكاتب الذي يفقد ضميره يفقد صفته ككاتب أمام نفسه وأمام الآخرين، وقد كان قدوة في كل شيء على المستوى الإنساني، لذلك فعند قراءة إبداعه لن نجد الفصل الحاد بين شخصيته وما كتبه، فإبداعه يشف عما يميز شخصيته ككاتب أثر كثيرا في وجدان المصريين.
عمرو دوارة: قدمت عرضين عن نصوصه أعتز بهما في مسيرتي الإخراجية
ووصف الناقد والمؤرخ د. عمرو دوارة الكاتب محفوظ عبدالرحمن بأنه قيمة إنسانية وأدبية وفنية عالية جدا، وقال: ينتابني حزن شديد عندما أجد بعض الكتاب في اتحاد الكتاب يخصصون جوائز بأسمائهم الشخصية، ولا توجد جائزة باسم الكاتب محفوظ عبدالرحمن، وهو أمر ضروري لتتعرف عليه الأجيال القادمة، وأنت عندما تتحدث مع رجل الشارع العادي، فإنه لا بُدّ يذكر «بوابة الحلواني» و»أم كلثوم»، وهي أعمال رائعة، ومع ذلك ليسا من أجمل أعماله، فهناك على سبيل المثال مسلسلاته مع المخرج الأردني عباس الأرنؤوطي والفنان عبدالله غيث منها «ليلة سقوط غرناطة».
وهو درس كبير في كيفية كتابة السيناريو والإخراج، وكذلك هناك «كتابة فوق لحم يحترق» و»السندباد» و»سليمان الحلبي» وغيرها، وجميعها أعمال درامية مهمة عُرضت كثيرا في التلفزيون العربي، ولكنا كمسرحيين لا نعلم عنها شيئا، ولا يوجد إعلام عنها، لذلك أرى أن الأستاذ محفوظ ظُلم كثيرا.. أضاف كان -رحمه الله- دمس الخلق، متواضع للغاية، وإنسان على مستوى عالٍ من الرقي. كسر الحاجز الذي بيني وبينه، كان صديق والدي فؤاد دوارة، ثم تحول من عمي محفوظ عبدالرحمن إلى صديقي الشخصي، وقد أخرجت له وكتبت عنه وهو شرف كبير لي.
تابع: كان عشقه لمصر كبيرا، فالمكان لديه لم يكن الأساس، ولكنه الإنسان، فقد تعرف على الإنسان المصري بصورة كبيرة. وقد تابعت أحد الأحاديث التلفزيونية للمذيعة نهلة عبدالعزيز، وكان في ضيافتها الفنان عبدالله غيث الذي أصر أن يكون الضيف الذي معه هو الأستاذ محفوظ عبدالرحمن، وخلال اللقاء أوضح بذكاء شديد أن محفوظ لا يكتب تاريخا ولكنه يكتب لحظات آنية، فهو ليس حنجوريا يكتب شعارات إنما يقدم وعيا حقيقيا باختيار لحظة حاسمة «الآن» في القضايا الآنية، ويبحث عن ما يوازيها في التاريخ، فيأخذ التاريخ عباءة لكي يستطيع الخروج من الأزمات الخاصة بالرقابة وغيرها؛ حتى تحيا بشكل أكبر.
وتابع قائلا: أعتز كثيرا في مسيرتي الإخراجية بعرضين من تأليف المبدع محفوظ عبدالرحمن، العرض الأول قدمته مع الهواة فرقة «مجانين مسرح»، وكان معي آنذاك الفنان هشام جمعة وأحمد مختار وناصر سيف ومجموعة كبيرة من الفنانين وممدوح عبدالعليم، وقدمنا عرض «عريس لبنت السلطان» عام 1978م، ففي عام 1977 كنت طالبا في هندسة القاهرة، وكان معروفا اهتمام هندسة القاهرة بالسياسة في هذا التوقيت، ووجدنا كلمته تقلب الموازين، حيث كتب أول نص عن المبادرة ورفض التطبيع؛ وبالتالي عندما أخرجته في فرقة «مجانين مسرح» كنت أقصد أن نُعبّر عن رفضنا كطلاب في الجامعة للتطبيع. أما النص الثاني الذي قدمته فقد كانت الفنانة القديرة سميرة عبدالعزيز بطلته، وتشرفت بهذا التعاون وكان لها فضل كبير عليّ، ففي إحدى المهرجانات العربية دار حوار معها عن استغراق الكاتب محفوظ عبدالرحمن في تقديم أعمال تلفزيونية على الرغم من أنه كاتب مسرح متميز أو كما أسميته «فارس في المسرح»، فقالت إن هناك نصوصا له لم تقدم بالمسرح، وبالفعل أعطتني نصا بعنوان «السلطان يلهو»، وقررت إخراجه على الفور بعد عودتي لمصر، وبالفعل كان نصا متميزا، وطلبت منها أن تكون بطلة العرض، وكان من العروض المهمة التي أخرجتها، وكان يشارك به نخبة متميزة من الفنانين منهم الفنان أحمد راتب ومحمود مرسي وسامي مغاوري وعهدي صادق وانتصار، وحقق نجاحا كبيرا وكان نصا يتميز بالجرأة.
واستطرد قائلا: سبب تميزه أو عبقريته في المسرح أنه يدرك اللحظة الراهنة، وكذلك اتصاله بالشارع المصري على الرغم من إقامته في الكويت والسعودية لسنوات، ولكنه لم ينفصل عن الشارع المصري وقضاياه.. الشيء الثاني أنه دارس التاريخ، ثم اقترابه من سعد الدين وهبه وعمله معه في مجلة «البوليس» وهو ما أتاح له دراسة شخصية الإنسان المصري الذي يدخل أقسام الشرطة، التي تضم نماذج كثيرة ومختلفة، كذلك حساسيته الشديدة، وخامسا الصياغة الأدبية وكان دائما يقول إن من أفضل النصوص التي قدمت له على خشبة المسرح النصوص التي قدمتها أنا له لسبب بسيط؛ هو أني رفضت الموضة السائدة بجلب ستة أو ثمانية راقصين وإدخال الأغاني، ولا يمكن تقديم ذلك في أعمال محفوظ عبدالرحمن، فكل جملة في نصوصه من المستحيل حذفها. أتذكر موقفا: عندما رشحت أحد الممثلين ليلعب شخصية في أحد نصوصه، وهو كوميديان، رفضه الكاتب محفوظ عبدالرحمن بسبب خروجه الكثير عن النص، وتدخلت أنا وتفاهمت مع هذا الممثل، وأضحت له الأمر، وبالفعل التزم بكل ما هو مكتوب. كما أن كتابته محكمة، فكل جملة تُعبّر عن حكمة، وأتذكر في «عريس لبنت السلطان» كلمته: «عمر الإنسان لا يقاس بالسنوات ولكن يقاس بعدد المرات التي اختار فيها بين الخطأ والصواب، بين ما يجب وما لا يجب».
وأضاف دوارة: من النصوص المفضلة لي نص «حفلة على خازوق» لأنه أول نص يكتب كمسرحية طويلة قدمها صقر الرشود، وهو مخرج كويتي ونجح العرض ونبهنا أن هناك مؤلفا مهما.
استدرك دوارة: كذلك ظُلم الكاتب لأنه بدأ في الستينيات بالقصة القصيرة، وهي من مزايا كتابته، لأنها تحمل لغة التكثيف الدرامي؛ لذلك نجد له مسرحيات قصيرة مثل «محاكمة السيد ميم» و»احذروا» وغيرها، ومما يؤكد لنا مقولة «السيرة أطول من العمر» أن هناك كتابا كبارا ظلوا لفترات طويلة، واليوم لا يُقدم لهم شيء، ولكن الأمر يختلف مع محفوظ عبدالرحمن، فلا تزال عروضه تُقدم في الجامعة والثقافة الجماهيرية وقصور الثقافة ودول عربية. وكان آخر عرض قُدم له هو عرض «بلقيس»، ولكنه تعرض لمشكلات إنتاجية، وقُدمت مسرحية «عريس لبنت السلطان» ثلاث مرات في المسرح الاحترافي، و»حفلة على الخازوق» قُدمت مرات عديدة في مصر والدول العربية، وكذلك العديد من الأعمال، ونحن نحتاج الوقوف أمام نصوصه كثيرا، ونحتاج إلى دراسات عنها، وأتمنى أن تلقى كتاباته اهتماما من أساتذة الأكاديمية، خاصة أنها كتابات خالدة، وأعماله في التلفزيون والسينما لها بصمات.. فقد كان مؤمنا بأنه منح موهبة لا بُدّ أن يوظفها لصالح بلده ووطنه.