حدود التجريب في المسرح المصري

حدود التجريب في المسرح المصري

العدد 819 صدر بتاريخ 8مايو2023

التجريب قفزة نوعية في عالم الحداثة وما بعد الحداثة لإنتاج أنماط مغايرة من الفن في ظل التطورات التقنية التي تشهد ما بين لحظة وأخرى طفرات هائلة. وبالتأكيد، فإن فترة السبعينيات من القرن الماضي قد شهدت ظهور جيل مغاير في المسرح المصري، حاول خلق حالة مسرحية تختلف عما قدمه جيل الستينيات -وهو الجيل الذي قدم نموذجا فريدا في تاريخ المسرح المصري والعربي على السواء.
حيث برز ما يمكن أن نسميه بـ”مسرح المخرجين”، حيث برزت أسماء مهمة في الإخراج المسرحي درست الإخراج دراسة أكاديمية عميقة في أوروبا أمثال سعد أردش وكرم مطاوع ونبيل الألفي وسمير العصفوري والسيد راضي وأحمد زكي وحمدي غيث وغيرهم، وهم الجيل الثاني بعد الرواد الأوائل جورج أبيض ويوسف وهبي وعبدالرحيم الزرقاني، وكان المخرج في مسرح الستينيات هو المحرك الرئيسي للعرض، رغم وجود مؤلفين هم أبرز من قدمتهم الحياة الثقافية في هذا المجال حتى وقتنا هذا أمثال محمود دياب وألفريد فرج وسعد الدين وهبة وصلاح عبدالصبور، ونعمان عاشور وميخائيل رومان ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي.
وقد تميز هذا المسرح بتنوع روافده وتعددت أشكاله ما بين المسرح الواقعي والمسرح الشعري، والمسرح العالمي الذي كان يعرض أهم النصوص الكلاسيكية من المسرح الأوروبي، بالإضافة إلى إنشاء مسرح الجيب على يد الفنان الراحل سعد أردش الذي قام بتقديم “مسرح العبث” الذي كان شائعا في أوروبا في ذلك الوقت من خلال أعمال “يوجين يونسكو” و”دورنمات”، بالإضافة إلى كلاسيكيات “إبسن” و”شكسبير” وغيرهم، ومع ذلك كان مخرجو ذلك الجيل يدركون –تماما- أهمية النص المعروض، ويقدرون دور المؤلف في العملية المسرحية باعتباره الخطوة الأول لنجاح أي عمل مسرحي، وهذا ما أكد عليه المخرج الراحل نبيل الألفي في مقال له تحت عنوان “ذكريات إخراج إلى أصحاب الكهف” حيث يقول: “إننا نعتبر المسرحية كنص أدبي مكتوب بمثابة الجوهر أو المحور الذي ترتكز عليه حياة العرض المسرحي بأسرها، وإننا نتوجه إلى كل الذين يتطلعون بعين الأمل إلى مستقبل المسرح المصري فنناشدهم أن يبحثوا معنا عن المؤلف المصري، ويعملوا على تحقيق وجوده في عالم الحياة المسرحية”.
وأعتقد أن مرحلة “السبعينيات” في المسرح المصري قد تميزت بعنصرين مهمين: أولهما، البحث في الموروث الشعبي لتقديم فرجة مسرحية شعبية، تستفيد من الجذور العربية لفن المسرح، بإحياء فنون كادت أن تندثر مع التطور الحضاري مثل خيال الظل والأراجوز والعرائس القفازية، التي شكلت في مراحل انتشارها ما أسماه د. علي الراعي بـ”مسرح الشعب”، وهذا المنحى الذي اتجه إليه كتاب المسرح في هذا الجيل أمثال محمد أبو العلا السلاموني ويسري الجندي يعد امتدادا لدعوة د. يوسف إدريس في مقدمة مسرحيته “الفرافير” التي أسماها “نحو مسرح عربي”، والتي أكد فيها على ضرورة العودة إلى “مسرح السامر” بما يحمله من معنى “جماعية الأداء”، وهو ما أسماه بـ”حالة التمسرح” التي تقوم -على حد تعبيره- على “التجمع، فتلك الأشكال المسرحية كثيرة الحدوث في حياتنا اليومية في الأفراح، والمآتم والمناسبات، في الاحتفالات الكثيرة التي ابتكرها الجنس البشري كحجة “أحيانا مضحكة” للتجمع، مثل التجمع للاحتفال بطهور أحد الأولاد، أو الاحتفال بنزول النقطة أو أعياد الحصاد والمناسبات الدينية. أكثر هذه السهرات اليومية كانت تتم في البيوت بعد انتهاء اليوم والعمل، التجمعات التلقائية في الأسواق وبعد انتهاء البيع والشراء، بل إن الشعوب ابتكرت أماكن ثابتة لتجمعات مستمرة يذهب إليها الفرد استجابة لغريزته الجماعية مثل القهاوي والحانات والنوادي.
هذه كلها لحظات مسرحية، وأشكال مسرحية كان لا بُدّ بمرور الأزمان أن تتطور ويصبح لكل شكل منها تقاليد وتراث.
وقد رأى “يوسف إدريس” أن الريف لا يزال به السامر كمسرح شعبي، بالإضافة إلى وجود خيال الظل والأراجوز، وكلها أشكال مسرحية قابلة للتطور، ويمكنها -لو قدمت بتقنيات متقدمة- أن تمثل نقلة جديدة تحمل خصوصية للعرض المسرحي المصري والعربي. وربما هذا ما جعل أحد كتاب هذا الجيل وهو “محمد أبو العلا السلاموني” يقول في إحدى شهاداته عن تجربته: “إن المسرح يقتضي تهيئة الأذهان للمتعة الجماعية والمشاركة الوجدانية التي لا تنشأ فجأة، إلا إذا كان لها جذورها الفنية المتأصلة داخل المجتمعات، وهذه المتعة الجماعية تنشأ عادة من ممارسة الجماعة للعبادة في دور العبادة التي تهتم بالمتعة الفنية، هكذا كانت المعابد الإغريقية والرومانية والكنائس الأوروبية التي تسمح بهذه المتعة الفنية المصاحبة للعبادة مثل ممارسة فنون الغناء والرقص الديني والموسيقى والتمثيل والتشكيل، ومن ثم انتقلت إلى ممارساتها خارج المعابد والكنائس ثم استقلت عن الظاهرة الدينية تماما”.
ونراه يؤكد على نفس الفكرة التي دعا إليها “يوسف إدريس” الخاصة بالفضاء المسرحي، فيقول: “إن المسرح يقتضي ملعبا أو ساحة أو مكانا مخصصا لتجمع الجماهير الواسعة لممارسة ومشاهدة اللعبة المسرحية، وهو ما توافر في المدرج الإغريقي والروماني وقاعات القصور لدى الملوك والأمراء والنبلاء إلى أن انتهى إلى شكل العلبة الإيطالية المعروفة، وهو أمر اقتضته الظروف السياسية والعسكرية على الملأ، بينما كان الأمر مستحيلا عندنا هنا في الشرق لأن تجمع الجماهير كان يعني الثورة والفتنة الكبرى والوثوب على السلطة”.
وحول تجربته يقول “السلاموني”: “لقد حاولت في معظم ما كتبت من مسرحيات أن أستمد أصول تجاربي الدرامية من أعماق المأثورات الشعبية المصرية واستلهام شكل اللعبة المسرحية من ظواهرنا المسرحية التي لم تتبلور في شكل مسرحي كامل، وكان لدي الأمل في أن أصل إلى هذه الحلقة المفقودة أو الطفرة الطبيعية التي تحول ظواهرنا المسرحية البدائية إلى حقيقة مسرحية أو ابتكار جديد في القالب المسرحي والبنية المسرحية خصوصا في النص المسرحي.
وفي اعتقادي أن الشعور بالحرية هو الذي دفعني للتحرر أثناء الكتابة دون شعور بالتعصب أو الانغلاق أو الوقوع في أسر الذات”.
ربما هذا ما جعله يقدم معظم نصوصه مستندا على أقنعة تاريخية مثل مسرحية “مولد يا بلد” و”رواية النديم عن هوجة الزعيم” و”الحريق” و”تغريبة مصرية - ست الحسن” و”رجل القلعة” وغيرها من الأعمال في إطار من المسرح الشعبي الذي جمع في طياته فنون الأداء الشعبية، مستخدما تقنية “المسرح داخل المسرح” -على حد تعبير د. رضا غالب- فاستخدم السامر الشعبي في “رواية النديم عن هوجة الزعيم”، وخيال الظل في عرض “مآذن المحروسة” بالإضافة إلى فن المحبظين وألعابهم التشخيصية ليقدم رؤية درامية لوقائع تاريخية، بالإضافة إلى استخدامه لتيمة الارتجال الشعبي في مسرحية “أبو نضارة” التي تتناول نشأة أول مسرح مصري وتصادمه مع السلطة في أول تجربة صراع وصدام حقيقيين في القرن التاسع عشر بين الفن والسلطة، وهذا ما حدث أيضا مع مسرحية “حلم ليلة حرب.
وقد يكون لجوء هذا الجيل إلى غربلة الموروث الشعبي بحثا عن هوية مسرحية، أحد تداعيات هزيمة يونيو 1967 التي أحدثت شرخا عميقا في الوعي الشعبي، وكان هذا الشرخ أعمق عند النخبة المثقفة، وهذا ما لمسه المخرج عبدالرحمن الشافعي في شهادة له حول تجربته المسرحية حيث يقول: “لقد تراكمت لدي مفردات وأساليب وأماكن وأحاسيس وأفكار وخبرات في الممارسة المسرحية، تناسلت وتوالدت عبر كل مسرحية وأخرى، لا تتكرر ولا تتشابه، وكل مسرحية تشكل بالنسبة إليّ خبرة خاصة في طريق طويل لم أنجزه بعد، إنني أصبو إلى البحث في شخصيات السير الشعبية عن موضوع أتخذه عن قصد ركيزة لبنية جديدة في المسرح المصري”.
ويضيف في موضع آخر قائلا: “إن الشعوب عادة ما تفتش في جعبتها وذكرياتها وتبتعث ميراثها عن البطولات التي حققتها في الأزمنة الصعبة، سواء كانت جماعية أو فردية -نلاحظ ذلك في ازدهار السير الهلالية بعد انكسار الثورة العرابية- استلهامات التاريخ أعقاب نكسة 1967 لكبار كتابنا (الشرقاوي، ألفريد فرج، علي سالم.. إلخ)، واختياري لعرض أدهم الشرقاوي في تلك الفترة هو تأكيد لهذا الطرح، ففي وقت الأزمات يكون اللجوء إلى التراث، وخصوصا إلى المأثور الحي الذي يصبح أحد عوامل استنفار الحس القومي”.
وفي هذا الإطار شكل الشافعي مع الكاتب يسري الجندي ثنائيا مسرحيا قدما من خلاله مجموعة من العروض التي لاقت نجاحا جماهيريا قدمت في أماكن مختلفة (في وكالة الغوري، وعلى خشبة مسرح السامر، وفي مسرح الثقافة الجماهيرية) ومنها مسرحية “علي الزيبق” التي استمر عرضها عاما كاملا وظلت تعرض بمسرح السامر حتى انفجار معركة أكتوبر 1973، ثم تلاها “سيرة بني هلال” و”عاشق المداحين” وغيرها من الأعمال التي امتزج فيها التمثيل بفنون الغناء الشعبي والعزف الحي على الدفوف بدون زخرفة شكلية، وكانت مثل هذه العروض البداية الحقيقية لإنشاء مسرح السامر الذي افتتح عام 1971.
لقد كان دخول عناصر “الفرجة الشعبية” مغامرة تحسب لهذا الجيل، فلم تدخل فقط في الشكل الخارجي للعرض، بل دخلت في عمق النص المكتوب الذي لم يقدم التراث بشكل حرفي، بل استفاد من تقنياته مضيفا إليها الرؤية الواقعية متشعبة الدلالة سياسيا واجتماعيا وثقافيا، ومن هنا تحقق التمرد، وتحقق عنصر المواجهة، وربما ذلك ما قصده المخرج هناء عبدالفتاح حين قال في شهادة له: “الأزمة الحقيقة لجيلنا أنه واجه قدره المحتوم، وهو (الموت) منذ أن بدأ، فهو من ناحية وقف ضده بالمرصاد مسرح يعتمد على الكلمة فقط، حيث توظف مفردات العرض المسرحية لخدمته، مفغلا كل الإنجازات الأخرى في ميدان التشكيل للرؤية البصرية لفضاء خشبة المسرح، ولإنجازات ميدان سينوغرافية العرض المسرحي (التشكيل لجسد الإنسان، واللإيماء)، وأسلوب الأداء الصوتي الجديد الذي لا يعتمد على الصياح أو الصراخ أو الإعلان، وإنما يصل من خلال الهمس والخفوت، واحترام لحظات الصمت التي تنطق، فالمسرح الذي غدا ظاهرة شائعة هو مسرح (ثرثار)، يستعيد أطر مسرح العلبة الإيطالية، أو المسرح التقليدي في الشكل والمحتوى وما يقوله د. هناء عبدالفتاح فيه محاولة لإنصاف تجارب قدمها بعض أبناء هذا الجيل جاءت مخالفة للسائد، ومتنوعة في الآن نفسه مثل مسرح حسن عبدالحميد المعتمد على التقنيات اللغوية الجديدة، وتجارب عبدالعزيز مخيون في التعامل مع المسرح بوصفه وظيفة اجتماعية وفنية، وتجارب نور الشريف في صنع حالة مسرحية تنتمي إلى ما يمكن أن يسمى بمسرح المواجهة عبر لغة دامية كثيفة وكاشفة، أيضا يتجلي ذلك في مسرحياته “محاكمة الكاهن” و”يا غولة عينك حمرا” وغيرها، وكذلك تجربة المخرج سيد طليب في المسرح الاجتماعي/ السياسي، ومسرح مراد منير الفكري والسياسي، خاصة في تقديمه لمسرحيات سعد الله ونوس وأكثرها نجاحا “الملك هو الملك” التي قام ببطولتها صلاح السعدني مع محمد منير، والتي حققت نجاحا ملحوظا مما جعلها تعرض لأكثر من مرة، بما فيها من خطاب مسرحي مكشوف وناقد للسلطة التي لا تكترث بأحد سوى مصلحتها الخاصة، حتى في التعامل مع من يشغلون كراسيها، فالوظائف التي يحتلها الأشخاص هي التي تعطي وجودهم معناه وتضفي عليهم الهيبة و”الهيلمان” و”السلطة”.


عيد عبد الحليم