محمود نسيم رحلة عطاء نادرة

محمود نسيم  رحلة عطاء نادرة

العدد 785 صدر بتاريخ 12سبتمبر2022

في هدوء شديد مثلما عودنا في حياته وفي أعماله، رحل عن عالمنا الشاعر والناقد والمسرحي الكبير الدكتور محمود نسيم، بعد صراع قصير مع المرض، وذلك بعد مسيرة أدبية طويلة ما بين الشعر والمسرح والعمل الأكاديمي أستاذا للأدب بأكاديمية الفنون المسرحية، كان من الأعضاء البارزين أصحاب النشاط المتنوع في لجنة المسرح، وكان كاتبًا متفرِّدًا، أدار عددًا من اللقاءات الثقافية بالمجلس الأعلى للثقافة  قبل وفاته. حصل الدكتور محمود نسيم على ليسانس الآداب جامعة عين شمس، عام 1980، وعلى الماجستير من أكاديمية الفنون، عمل مدرسًا بكلية التربية النوعية بطنطا والعباسية، وكان عضوًا بلجان تحكيم وقراءة نصوص إدارة المسرح بالهيئة العامة لقصور الثقافة، أسس الراحل مجلة «كتابات» مع الشاعرين رفعت سلام، وشعبان يوسف، كما أنه عضو مؤسس بجماعة «إضاءة 77». نشرت قصائده ومسرحياته في عدد من الصحف المصرية، وشارك في كثير من المهرجانات في مصر والدول العربية، كما ترجم عدد من قصائده إلى الإنجليزية. وله دواوين شعرية، منها: السماء وقوس البحر، صادر عام 1984، وعروس الرماد عام 1989، وكتابة الظل عام 1995، كما أن له مسرحية شعرية بعنوان «مرعى الغزلان». وحصل نسيم على الجائزة الأولى للمجلس الأعلى للثقافة بمصر عن مسرحيته الشعرية «مرعى الغزلان» 1986، كما حصل على جائزة سعاد الصباح عن ديوانه «عرس الرماد»، عام 1991. وربما تعد قصيدته «إن استطعت أغلق بابك»، التي نشرها عام 2019 بمثابة رثاءً لذاته قبل الرحيل، ويقول فيها:
« والعالمُ يخلو/ إلا من صورِ الأسرةِ حول طعامِ عشاءْ/ وصدى الذكرى، وبقايا أمكنةٍ/ ورفوفِ هدايا مُتْربةٍ/ ومشاعرَ ساكنةٍ/ وغُبارِ جسدىٍّ فوق فِراشِكَ/ نردٍ يتطايرُ فوق شواهدِ أضرحةٍ/ وشريطٍ فِضىٍّ يلتفُّ على التذكاراتِ المنسيةِ/ أولِ ماءٍ في سهرتِكَ النشوى/ وروائحَ حشراتٍ وامضةٍ/ وحديقةِ موتى/ ونوافذَ تتكشفُ عنها أجنحةُ سوداءْ/ فيما تسترجعُ أصواتَ المنزلِ ذاكرةٌ خرساءْ/ وتغادرُ أرضًا تتراءى عبر وميضِ خلاءْ.
محمود نسيم، غيبه الموت مساء الأربعاء 21 إبريل   2021 و يعد  واحدا من أبرز وأنبل الوجوه الشعرية التي شاركت في صياغة مفاهيم كبرى لحركة جيل السبعينات الشعرية، إلى جانب أسلوبه المتفرد في معالجة العديد من الموضوعات التي تناولها ، شارك في أغلب المهرجانات العربية والمحلية المتخصصة ،كما ترجمت بعض قصائده إلى اللغة الإنجليزية. شغل عددا من المناصب القيادية في الهيئة العامة لقصور الثقافة، ونال قدرا ظالما من الحرب المعلنة والمستترة من أحد كهنة وزارة الثقافة الكبار في عقد التسعينات، وبدايات الألفية الثالثة، ورغم ذلك استطاع أن يقفز على تلك الحواجز الشائكة، ليلتحق بأكاديمية الفنون، ليجد أن مؤامرات جديدة حيكت له هناك، ولكنه ينتصر بالقانون، ويمارس دور الأستاذ الفاعل الذى كان يحلم به منذ صباه، وآخر ما كان يشغله نسيم في أيامه الأخيرة، رئيسا لتحرير سلسلة (نصوص مسرحية)، التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

حياته
وِلِد محمود نسيم في 3 مارس 1955 في ميت محسن.. ميت غمر، والدته السيدة غصون الورد عبد الله ووالده السيد الجوهري خريج مدرسة المعلمين بطنطا الذي كان أستاذاً للغة العربية، ثم مديراً لعدد غير محدود من المدارس و كان عاشقاً لأمير الشعراء أحمد شوقي، فورث نسيم من والده ذات التأثر. نسيم هو الولد الأصغر والثامن وشبه الوحيد لوالديه الذين أنجباه على كِبَر، حيث كان شقيقه الأكبر محمد متزوجاً ويشغل رتبة عسكرية رفيعة المستوى في القوات المسلحة المصرية ما جعل علاقته بأهله غير منتظمة، لذلك كان الاهتمام بمحمود كبيراً ومفعماً بالحنان. درس محمود نسيم الإعدادية في مدرسة (حلمية الزيتون) والثانوية في مدرسة (ابن خلدون)، وكان يهوى القراءة ويطمح لأن يكون شاعراً خلافاً لأقرانه. كان يافعاً نشطاً في العمل التطوعي، فقد شارك في قوات الدفاع المدني إبان حرب اكتوبر 1973، وبعيد انتهاء الحرب، وفي عام 1974 تطوع في إعطاء دروس مجانية لتلاميذ المدارس في مقر الاتحاد الاشتراكي، انتمى الكاتب إلى صفوف حزب العمال الشيوعي المصري في بداياته، تعرف خلال مسيرته الثقافية إلى مجموعة من أنشط الكتاب والأدباء، فساهم معهم بتأسيس مجلة إضاءة 1977، التي نشرت له أول ديوان شعر «السماء وقوس البحر» عام 1983، ضمن كتاب شعري أصدرته تحت عنوان «كتاب إضاءة» عام 1984قال عنه المخرج المسرحي عزت زين- متذكرا حادث حريق بني سويف في 2005- «أنجز محمود نسيم الكثير لفرق الأقاليم ونوادي المسرح والمؤتمرات المسرحية وقت المحنة، وقت أن كان التصدي للمسئولية محفوفا بالمخاطر، وعلى المستوى الشخصي كان يتألم لفقدان زملاء وأصدقاء اعزاء سواء في الحريق أو بالاستبعاد واحتمالية الإدانة» كان رجلاً دؤوباً بلا تطلعات وظيفية، وكان له أفضال عديدة على الكثير من الشباب المبدعين سواء في الكتابة أو الاخراج، حيث كانوا يلجؤون له عند حدوث أزمات وكان بسهولة شديدة يقوم بحلها، وكان في فترة من الفترات أحد أعضاء لجان اختيار قيادات الهيئة العامة لقصور الثقافة. أصدر دواوينه الشعرية قبل أن يتجه بمعظم طاقته للمسرح وإلى أبحاثة الأكاديمية وإلى تعليم أجيال في أكاديمية الفنون.  توفي ر في 21 أبريل 2021 بعد أصابته بفيروس كرونا ودُفن في مسقط رأسه.

الجوائز
حصل نسيم على عدة جوائز هي : الجائزة الأولى عن مسرحيته الشعرية (مرعى الغزلان) 1986 من المجلس الأعلى للثقافة، جائزة سعاد الصباح عن ديوانه (عرس الرماد) 1991 ، جائزة أفضل سيناريو كبار الكتاب لعام 2016 عن سيناريو «رجل الحكايات» ضمن جوائز مؤسسة ساويرس الثقافية.

مهرجان المنصورة الأول 
أقام مهرجان المنصورة المسرحي الإقليمي في دورته الأولي التي تحمل اسم الراحل الدكتور محمود نسيم، ضمن فعالياته، مائدة مستديرة، عن الراحل الكبير ، في مقر ديوان عام محافظة الدقهلية حضرها نخبة من الشعراء والكُتاب والنقاد المسرحين هم ، شعبان يوسف، يسري حسان، محمد ناصف، د. رشا الفوال، رشا  عباده، د. يسري عبد الله، د. شبل بدران، سلوي بكر، حنان عزيز، د. ضاحي عاصي
في هذه الندوة تحدث  الكاتب شعبان يوسف عن ذكرياته مع الراحل محمود نسيم «صديق العمر والدرب،  حيث  التقوا  في الصف الأول الإعدادي بمدرسة حلمية الزيتون. وروى يوسف  كيف كانت حياة الطالب محمود نسيم، التلميذ الجاد الحريص علي اقتناء كل ما يلزم من كراريس واقلام رصاص ومبرأة وأستيكة و كانت تظهر عليه علامات النبوغ والنجابة، كان يرتدي الشورت ولا يشترك في صناعة أي ضوضاء أو شغب يصدر عن زملائه، كان حريصاً علي كل دقيقة ينصت فيها لما يصدر عن أي مدرس اثناء شرح الدروس و كان مهتماً بمدرس اللغة العربية، و المدهش اكثر أن والده كان مدرساً للغة العربية و يحتفظ بكمً هائل من الكتب القديمة الصفراء ذات الرائحة الذكية يحتفظ بها في سندرة المنزل، وبدأ الصبي الصغير برحلة التنقيب في تلك السندرة ليخرج منها وسائل المعرفة المتعددة، لتشكل اثرا داخله.  
أضاف:  كان تلميذا هادئاً ملتزما ومنضبطا في المواعيد وفي انصاته وانتباهه اللافت لكل ما يقال من المدرسين، ما جعله صاحب رأي فريد، وظهرت عليه علامات التمرد والعناد والإصرار مع  قراءته لجريدة الاهرام في عمر مبكر خاصة مقال « بصراحة « لمحمد حسنين هيكل، الذي يتجاوز صفحتين في بعض الاحيان، ومن المدهش أنه بعد قراءته لمقال يتعدى عشر الاف كلمة تأتى محاولات الطالب محمود نسيم في التفسير والتأويل الغريبة والجديدة، وتفسر بعقل مازال صاحبه صبياً، ويطرح افكارا اكبر من عمره،  لم يفت هذ الصبي أن يتغنى بلغة هيكل السوية والسلسة والمنضبطة والمعبرة، كان منبهراً بأسلوبه اولاً وبأفكاره المنثورة ثانياً، ثم تأويلاته وتحليلاته الغامضة، فصعد معها حتى فتح بابا كبيراً يحتوى علي الأسئلة والمحاورات و المناقشات والقراءة والبحث المبكر رغم صغر سنه، ويذهب من مكان إلى اخر ليبحث عن الكتب، فتعرف علي سور الأزبكية وفي مرحلة الثانوية كان قارئاً للكتب بشكل مفرط وكل ما يقرأه كان يعيد مناقشته مع كل من اقترب منه، فهو عاشق للمعرفة، وصاحب عقلية منهجية دؤوبة باحثة لا تمل من البحث والتنقيب لتحقيق الذات في أبهى صور السمو.
 


صلاح الحوتى