التغريبة بنت الزناتى أول خطـــوة إلي العـــالميـــــة

التغريبة بنت الزناتى أول خطـــوة إلي العـــالميـــــة

العدد 747 صدر بتاريخ 20ديسمبر2021

“الاستغراق فى المحلية هو السبيل الوحيد إلي العالمية»، وعندنا من التراث ما يؤهلنا للوصول إلي ذلك الهدف على مستوى المسرح المصرى والعربى، لو عزمت الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة على وضع خطة لذلك، بأن تعمل على تشجيع المخرجين الشباب والكبار على اختيار نصوص من التراث وإخراجها برؤى مختلفة من خلال وضع ميزانيات مفتوحة لهم من اجل إتاحة الفرصة لتلك التجارب على أن تظهر بأعلى مستوى مشرف لنا بالداخل والخارج يعبر عن هويتنا وثقافتنا العربية الأصيلة، وعلى مستوى السينما هناك قليل من التجارب السينمائية العربية التى استطاعت الوصول إلي العالمية، ولكن لم يسبق من قبل للمسرح العربى عامة والمصرى خاصة أن كانت هناك تجارب مسرحية أخذت شكل العالمية أو كانت جديرة بالمنافسة باستثناء عرض «أحمس» وهو عرض مسرحى راقص ينتمى لمدرسة الرقص المسرحى الحديث وليست مسرحية درامية ومخرجه محمود مصطفى مصمم رقصات بالفرقة وان كان لم يأخذ حقه بعد من الدعاية والاهتمام من الدولة من اجل تسويقه عالميا، ويحسب هنا للبيت الفنى للفنون الشعبية والاستعراضية تحت رئاسة د.عادل عبده على البدء فى هذه المبادرة من خلال إعطائه الفرصة والثقة فى الشباب من اجل الوصول لذاك الحلم المسرحى العربى بقبوله لمشروع المخرجة الشابة منار زين «التغريبة بنت الزناتى»، وهو عرض درامى من التراث عن «السيرة الهلالية» ولكن برؤية معاصرة قام بتأليفها وإعدادها «بكرى عبد الحميد»، وقام ببطولتها نخبة من الشباب الموهوبة الذين آمنوا بالتجربة وتعاهدوا مع المخرجة على نجاحها، فكانت نتيجة تلك الثقة التى منحها د.عادل عبده لفريق العمل وإيمانه التام بالتجربة بأن حصد العرض المسرحى أهم الجوائز فى المهرجان القومى للمسرح المصرى «الدورة الرابعة عشر – دورة الكاتب المسرحى المصرى» ألا وهى: أفضل عرض مسرحى، أفضل مخرجة صاعدة، أفضل ممثلة صاعدة، أفضل مؤلف، كما ترشح لجائزتى أفضل ممثل وأفضل موسيقى، ولن أخوض هنا فى تفاصيل حدوتة السيرة الهلالية التى سبقنى فيها العديد من النقاد اضافة إلي انها سيرة مشهورة ولا تخفى على احد، ولكنى سأتحدث هنا عن الرؤية المعاصرة التى أضافها المؤلف «بكرى عبد الحميد» بالتعاون مع المخرجة «منار زين» على هذه السيرة، والتى تمثلت فى المزج بين التراث والمعاصرة على مستوى كل عناصر العرض المسرحى بدءا من الملابس والمكياج والموسيقى سواء أن كانت موسيقى شعبية حية أو موسيقى تصويرية داخل العرض، وكذا لغة الجسد والآداء الحركى انتهاءا إلي النص المسرحى نفسه الذى لم يجعل من شخصية أبو زيد الهلالى شخصية رئيسية  كما كانت فى السيرة الهلالية بل جعلها الكاتب هنا شخصية ثانوية ولكنه موجود على لسان أبطال الرواية رغم كونه غائبا عن الأحداث، وركز الكاتب أكثر على أن تكون شخصية سعدة بنت الزناتى هى الشخصية الرئيسية التى تدور حولها الأحداث حتى يصبح النص هنا متفق مع ميول المخرجة واهتمامها الدائم بقضايا المرأة فى كل عروضها، كما ركز الكاتب أيضا على أبعاد وشخصيات أخرى فى الرواية من أجل تأكيد عنصر التغريب على كلا من أبو زيد الهلالى وسعدة بنت الزناتى .. فكلاهما يشعر بالغربة ولكن بشكل مختلف عن الآخر، ومن اجل أيضا أن يشعر المتلقى بتلك الغرابة بالأحداث من حوله ويتفاعل معها، كما يجسد النص المسرحى هنا ولكن برؤية معاصرة من خلال أحداث الفلاش باك الصراع بين دياب وسعدة التى سلمت مفاتيح تونس للهلالية من خلال حبها لمرعى ابنهم، ويقوم دياب هنا بمطاردتها لتقوم هى بدورها بالاستغاثة  بأبطال السيرة الهلالية، ومن هنا تدور أحداث العرض المسرحى فى حالة درامية يشعر معها المتلقى وكأنه أمام حالة سينمائية وليست حالة مسرحية، وذلك بسبب تفاعله مع الممثلين ومعايشته للأحداث بداخل العرض بشكل غير مباشر، باعتباره شاهدا على تلك الأحداث وذلك حدث برغبة ورؤية كلا من المخرجة مع مصمم الديكور والإضاءة عمرو الأشرف بأن يكون جمهور المتلقى هنا جزءا من بنية العرض من خلال قاعة صلاح جاهين التى تم استغلال صغر حجمها بشكل عبقرى لصالح العرض بواسطة كل من المخرجة برؤيتها الإخراجية مع مصمم الديكور برؤيته السينوغرافية بالرغم من ثراء تلك السيرة الهلالية.
بالعديد من الأماكن والأزمنة، وذلك من خلال جعل القاعة بالكامل وبكل أركانها الأربعة مسرحا لأحداث تلك السيرة وبثلاثة أزمنة مختلفة، على أن يكون الجمهور هنا جزءا من الحدث بتوسطه القاعة فى اتصال مباشر مع أبطال العرض المسرحى من خلال جلوسهم على مقاعد على قرص دوار يدور بهم فى اتجاه عكس عقارب الساعة ليشاهد أحداث الماضى ثم يدور مرة أخرى مع عقارب الساعة ليعود مرة أخرى إلي أحداث الحاضر فى فكرة عبقرية أتاحت لجمهور المتلقى هنا أن يتابع أحداث العرض المسرحى فى أربعة أركان مختلفة وفى ثلاثة أزمنة، ويتفاعل مع الأحداث وكأنه أمام بانوراما سينمائية وليست مسرحا .
يبدأ العرض المسرحى بافتتاحية تبدأ من كافيتريا مسرح البالون وصولا إلي قاعة صلاح جاهين وهى مسافة ليست بالقصيرة من خلال فرقة آلات شعبية بالطبل والمزمار تتوسطهم مطربة من الجنوب تدعى «هبة سليمان»  أحسنت منار زين اختيارها وهى من قامت بدور العرافة فى العرض أيضا، وترتدى زى شعبي وتتغنى بالمووايل الهلالية بصوتها القوى الرنان الذى يناسب بالفعل ذاك النوع من أغاني الجنوب والتراث بشكل عام، ولكن يؤخذ فقط على تلك الافتتاحية هى طولها المبالغ فيه الذى يمتد إلي حوالى اكثر من 15 دقيقة، وكان من الأفضل أن تبدأ هذه الافتتاحية من أمام قاعة العرض مباشرة حيث تجمع جمهور المسرحية ذاتها على إلا تزيد طول تلك الافتتاحية عن دقائق معدودة، حيث أن تلك الافتتاحية  تعد جزءا من الحالة المسرحية للعرض ككل، وبالتالى لابد إلا تطول فترة انتظار الجمهور لبداية العرض بمجرد دخوله الصالة بعد نهاية الافتتاحية حتى لا يتسبب ذلك الانتظار فى كسر تلك الحالة المسرحية  لديه، وهذا ما لجأت إليه بالفعل المخرجة منار زين باستخدام فتاتين توأم تبدو عليهم هيئة العفاريت يرتدون ملابس سوداء ويكسو السواد وجوههم أيضا  «جنا وجولى محمد» يقومون باستقبال الجمهور الوافد إلي الصالة بمجرد نهاية الافتتاحية بالخارج ولكنه استقبال يشوبه الترقب والرهبة ويتبادلان النظرات لبعضهم البعض وللجمهور أيضا والالتفاف حولهم أثناء جلوسهم ولكن بآداء حركى يناسب شخصياتهم الخيالية مع موسيقى منخفضة ومصاحبة للموقف فى الخلفية، وذلك كله لجأت إليه المخرجة حتى تحافظ على تلك الحالة المسرحية التى دخل بها الجمهور للصالة حتى بداية العرض ولكنها جاءت فقرة طويلة أيضا كادت أن تتسبب فى انفصال الجمهور عن الحالة المسرحية  لولا أحداث العرض الساخنة  التى استطاعت أن تدخلهم مرة أخرى إلي الحالة سريعا، الديكور ينقسم إلي أربعة أماكن موزعين على زوايا القاعة الأربعة، كل مكان يعبر عن فترة زمنية معينة، فهناك مكان أشبه بالكهف تحيطه مصابيح الإنارة من كل جانب والغموض هو ظاهره  ودوما هذا المكان كان يرمز لمكان التقاء الحبيب بالحبيبة (سعدة ومرعى) ونفس المكان أيضا شهد واقعة محاولة اغتصاب دياب لسعدة وهو مكان يعطى أجواء السيرة الهلالية، إضافة إلي زاوية أخرى بها شجرة مسحورة أشبه بشجرة أفاعي بفروعها المخيفة، وهو مكان دوما يرمز إلي الشر وتخرج منه كل الشخصيات الشريرة بالرواية مثل شخصيتى دياب والأغبر، والزاويتين السابقتين يرمزان للحاضر دوما، وهناك ركن آخر يرمز إلي قصر السلطان سرحان ومن بعده السلطان حسن، والزاوية المقابلة له ترمز إلي البحيرة حيث قصة خضرة، والزاويتين السابقتين يرمزان إلي الماضى دوما، والجمهور يتوسط هذه الأركان الأربعة على قرص دوار، الإضاءة  لعمرو الأشرف كانت على قدر عالى من البراعة والإتقان فى التعبير عن الحدث، سواء أكان فى الحاضر أو فى الماضى، فاستخدام الألوان الخافتة جاء ليعبر عن الماضى بينما جاءت الألوان الساطعة لتعبر عن الحاضر، مع مراعاة عدم شعور المتلقى بانسحاب تلك الإضاءة أثناء دوران القرص بهم ما بين الماضى والحاضر والخفوت والسطوع . 
الممثلون كانوا جميعهم على قدر عالى من الحرفية فى الآداء التمثيلى والحركى، لم يصل إلي حد التقمص حيث أن نوعية تلك العروض التى تعتمد على لغة الجسد والآداء الحركى تحتاج إلي الوعى والتركيز دوما اكثر من التقمص والمعايشة التامة من اجل أن يحدث التوازن المثالى ما بين الآداء التمثيلى بجانب الآداء الحركى، كما وضح التدريب الشاق والجهد المبذول من قبل المخرجة مع الممثلون جميعهم لتصل إلي هذه النتيجة المتقنة من التوازن الآدائى والحركى وبالأخص مع كل من : عبد البارى سعد فى دور الأغبر، حازم القاضى فى دور دياب، لقاء الصيرفى فى دور سعدة، محي الدين يحي فى دور مرعى، واستعانت المخرجة بالكريوجراف مناضل عنتر فى عرضها المسرحى من اجل معاونتها فى فى تحقيق فكرها الإخراجي الذى تتبعه فى كل عروضها وتتفرد به عن كل جيلها فى التعبير بلغة الجسد والآداء الحركى، وهذا ما نجح فيه مناضل عنتر إلي حد بعيد بتشكيلاته الحركية المبهرة والمعبرة عن معانى ورسالة العرض سواء بالنسبة للممثلين أو الراقصين «شيماء، نور، جنى، جولى، جودى» الذين كانوا على أعلى مستوى من الاحترافية فى إتقان وتنفيذ تدريبات الكيروجراف الحركية وتدريبات المخرجة الآدائية، جاءت الملابس لشروق سامى معبرة تفصيليا عن التراث والسيرة الهلالية ووضح فيها عنصر الإبهار والمعاصرة ، كما توافق المكياج أيضا لوفاء داود مع الملابس والشخصية التى يلعبها كلا من الممثل والممثلة إلي حد بعيد وباحترافية عالية وضح فيها مدى إلمامها بالسيرة الهلالية وشخصياتها التراثية .
الألحان لهانى عبد الناصر مع توزيع مصطفى حافظ كانت عامل مساعد ومهم وفى منتهى القوة على إضفاء عنصرى الرهبة والترقب والتركيز لدى المتلقى مع عنصر المتعة أيضا إضافة إلي الأغاني بصوت هبة سليمان الرنان القوى المتوافق مع طبيعة الرواية والمتلون مع الأحداث والشخصيات المتنوعة بالعرض .
فى النهاية لا يسعنى إلا أن أقول إننا هنا أمام ملحمة مسرحية بمعنى الكلمة وليس عرضا بالشكل التقليدى المتعارف عليه،  أن عرض  «التغريبة بنت الزناتى» هو عرض تجريبى من الدرجة الأولى حيث يعتمد على عنصرى التجريب والتجديد فى المسرح على مستوى كل عناصره سواء فى الديكور أو الإضاءة أو الملابس أو المكياج أو الموسيقى أو الآداء الحركى والتمثيلى .. الخ، وما يؤكد وجهة نظرى هنا هو مدى الإعجاب الكبير الذى ابداه جمهور التجريبى من الخليج والسودان وفرنسا وأمريكا الذى حضر العرض بالرغم من عدم مشاركة العرض بالمهرجان التجريبى ولكنه كان يعرض بالتوازى معه، فكلمة التغريبة هنا تأتى من الغرابة التى تحيط بكل أحداث العرض المسرحى من بدايته لنهايته، وربما أرادت المخرجة من خلال هذا العرض أن تصل وجهة نظرها عن الحب للمتلقى أنه أحيانا قد يكون مدمرا أكثر منه مثمرا مثلما يقول المثل لدينا «من الحب ما قتل»، ونرى هذا فى حب سعدة لمرعى ابن الهلالية التى تسلمه مفاتيح تونس من خلالها والذى يتسبب فى قتلها لأبيها بدون وعى منها وبإيعاز من كل من مرعى والأغبر من خلفهما، وان الحب أحيانا يكون ضعف اكثر منه قوة، أخيرا «التغريبة بنت الزناتى» هى أول تجربة مسرحية درامية تأخذ شكل العالمية ومن الممكن أن تمثل مصر بالمهرجانات بالخارج وتحصد العديد من الجوائز العالمية مثلما حصدتها بالداخل لو لاقت الدعم المستحق من الدولة وأصحاب القرار، ومثل هذه العروض لابد أن يكتب لها الاستمرار دوما وعدم التوقف لأنها عروض تتناول التراث التى تلاقى إعجاب كل الفئات والطوائف والجنسيات ولا يطفئ متعتها زمن أو تكرار، تجربة أحيي القائمين عليها من مسئولين وأتمني أن تثمر عن تجارب أخرى تتبناها وزارة الثقافة حتى يصل مسرحنا المصرى والعربى إلي العالمية لنثبت للعالم اجمع أن مسرحنا المصرى بخير وأننا نفخر بتراثنا و نتباهى به أمام العالم اجمع . 


أشرف فؤاد