بدايات جمعية أنصار التمثيل والسينما (2) الممثل .. أول عرض مسرحي

بدايات جمعية أنصار التمثيل والسينما (2) الممثل .. أول عرض مسرحي

العدد 719 صدر بتاريخ 7يونيو2021

نجاح محاضرات جمعية أنصار التمثيل – التي تحدثنا عنها في المقالة السابقة - دفع الجمعية إلى الانتقال إلى النقطة الأهم، وهي التمثيل! فقرر الأعضاء تمثيل مسرحية «الممثل» أو «دافيد جَرِيك David Garrick» - التي ترجمها من الإنجليزية رئيس الجمعية محمد عبد الرحيم - واستأجروا مسرح «دار التمثيل العربي» بعشرين جنيهاً ليعرضوا عليه باكورة إنتاج الجمعية، وقام وزير المعارف «أحمد باشا حشمت» بجعل العرض تحت رعايته، تشجيعاً للجمعية ولرئيسها المدرس بالوزارة، بل وقدّم الوزير تبرعاً من ماله الخاص إلى الجمعية، وفقاً لما ذكرته مجلة «الجيل الجديد». وقد أعلنت جريدة «مصر» موعد تمثيل المسرحية في الأول من يناير 1915، قائلة: « يرأس سعادة حشمت باشا الحفلة التمثيلية التي تقيمها جمعية أنصار التمثيل في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الجمعة القادم بدار التمثيل العربي. وتمثل فيها رواية «الممثل» التي وضعها الأستاذ محمد عبد الرحيم المُدرس في المدرسة السعيدية، ويقوم بتمثيلها نخبة من أعضاء الجمعية المذكورة».
وتمّ التمثيل بالفعل، ونجح العرض وأثبتت الجمعية قدرتها التمثيلية! لذلك بدأت الأقلام الحاقدة والحاسدة تكتب سمومها وتنشرها في الصحف! وهذا هو حال نجاح هواة التمثيل على مرّ التاريخ!! فما بالنا بشباب هاوٍ ينجح في أول عرض يتم على مسرح شهير، ويحضره وزير المعارف، ويجعله تحت رعايته، ويتبرع للجمعية بمبلغ مالي من جيبه الخاص!! لذلك هاجم أحدهم العرض ونشر عنه مقالة بتوقيع «مخلص» في جريدة «الأفكار» يوم 12 يناير 1915، قائلاً:
مثلت فرقة من جمعية أنصار التمثيل رواية «الممثل»، ذُكر أن واضعها حضرة محمد عبد الرحيم، وقد شاهدت التمثيل كما شهده كثير من أنصار هذه الجمعية، فأعجبني منها عناية مدير المسرح بالتنظيم والترتيب، حتى غشى جمال المناظر ورواء المقاعد كثيراً من العيوب التي مرّت للمشاهدين. كُشف الستار في المقدمة عن نادٍ فيه جلسة للجنته الإدارية، فكان كل شيء فيها متكلفاً، حتى كلام الأعضاء وجلساتهم وموضوع الجلسة. فأما النطق فكان صناعياً بحتاً لم يسعنا معه إلا الحكم بفساد المقدمة من أولها إلى آخرها. ثم دخلنا في فصول الرواية الأربعة، فكان فَرق ما بين السيدات والسادة، فرق ما بين الممثل وغير الممثل. ولولا صاحب دور «والد الفتاة» وحُسن دعابته التمثيلية ومقدرته في المعالجة لرأينا الرواية قد انحطت انحطاطاً شديداً. ولولا قدرة واضع الرواية مُمثل دور «دافيد جرك» على إشغال الناس عن النظر إلى صواب التمثيل، بما كان يبدو منه من فحيح وشخير ورعونات يُدهش لها المتفرج لغرابتها، لكان جلوسنا إذ ذاك مؤلماً ألماً شديداً. فأما تمثيله بقية العرض وهو في حديث مع أبي الفتاة، أو مع الفتاة نفسها أو مع نفسه، فكان أولياً صناعياً جداً؛ ولكن لعل الذي أتلف عليه جهده هو ما في صوته من فراغ وازدواج. فقد كان النطق لا يلتئم في كثير من الظروف مع العاطفة المُمثلة، ولولا قدرة السيدة «فيكتوريا موسى» على ملاءمة مقولها ومصدرها لمقول مخاطبها وافتراضاته، وهذه منزلة لا يبلغها إلا المُدرب على التمثيل، الموفق له بفطرته لسقطت هي أيضاً بسقوط العطل الذي تلبسه صاحب الرواية. أما بقية أعضاء التمثيل فهناك أدوار كثيرة لم يتميز أصحابها إلا بظهور الضعف منهم مع حسن نطقهم، ولعل هذا من ضعف التأليف أيضاً، أو من قلة المران. وهذا ما يمكن أن أقوله في هذه العجالة ليتنبه أنصار التمثيل إليه في المرة الثانية. وعندي أنه يجب عليهم إذ ذاك أن يصرفوا النظر عن المقدمة، ويغيروا ممثل دافيد جريك، ويعطوا الأدوار لأشخاص أليق بها، أو إن أنصفوا ضربوا صفحاً عن الرواية كلها».
ردّ على هذا الهجوم، «أ. ر» المخلص أيضاً في الجريدة نفسها بعد يومين، قائلاً: « قرأت لحضرة «مخلص» انتقاده على رواية «الممثل». وكما كنت ممن شهد تمثيلها أردت أن أرد بهذه الكلمات على حضرة «مخلص» متصدياً له فيما قاله. وقبل أن أبدأ كلامي أريد أن أوجه نظره إلى أنني لست ممن لهم الشرف بالانخراط في سلك هذه الجمعية المباركة؛ ولكنني من المعجبين بها عن جدارة واستحقاق. قامت تلك الجمعية وتأسست في العام المنصرم بفضل بعض رجال هذا العصر، الذين كرسوا أنفسهم لخدمة، هي من أجلّ الخدمات قدراً، وأرفعها شأناً. ولا أرى ثمة داعياً للإفاضة في مدح التمثيل، وما ينتجه من النتائج الحسنة التي تعود على البلد بما يرجوه لها كل مخلص محب لوطنه. قامت تلك الجمعية فلم تلق مساعدة فعلية إلا من أفراد قلائل عرفوا موطن الضعف فأرادوا مداوتها، وثابروا على عملهم وصرفوا ما أوتوا من حول وما قدر لهم من قوة إلى غرس حب هذا الفن الجميل وأحبائه في أفئدة شبابنا، فأعلنت هذه الجمعية لأول مرة خروجها إلى المسرح، وظهرت لها أول رواية قام بتمثيلها رجال لم يكونوا في بدء نشأتهم ممثلين، ولم يتعلموا في دور التمثيل ومعاهده اللهم إلا حبهم له والسعي وراء إعلاء شأنه، خدمة لوطنهم. فحضر ليلتهم تلك نخبة من أبناء الأمة ومتعلميها، وخرج كل فرد منهم معجباً بالجمعية والقائمين بها، مثنياً على أفرادها متمنياً لها النجاح. وما سمعت بأحد بخس حقها إلا حضرة «مخلص» فإنه وجه إليها الانتقاد المُرّ بلا مسوغ وبلا حق. نرى انتقاده الموجه إلى هذه الجمعية وخصوصاً إلى حضرة رئيسها «عبد الرحيم أفندي»، مما يوجب الأسف. ولو كان انتقاده حقاً لما أخذناه عليه؛ ولكنه وصم الرواية والقائمين بتمثيلها وصمة عار، وجهل الأمر الذي هو في الحقيقة عارٍ عن الصحة. وفى الوقت نفسه هو مكذوب على أولئك الذين قاموا بما لم يقم به غيرهم. وزد على ما تقدم أن الممثلين أجادوا كل الإجادة، ومثلوا أدوارهم خير تمثيل. حتى أن كثيرين ممن شاهدوا التمثيل الإفرنجي سروا كثيراً بتمثيل أفراد جمعية أنصار التمثيل، وشهدوا لها بالإتقان وحُسن العمل بالنسبة لقرب عهدهم بهذا الفن. ومع ذلك إن كان الممثلون المتطوعون قد صدرت منهم بعض أغلاط في كلامهم أو في حركاتهم فلا يؤاخذون عليها على ما أظن بهذه الشدة واللهجة الجارحة. وكان بودي لو أن حضرة «مخلص» عوضاً عن أن يشهر بالجمعية، أن ينتقد حقاً. وإن كان حضرته يظن في هؤلاء الممثلين عدم الكفاءة وعدم القدرة على ما قاموا به، فإن آلافاً غيره ممن يفهمون، قابلوا عملهم بكل ارتياح. هذا أقل ما يمكن أن يُرد به على حضرة «مخلص» من حيث انتقاده رجال الرواية. وأما من حيث انتقاده محمد عبد الرحيم أفندي، فأراه قد أكثر من اللوم وزاد في التقريع مع أن القارئ لا يكاد يشك أن هناك غيرة أو حسداً، لأن عبد الرحيم أفندي الذي مثل أحسن تمثيل، والذي يمكن أن يقال عنه بوجه الإجمال إنه سبق من باراه من مناظريه، حتى لقد قوبل من جميع الطلبة والحاضرين بالهتاف والاستحسان. وما أردت أن أظهر بذلك فضل الرجل بدون حق بل أن من شهد تمثيله يمكن أن يقدر الرجل حق قدره. والأغرب من ذلك، والذي زاد اعتقادي بأن حضرة «مخلص» في قلبه شيء من الحسد، وهذا ما أتمنى ألا يكون هو ما نسبه الى حضرة عبد الرحيم من سوء الإنشاء، وذلك ما لا يوافقه عليه أحد إذ إن مقدرة الرجل معروفة لكل من قرأ كتبه التاريخية ولم تكن هذه الميزة المستحسنة في شخص عبد الرحيم فقط، بل قد جمع إليها ميزة الخطابة أيضا، فهو منشئ بليغ كما أنه خطيب مؤثر. ومن المدهش إني لم أسمع بانتقاد من هذا الوجه إلا من حضرة «مخلص» هذا. والانتقاد من الوسائل الفعالة لترقي الشيء المنتقد؛ ولكن للانتقادات كما يعلم حضرة «مخلص» على ما أظن شروط وأركان وأن أهمها الانتقاد الصادق وحسن تعبير الانتقاد. وإني أرجو من كل من يحب الخير لبلده ولأمته ومن كل من يود ارتقاء أي من الفنون أن لا يقابل القائمين به بمثل ما قابل به حضرة «مخلص» رجال جمعية أنصار التمثيل».
العرض مرة أخرى
مثلت الجمعية مسرحية «الممثل» مرة أخرى يوم 5 فبراير 1915 بدار التمثيل العربي، وشارك فيها «عبد الحميد علي» بفرقته الموسيقية، فكتب عنها «سعد الدين» نقداً متوازناً في جريدة «الأفكار»، نشره يوم 10 فبراير، تحت عنوان «كلمة في الممثل»، قال فيه: «حضرت رواية الممثل أو دافيد جرك لواضعها الأستاذ محمد عبد الرحيم أفندي المُدرس بالمدرسة السعيدية ورئيس جمعية أنصار التمثيل، التي هي بحق من نخبة الشبان المتعلمين هو واسطتها. فئة يفهمون ما للتمثيل من جزيل الفوائد وجميل الأثر في النفوس، ويعلمون أن المؤلف الروائي السيكولوجي والممثل البارع يخطون بالأمم خطوات واسعات، ويسمون بمدارك الشعوب وأخلاقها سمواً حثيثاً من أقرب الطرق. ولقد جمعت هذه الرواية كل المحسنات من اختيار الموضوع وطلاوة الأسلوب ورشاقة الألفاظ وسهولة اللغة وبلاغتها مع فصاحة في الإلقاء وصحة في الإعراب، يشهد بذلك كل من كان حاضراً، لأنهم كانوا صفوة الشبيبة المتعلمة من طلبة وموظفين وغواة فن التمثيل. حقاً لقد بلغت هذه الرواية حداً من الإتقان دعت كثيرين من ذوي الذوق السليم ممن شهدوها في المرة الأولى للحضور في المرة الثانية، أخص بالذكر صاحب السعادة الوزير الجليل أحمد باشا حشمت، وعندي أنها أحق بالمشاهدة مرات. هذا ولما كان الكمال مستحيلاً فقد لاحظت بعض الغلط البسيط في الفن نفسه، أرى من واجب الصحفي التنويه عنه حتى يتلافى، فمن ذلك: 
أولاً: قد كان يبالغ في الإشارات باليد عندما كانت جلسة إدارة نادي الأحرار منعقدة. ولو كانت الإشارات أقل من ذلك لكانت أقرب إلى الحقيقة منها إلى التمثيل. وهذه الغلطة لا يمكن للممثلين أنفسهم إدراكها، وإنما يُترك الحكم عليها للمتفرجين أنفسهم لأنهم المقياس الحقيقي لخلو ذهنهم من الموضوع. أما حُكم الممثل أو منتقد جماعة التمثيل فلا يكون صحيحاً لتكرار الموضوع عليه، فمثله كمثل اليدين إذا وضعت إحداهما في حساء ساخن والأخرى في ماء درجة حرارته منخفضة، ثم وضعتهما معاً في ماء فاتر فاليد الأولى تشعر بأنه ماء بارد، والثانية تشعر بأنه حار مع أن الماء واحد لم يتغير.
ثانياً: كان يجب على ممثل دور سكرتير النادي أن يقرأ المادة التاسعة في الدفتر الذي أمامه، ولا يلقيها كمن حفظها عن ظهر قلب؛ لأن المواد القانونية الهامة لا تحفظ عن ظهر قلب، فما بالك بقانون نادي خاص.
ثالثاً: في الفصل الثاني تلقي «أدا» وهي بطلة الرواية قطعاً محفوظة من شعر شكسبير على مزاجها ووفق هواها، فلها حينئذ أن تقحم ما استطاعت تلك القطع، وتعطيها من الحيوية ما شاءت. ولها الحق في ذلك فإن القطع غاية في إثارة الشعور ومس القلوب.
رابعاً: كان يجب على «أدا» ألا تضحك مطلقاً لجهل والدها اسم ابنة الملك لير؛ لأني أرى عيباً فاضحاً في ذلك خصوصاً وهي التي جمعت كل المحاسن الأخلاقية في صفاتها، وتغذت بالعلوم والمعارف من نشأتها. أما وقد اضطرها حضرة واضع الرواية إلى الضحك فكان الأجدر بها أن تبتسم فقط أو تضحك ضحكة عادية لا ضحكة سخرية كما شاهدناها.
خامساً: لا يجب على المستر «أنجت» وهو رئيس البورصة الملكية أن ينشد تلذذاً من الشاي الذي صنعته له ابنته «أدا» خصوصاً إن ذلك يخالف الذوق الإنجليزي مخالفة كلية.
سادساً: لاحظت أن بطل الرواية المستر دافيد جرك قد خرج من باب غير الذي دخل منه عند زيارته لأول مرة منزل المستر أنجت، وكان الأجدر به أن يخرج من حيث أتى، وإلا ظهر كأنه عالم بدخائل المنزل وهذا خلاف الواقع».
وفاة رئيس الجمعية
سارت الجمعية في طريقها الناجح، ولم يعرقلها كتابات الحاقدين الحاسدين، كما سبق وذكرنا، بالإضافة إلى ما نشرته جريدة «الأفكار» من حقد وحسد ونقد غير بنّاء يوم 10/4/1915، تحت عنوان «جمعيتا التمثيل»!! ناهيك عن محاولة بعض الجمعيات الاستيلاء على جهود جمعية أنصار التمثيل الفنية، كما حدث مع «جمعية النهضة بالتمثيل» التي أرادت أن تعرض مسرحية «الممثل»، مستغلة مرض «محمد عبد الرحيم»! لذلك نشر المريض كلمة في جريدة «الأخبار»  تحت عنوان «خطاب مفتوح لجمعية النهضة بالتمثيل» يوم 8/7/1915، قال فيها: 
« بما إني رئيس جمعية أنصار التمثيل التي لها الحق في تمثيل رواية «الممثل»، وحيث إني علمت بطريق الصدفة أن جمعية النهضة بالتمثيل ستمثل هذه الرواية يوم 11 يوليو سنة 1915 بدون إذن من جمعية أنصار التمثيل، فقد بادرت بإعلان هذا على صفحات الجرائد حفظاً لحقوق جمعية أنصار التمثيل، وقياماً بالواجب عليّ مؤقتاً لأني طريح الفراش. فأنا بصفتي رئيس جمعية أنصار التمثيل أعلن جمعية النهضة بالتمثيل أن ليس لها الحق في تمثيل رواية «الممثل» مطلقاً إلا إذا صدر منا غير ذلك. [التوقيع] «عن جمعية أنصار التمثيل .. محمد عبد الرحيم»».
كانت هذه آخر كلمة منشورة لرئيس الجمعية «محمد عبد الرحيم»، حيث مات بعدها بأيام قليلة، فقررت الجمعية إقامة حفلة لتأبينه في مقر الجمعية بنادي موظفي الحكومة، وأرسل سكرتير الجمعية خطاباً بهذا المعنى إلى المحامي والكاتب المسرحي «محمد لطفي جمعة»، قال فيه: «.. أتشرف بإحاطتكم علماً بأن جمعية أنصار التمثيل ستقيم حفلة تأبين للمرحوم الأستاذ محمد عبد الرحيم رئيس الجمعية في يوم الأحد 5 سبتمبر 1915 الساعة 5 مساء بدار نادي موظفي الحكومة بالقاهرة. وقد اختاركم مجلس إدارة النادي لتكونوا من مؤبني الفقيد في هذه الحفلة، فالرجاء التفضل بقبول هذا الاختيار وإخباري بما ترون وأقبلوا عظيم احتراماتي. [توقيع] المخلص حسين فتوح سكرتير جمعية أنصار التمثيل».
 


سيد علي إسماعيل