جنة هنا .. أبي الذي أكره

جنة هنا ..   أبي الذي أكره

العدد 705 صدر بتاريخ 1مارس2021

تدور أحداث المسرحية في بيت يشبه بيوتنا المصرية، بين أم وابنة تعاني من مشاكل نفسيه واجتماعية عديدة وعويصة، نتعرف عليها تباعا على مدار العرض، تلك المشكلات التي لا تختلف عما تعاني منه المرأة المصرية والعربية حاليا؛ طلاق - اضطرابات عاطفية - عدم إحساس بالأمان - خلل نفسي - فشل في تكوين علاقات صحية مع الطرف الآخر - شعور بالنقص.
أتحيز للكتابة النسوية، وادعم معنويا المرأة التي تحاول وتجتهد في مجال يسيطر عليه الرجال.
ومن أسباب البهجة أن تدخل عرضا مسرحيا فترى حياتنا اليومية منعكسة فيه، فهذه الأم هي أمك أو جدتك، وهذه الابنة أختك أو زميلة العمل، وهذا البيت بمكوناته يشبه ذلك الذي تركته خلفك للتو.
التيمة الرئيسية للعمل هي ابنة تكره أباها (عكس لكترا)، وتعزو كل أسباب فشلها في الحياة لغيابه المستمر وعدم تأديته لدوره فيها.
وهي تيمة طازجة لم يتطرق إليها الكثيرون، وتعتبر من التيمات الحديثة للمسرح (ما بعد الدرامي)، ولكن لم تكتمل للنهاية للأسف، حيث يتضح لنا سوء الفهم، فغياب الأب ليس لأنه نذل أو متخلٍ عن مسئولياته، ولكن لعذر قهري حقيقي خارج عن إرادته، وهو الموت. وهنا ماتت الفكرة التي لم تكتمل للنهاية لحساب صورة الأب.
وهنا يجب أن نتساءل: أليس للمبدع الحق في تحوير فكرته وتطويرها كيف يشاء؟! فإن شاء ليكمل الخيط لنهايته، وإن شاء تركه ومسك خيطا جديدا أو قطعه أو عقده. نعم، للمبدع كل الحق، فهذا عمله ويحمل اسمه، لكن حين  يُبنى العمل كله على شخصية رئيسية تعاني وتعاني وتسرد وتفرط في سرد معاناتها بسبب غياب الأب لدرجة أنها تعزو كل فشلها في الحياة لذلك، ثم يتضح أن هذا الأب مظلوم لا لشيء غير أن الأم أخفت خبر موته عن ابنتها. هذا أشبه بالمسرحية التي تنتهي بالبطل وقد استيقظ من النوم وأن كل ما سبق كان حلما.
كفى بالمرء ذنبا أن يضيِّع من يعول، كما يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكننا من الواضح لا نستطيع أن نمشي مع الخيط لنهايته لنرى أين سنصل. نخاف من خيالنا ومن الرقيب أحيانا.
فكم من أب ترك أبناءه ولم يسأل! وكم من أب سافر وأصبح دوره مقتصرا على كونه ممولا فقط! وكم أثر ذلك على الزوجة والأبناء وعلى كيان الأسرة كله! التي هي نواة المجتمع ككل. ومن هنا انتشرت أمراض اجتماعية لم نكن نسمع عن بعضها من قبل، كذلك ظهر نوع من البشر كالنبت الشيطاني الذي لا يوقر أحدا ولا ينتمي غير لنفسه، وليس ثمة قدوة لديه أو مثل، وصار يرفض الاعتراف بذلك حتى، أو يدرك وجود مشكلة.
هذا ما يخص التيمة. أما الصراع، فقد بدأ رمزيا وانتهى واقعيا.
صراع بين أم وابنتها على السرير بكل ما يحمل هذا السرير من دلالات في وعينا الجمعي أو ما يمثل لكلتا الشخصيتين ولكل منهما أسباب وجيهة للتخلص منه أو الإبقاء عليه.
فالسرير رمز متعدد المعاني والدلالات، لكل منا في وعيه تفسير ما للفظ السرير، فمنهم من يراه مكانا للراحة والخصوصية، ومنهم من يرى فيه رمزا للعذاب، وكل حسب ذكرياته وتجربته الشخصية.
هذا ما يحدث بين الأم (هنا) وابنتها (جنة)، فلكل منهما رؤية مختلفة وذكريات متباينة عن هذا السرير، لأن لكل منهما ذكريات حميمية جدا على نفس السرير، فإحداهما يحمل لديها كل معاني الحب والوفاء والذكريات الوردية لبدايات الزواج، بينما يمثل للأخرى رمزا للبرود والتخلي وكل ما هو قديم وعفا عنه الزمن، وهو أيضا مكان للعذاب، فأول ذكرياتها معه هي ذكرى الختان وهي موثقة إلى أعمدته النحاسية العالية، كما يذكرها السرير بفشلها في زواج سابق، هذا الفشل الذي ترك جرحا عميقا لم يندمل بعد.
الصراع ساكن لا يتطور ولا يتقهقر، فكل من الأم وابنتها له نفس القوة ويملك نفس الأدوات، لذا لا يبارح الصراع مكانه ولا يحسم لحساب أحد.
أما الحدث، فهناك نوع من الدراما يسمى (دراما اللا حدث) يتسم هذا النوع أحيانا بالملل، وخطورته أن ما يُبقي المتفرج على كرسيه للنهاية حرفية رسم الشخصيات وإتقان الممثل لها، حيث يشكل الجزء الأساسي من متعة الفرجة.
وهذا يحيلنا للكلام عن الشخصيات:
الأم:
نمط الأم المصرية الأصيلة التي تنتمي للجيل السابق، هي الأم التي لا تسعى جاهدة لتشويه صورة الأب أمام أبنائه أو التقليل من قيمته ودوره لتعظم دورها. أبدا، لم تفعل ذلك، بل العكس كان صحيحا، فكم هي ودود محبة وأصيلة. ولقد استخدمت لغة ذات مفردات تعبر بدقة عن مشاعر وأفكار تلك الأم من استخدام الأمثال الشعبية، والحكم المتداولة.. الخ.
الابنة:
مهتزة وتفتقد التوازن النفسي بسبب غياب الأب، مما خلف لديها شعورا بعدم الأمان وإحساسا بالنقص.
عبرت كل من الفنانة القديرة عبير الطوخي والممثلة الشابة هالة سرور بإخلاص وضمير عن الشخصيات المكتوبة على الورق، وبقي المتفرج على كرسيه حتى النهاية يتابع تقلبات البنت النفسية ودفاعات الأم، ويتأثر بما يرى على الخشبة.
الفنانة عبير الطوخي، لم أكن لأكتشف هذا الجانب من الذكاء العاطفي الذي تتمتع به لولا هذا العرض، فمثلا: حين تستخدم العروس الورقية لمنع الحسد، وتحرص يوميا على مداعبة الصالة بذكر بعض الأسماء المعروفة  للحاضرين، أو حين تأتي بالحلوى والبنبون وتنثره على الجمهور في استعراض السبوع، تلك الأشياء تبدو بسيطة لكنها تحدث بهجة وتلطف الجو وتجذب الجمهور أكثر فأكثر للشخصيات، كأنه صار جزءا من العمل.
الديكور والملابس:
كما هو النص، تخلط بين الرمزي والواقعي وتضيف إليهما التعبيري. كان الديكور بجميع مفرداته وباستغلاله الجيد للمساحة، مريحا للعين وذا جماليات خاصة، فعلى جانبي المسرح نماذج من خطابات أرسلها الأب للابنة والأم في أزمنة مختلفة يعكس بعضها الاهتمام والحب.
يتصدر المنظر السرير النحاسي الكبير الذي يحتوي على عجلات لسهولة الحركة، كما تضفي إحساسا بعدم الثبات والاضطراب الذي يعاني منه هذا البيت بمن فيه.
في الخلفية (سيلويت) مثبت بمشابك غسيل على حبال معلقة فيما يشبه أسطح المنازل، يساهم في إكمال الصورة لمفردات البيوت المصرية، وكذلك يستخدم طوال العرض لتصوير بعض الحركات الدرامية المعبرة لمشاهد يصعب رؤيتها تجسد على المسرح مباشرة مثل مشهد الختان على سبيل المثال، هذا يحسب للمخرج الذي حرص باستمرار على الحفاظ على التوازن وعلى جماليات الصورة.
هناك بعض الأشياء التي أفسدت المتعة الكاملة بهذا العمل، وذكرها لا يقصد منه أبدا التقليل من قيمة العمل، بل العكس هو نوع  من مناشدة الكمال لعمل يستحق ذلك بجدارة.
الاختصار عامود الدراما:
أي شيء يزيد عن اللازم يجب بتره والاستغناء عنه فورا. ليس المهم أن تكتب المهم أن تحذف. ليس للمقص قلب تماما مثل مبضع الجراح، فالكاتب أشبه بالطبيب الذي لا يتوانى عن التخلص من الزائدة إذا أصابها العطب وهددت الجسم كله.
فماذا يكون الحال إذا كانت شخصية (بكاملها) زائدة وليس لها لزوم.
هذا العرض ينتمي للديودراما وليس ثمة داع لإضافة المزيد من الشخصيات التي لا يقدم وجودها ولا يؤخر.
كذلك الأغاني والاستعراض، هل إذا تم الاستغناء عنها سيؤثر ذلك سلبا على العمل؟ أعتقد أن العكس هو الصحيح.


نسرين نور