لماذا كتب نجيب محفوظ للمسرح بعد هزيمة يونيو 67؟

لماذا كتب نجيب محفوظ للمسرح بعد هزيمة يونيو 67؟

العدد 669 صدر بتاريخ 22يونيو2020

عندما اقدم نجيب محفوظ علي الكتابة للمسرح عام 1967 م - اي بعد ثمانية وعشرين عاما من إسهامه في الحياة الأدبية الابداعية بروايته الاولي “عبث الاقدار” عام 1939 م  فلا بد أن نتساءل:-  ولماذا المسرح  في هذا التاريخ علي وجه الخصوص، وبعد هذا الكم الضخم والمؤثر من الاعمال الروائية والقصصية (19 رواية) حتي ذلك الوقت و (51 مجموعات قصصية ..) إذ ظل المسرح بعيداً عن إهتمامه إلي أن نزلت بنا هزيمة يونيو 1967، وتأتي الاجابة علي لسانه في حوار حول مسرح نجيب محفوظ، مع الناقد محمد بركات . مجلة “الهلال” فبراير(1 970- ص198) عندما يقول: الحق أنني لم أفكر عن قصد في الكتابة للمسرح، ولكنني وجدت نفسي أمام أبوابه العظيمة، وقد جاء ذلك في تطور طبيعي وبالتدريج حتي وجدت نفسي احس واضطر الي الاعتماد كثيرا -  علي الحوار في عدد غير قليل من قصصي ورواياتي الأخيرة .
ويأتي السر في تحوله هذا في قوله :( أنا اعتقد أن الاتجاه الي المسرح عموما كان نتيجة لظروف واقعنا الذي يحتاج الي مناقشة مستمرة ... الا انني -حتي الان- ولا بد ان اعترف لا اعتبر نفسي كاتبا مسرحيا)، وعندما يساله الناقد هل قُضي علي الراوية، وأصبح علي المسرح أن يلعب دوره ؟ يجيب: ( بغير جدال ان المتأمل في ظروف اللحظة التاريخية التي تعيشها مصر والوطن العربي  سيدرك علي الفور طبيعة ذلك الموقف المشحون بالصراع الحاد الذي يصل إلي ذروته بالصدام المباشر والحرب ..) ويكرر قوله : (أقول : إننا نعيش الآن عصر المسرح ولا جدال .. فهذه اللحظة المزدحمة بالكثير من الأفكار والمشكلات لا يمكن مناقشتها الا عن طريق المسرح)، ويؤكد (نجيب محفوظ) انه لن يعود للكتابة للمسرح مره اخري وبعد حوارياته الخمس (يحي ويميت، التركة، النجاة، مشروع للمناقشة، المهمة ) في مجموعة قصص “ تحت المظلة “ 1969 م، و” الجبل “ في مجموعة قصص “خمارة القط الاسود”1969 م وينشر أخرها “الشيطان يعظ “ في مجموعة “الشيطان يعظ” 1979 . اذ يري ان (الحوارية ) قصة في جوهرها ولكنها تعتمد علي الحوار  ... فمن يشاء أن يتناولها كقصة وجدها كذلك .. ومن يراها تُصاغ للمسرح فلن يكون بحاجة الي إعدادها مسرحية، ويقارن بين تجربته وتجربة توفيق الحكيم في مسراوية (بنك القلق)، وذلك لان تجربته في جوهرها تختلف كثيرا عن تجربة (الحكيم) .. فتوفيق الحكيم جاء بقصة وكتبها مرتين مره كرواية ومره كمسرحية ( اما انا فمزجت بين الاثنين في وحدة عضوية وفنية واحدة)، ويري ان حوارياته هي مجموعة من التجارب في مسرح تجريبي وعلينا ان ننتظر النتائج، ويصرح بانه من الناحية الفنية مجرد كاتب مبتدئ ولا يمكن ان يزعم بانه ينتمي الي كتاب المسرح الجماهيري .. ( انني ما زلت أجرب ولهذا ــ فانا انضوي تحت لواء المسرح التجريبي ) ويري ان مسرحياته الخمس في “ تحت المظلة “ كانت كلها انفعالا أكثر منها عرضا لحياة واقعية  ولذلك كان أنسب شكل لها هو الشكل (التجريدي ) اي الشكل الذي يميل الي الاختزال الشديد بدلا من المحاكاة والتمثل الحرفي الواقعي، ولو ان اقترابها من الواقع او بعدها عنه تفاوت من مسرحية الي اخري ويردد : ( والحق انني لم اقف من هذه المسرحيات موقف الناقد، ولكن مؤكد انها كتبت في فترة واحدة وتحت تأثير هموم واحدة ورؤية واحده .. ولهذا فلا يبعد ان تكون هذه المسرحيات كلها تنويعات علي لحن واحد)، وعندما يسأله الناقد : ما معني ان تدور مسرحياتك في زمن مطلق .. كما   ان ابطالها ذوي صفات عامة – انهم دائما رجل وامرأة، او فتي وفتاة .. والمكان في الاغلب كهف او شيء قريب منه، وهل يمكن ان يفسر هذا التجريد والاطلاق علي انه هروب من اللحظة التاريخية المعاصرة ؟ فيجيبه : (انني كتبت المسرح وما أسميه (بالحواريات) تحت الحاح اللحظة التاريخية التي نعيشها الان .. ومعني هذا انني لجات الي الحوار والنقاش لأشارك فيما يحدث ولأقول فيه رايا .. ثم – وهذا لا يقل اهمية –لأواكب الاحداث السريعة المتغيرة بهذه الاعمال القصيرة ... ان الرواية تستغرق زمنا طويلا في كتابتها ربما سنوات، وانا لا استطيع ان ابتعد سنوات دون ان اشارك واناقش وادخل في حوار مع ما يحدث علي ارض الواقع في مجتمعنا ..هذا عن الجزء الخاص بإمكان الظن انني اكتب هذه الاعمال الشديدة العمومية والتجريد هروبا من اللحظة وما تزخر به من احداث ... ثم اعود فاقول انني – فعلا – في اعمالي الاخيرة انشد درجة من التجريد في التعبير لأصل الي دلالة انسانية عامة.. فانا ابدا من الواقع لا من افكار مجردة وهذا –ثانيا- ينبغي القول بإمكان الانعزال أو الهروب من ظروفنا الحالية، ومن يتصور انني أبدأ من افكار مجردة فهو مجرد مخطئ .. وانا اجنح الان الي التجريد في التعبير لأحقق التعبير عن الانسان والانسانية  اكثر من التعبير عن هذا او ذاك من الافراد او المواقف )، ويكرر نجيب محفوظ فى نهاية حواره : ( انا لا اعتبر نفسي –ابتداءا- كاتب مسرح .. واعتقد انني لن اكون كذلك، ومع هذا فمن خلال التجارب شبه المسرحية التي قدمتها استطيع ان احدد أولا تصوري أولا لعالم الرواية ولعالم المسرح ) . ومن الطريف ان نجد نجيب محفوظ يبتعد عن المسرح طوال هذه السنين إلا أننا نجده يقترب كثيرا من (السينما ) وفي وقت مبكر من حياته الأدبية وذلك عندما شارك في كتابة سيناريو فيلم ( المنتقم ) 1947 م لصلاح ابو سيف لتتوالي أفلامهما في “لك يوما يا ظالم “، “وريا وسكينة”، “ الوحش “، “شباب امرأة “، “ الفتوة “ وغيرها من الأفلام الأخرى لمخرجين آخرين مثل “درب المهابيل “ 1954م حتي وصلت أفلامه إلي (26) ستة وعشرين فيلما علي مدي اكثر من ربع قرن ..لكن النقاد وجدو في نصوص نجيب محفوظ الحوارية ما لم يره المؤلف : فقد وجد الدارس( محمد عبد الحكيم عبدالباقي) في رسالة ماجيستير بعنوان ( نجيب محفوظ دراسة فنية 1967-1977م )جامعة المنيا مجلة “القاهرة” العدد 90ديسمبر 1988-ص (51) انه من الممكن تناول اعماله في ضوء فلسفة التعادل، ويري ان مسرح محفوظ يبحث دوما عن التعادل بين غريزتين في الانسان، اي( التعادلية ) التي نادي بها توفيق الحكيم، والتي تعد تعبيرا عن البحث بالتعادل، فالتعادل واختلاله بين العقل والقلب في اطار مشكلة الزمن كان موضوع مسرحية “ أهل الكهف “، والتعادل واختلاله بين الفكر المطلق ممثلا في “شهريار”، والايمان العاطفي الممثل في (قمر) متحركا في اطار مشكلة المكان ودورته كان موضوع مسرحية “شهرزاد”، والتعادل بين القدرة والحكمة وثباته واختلاله كان موضوع مسرحية “ سليمان الحكيم “ وهكذا الي اخر الامثلة: وهي امثلة يذكرها الحكيم ) كمحاولة من جانبه لإثبات ان مذهبه في الفن والحياة – انما يعد تعبيرا عن فكرة التعادلية، وهي فكرة لا تعبر عن خط مستقيم بقدر ما تعبر عن دور او دوره او دائرة، فكرة لا تعد فكرة سلبية تماما، بل فيها روح التحدي والنضال وهناك العديد من الأمثلة التي يذكرها الحكيم في مسرحياته وفي كتابه (التعادلية) والتي يدافع فيها عن فكرة الدورة او ال(الدائرة) كما يحلل فكرة النضال والتحدي، لذا يري (دياب) ان (حواريات) محفوظ تعدد تعبيرا عن مواقف سريعة تلائم انفعالاته المشحونة، وان تلك الاعمال تمثل – في تلك الفترة – خليطا من الواقعية والرمزية والطبيعية والسريالية والعبثية ... الخ ( وقد تجتمع جميعا في عمل واحد من اعمال المؤلف، لذا فانه لم يستطع ان يتمثل قراءته العريضة لتخرج بطريقة تلقائية الي رحاب الفن كما فعل (سارتر وكامي )، وأنه يتخبط تخبطنا في متاهات النكسة ولا يقدم لنا شخصيات واضحة المعالم، ولا ادل علي ذلك من انه يغفل تسمية الشخصيات في كثير من مسرحياته مُكتفياً بذكر سماتهم العامة أو يتخير أسماء توحي بالشمول مع ميله الي عزلة الشخصيات عن المواقف الحيوية المؤلفة ذات الابعاد السياسية والاجتماعية ليضعهما في مواقف عامة تتعالي علي تلك الابعاد او تلغيها –فالإنسان المستلب في هذه النصوص كما يشير الباحث (أديب نايف دياب) في بحثه عنن نجيب محفوظ بعنوان ( الإنسان في مواجهة البنيان والاستلاب )، هذا الإنسان في دراسة أخرى للناقد (لمحمد محمود عبدالرازق) – مجلة “القاهرة” ص(43) (إنسان أحادي البعد .. ) انه ( الإنسان الأداة ) – مع انه في واقع حياته (وسيلة ) أو (شيء)، وليس (ذاتا إنسانية) انه انسان هارب من ذاته، او من مجتمعه او من مهمته الحقه – انه لا يؤمن بقدرته الذاتية – فهو عاجز عن المبادئة  في مواجهة التحديات.. لذا فهي دراما ذهنية تدعونا الي التأمل واعادة النظر، ونادرا ما تنجح في اجتذاب تعاطفنا لأنها تبتعد عن اسلوب استبطان الشخصية لإعتمادها علي الحوار العقلي الجاف الذي يكاد يخلو من المناجاة والشعر، ويتوارى فيه ملامح الشخصيات في ظلال الحوار المسيطر فلا نكاد نحس بسماتها الخاصة ولا بمواقفها في الزمان والمكان: انها بحث وتجريب ونقاش مشكلات الانسان من خلال الحوار الحائر بين المسرح والمحاورات الفلسفية، ويبقي السؤال : هل نجحت تلك الحواريات في خلق وحده عضوية فنية نستطيع ان نطلق عليها (بناءا دراميا مسرحيا )، ويجيب القاص ( سليمان فياض ) ]جريدة القاهرة (العدد 334) سبتمبر 2006[  بانه يري ان هذه الحواريات بعيدة عن ان تكون قصصا قصيرة، وهي اكثر بعدا علي ان تكون مسرحيات الفصل الواحد- لماذا؟ لإفتقاد البناء المسرحي المتصاعد وصولا الي لحظة الذروة المعتادة في المسرح الكلاسيكي رغم أن البناء الكلاسيكي-  لم يعد طعنا في بناء المسرحية نظرا لتعدد المذاهب المسرحية وكثرتها – إلا أن مسرحيات ( محفوظ ) ذات الفصل الواحد - لمن يتأملها – تفتقد الي الحوار الدرامي، وتمتلئ بالحوار القصصي .. هذا فضلا عن الخلط المباشر بين تقنيات الكتابة للمسرح وبين تقنيات الكتابة للرواية ) لذا جاء الجو العام لهذه النصوص جوا غريبا عن عالم نجيب محفوظ .. بل عند بعض النقاد خروجا جوهريا في الطريقة (المحفوظية) المعتادة في اعادة خلق الواقع الخارجي داخل قصصه – بل ذهب البعض الي ان النزعة السريالية والنزعة التعبيرية – اي عالم الاحلام والظلال والشخصيات النمطية التي لا تتسمي بالأسماء، التقليدية، وتصبح الأحداث مهوشة و مشوهة، واللغة مقتضبة،  وتلغرافية، ومفككه، وسريعة، وخالية من الزخارف البلاغية وربما تكون تكرارية وشاعرية، واستعمال الاقنعة  والملابس الغريبة،والاضاءة الملونة التي تحرك الخيال وتساعد علي ظهور الأشباح وأطياف الوحوش، وهي قد تبدو مملة عند القراءة ولذا نحتاج الي قدرات فائقة في الاخراج حتي يتحقق تجسيم الدخائل النفسية، ولربما كان ذلك سببا لانصراف المخرجين عن هذه النصوص-  بسبب تغليب( عنصر الحوار ) وجعله عقلانيا خالصا.. لتصبح تلك النصوص مسرحيات افكار تعبر عن اراء خاصة بالمؤلف، ويعلق الناقد ( ابراهيم فتحي) في كتابه “نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية “ مشيراً الي ان الاعتماد علي الحوار كان كاملا في مسرحيات الفصل الواحد “ يميت ويحي، التركة، النجاة، مشروع للمناقشة، المهمة “ اذ يمكن اعتبار تلك المسرحيات امتدادا طبيعيا لتغليب (الحوار) علي (السرد و  الوصف ) فمنذ مجموعتيه “ تحت المظلة “، “خمارة القط الاسود “1969م نلمس استخدم الحوار المركز والمكثف الحدث كاشفاً بذلك عن مجموعة من الصراعات.. بما يدفع الباحث “محمد عبد الحكيم عبدالباقي” في رسالة الماجيستير بجامعة المنيا الي النظر اليها بانها ]مسراوية[ .. لكن (الحوار ) هنا يختلف عن (الحوار) في المسرح – ذلك الذي يتم بين شخصيتين او اكثر، وبالتجوز يمكن ان يطلق علي كلام شخص واخد ، وقد تُستخدم صيغة الحوار لعرض اراء فلسفية كما هو الحال هنا او تعليمية، او نحوها كما.. هو الشأن بالنسبة لمحاورات أفلاطون – اما في المجال المسرحي فالحوار يتميز بقيم خاصة أي :-
1 - يدفع الي تطوير الحدث الدرامي، وتجليته، ومن ثم تنتفي وظيفته كعامل زخرفى خالص
2 - ويعبر عما يميز الشخصية من الناحية الجسمية، النفسية، الاجتماعية والبيولوجية .
3 - وتراعي المشاهد الإحساس بأنه مشابه الواقع –مع انه ليس نسخة فوتوغرافية للواقع المعاش
4 - ويوحي بأنه نتيجة أخذ دور بين الشخصيتين المتجاورتين او (الشخصيات)، وليس مجرد ملاحظات لغوية تنطق بالتبادل، وقد ظهرت اتجاهات حديثة في استخدام الحوار المسرحي كمجادلات كلامية، ارتباطها بالقصة المسرحية ضعيف، لان هدفها الاساسي هو التعبير عن قيم فكرية دعاوية معينه، كما هو الحال عند (برنارد شو) مثلا، وتتنوع اشكال الحوار ما بين (حوار متسارع) يدور بين شخصيتين أو أكثر كانه خبطات سيوف متبارزه، يدل علي حضور بديهة...ورغم اعتماد نجيب محفوظ كلية علي (الحوار) في تقديم رؤاه في المسرح لعالم غريب غير معقول .. يسوده العنف وعدم الفهم، ولا نكاد نفرق فيه بين الحقيقي والتمثيل ..حيث تختلف المسرحيات في درجة إفصاحها عن معناها، ولكنها جميعا تقدم الرجل والمرأة  كمحور للمسرحية، والغالب انهما في موقف عصيب، يقوم كل منهما بالدور التاريخي الذي قام به علي مر العصور : المرأة تبحث عن الحب والرجل يفكر في مجد الأسلاف، وفي الكرامة والحرية والمغامرة، وهو ما يشير الي انعطافه نحو (مسرح اللامعقول وتقنياته) - رغم ان (الحوار) في مسرح اللامعقول عاجز ولا يؤدي وظيفة واضحة، ولا يبقي له من سمات مسرح اللامعقول سوي ذلك المناخ الموحش والتشاؤم والعنف الذي يكتنفها – لكن غلبة (الحوار) في هذه النصوص ينأي بها بعيدا عن تيار (اللامعقول)، إذ نراه أي المواد يرتبط بهذه النصوص أي المواد إرتباطاً عضوياً، ومن الصعب أن نعثر فيه علي فجوات مما يجعلها قريبة من المحاورات الأفلاطونية من هذه الناحية علي الأقل – لكنها من ناحية أخري تختلف عن المحاورات الفلسفية الخالصة – بأنها لا تخلو من فعل أو حدث أو من تحول نفسي حاد ... من هنا نري انه وقع في اسر (مسرح اللامعقول وتقنياته ) – فيما عدا توظيف (الحوار) إذ بدت سمات اللامعقول في تلك النصوص : كالنشاز النبو عن القاعدة، وانعدام المعني، ومن طبيعة هذه الصفات إثارة الضحك وإثارة الاسي أيضا، والإحساس الحاد بالكرب والضيق إزاء عبثية الأحوال من حولنا لأنها ليست حقائق موضوعية بما يخلق حيرة الإنسان وربكته في هذا الوجود – فهذا المسرح لا يشرح أية قضية ولا يحاول الدخول في جدل حول ايدولوجية معينه، وهو ضد مسرح الاحداث المتتابعة والمتصلة الحلقات، علي اساس سببي، والفصل في مسرحية  اللامعقول لا يروي قصة بالمعني المعتاد، وانما يقدم هيكلا من الصور، المصممة علي أساس أداء مهمة توصيل الاضطراب والقلق الي الاخرين . وهذا القلق المطلوب توصيله – نابع- اساساً من التيقن بان الانسان يحاط بعوالم مطلسمة ومسرفة في الإلغاز والتعمية. فالمسرحية العبثية خالية من القصة القابلة للسرد، ومن أية شخصيات واقعية فتتجاذبها الاضطرابات المألوفة تتجسد في شخصيات محبطة في أفعالها وتظل افعالها ودوافعها غير مفهومة ومتناقضة،وبالتالي مضحكة فيعتبروا المسرحية ملهوية حتي لو كان موضوعها جادا، وهي تتضمن في العادة نشاطا بدنيا الا انه نشاط مزيف ومُفتعل،ولا يشكل فعلا في واقعنا، وهي أيضا تنبذ(واقعية) الزمان والمكان .. اما لغة العبث فغالبا ما تكون في صراع مع الفعل المباشر وهو ما يتناقض مع وطريقة (الحوار) في هذه النصوص الذي يتصدى لمعالجة قضايا عقلانية من قبيل تمجيد الحرية كقيمة مطلقة ينبغي المحافظة عليها حتي في وجه الموت كما في نص “يُحي ويُميت” – بالإضافة الي التوترات بين التركة الروحية للماضي وضرورة التقدم العلمي علي حساب هذه التركة، والذي يتصدي أيضا للتوازي والتوازن في فلسفة التعبير حتي تتحرك في نصوصة أو مسرحياته اغلب ثوابته  القديمة، ويتصارع توازنه القديم ويتحرك حق الماضي حتي الموت في معركة ليست داخل خمارة أو حارة أو خلاء، أو في عوامة معلقة .. بل في وضح النهار الانساني الغامر الذي يحقق فيه الانسان مهمته الانسانية بفعل تاريخي – أما في اللغة  أو الحوار في مسرح العبث فغالبا ما يكون في صراع مع الفعل المباشر ويتقلص الي مجرد ثرثرة لا معني لها، كي تؤكد لا جدوي الاتصال او تبادل الافكار بين الناس، وبهذا لم يعد الحوار أو اللغة يصور ما هو جوهري وحي في باطن الإنسان ..  بل أصبح غطاءاً يحجب خلجات الفكرة، وخفايا العواطف، بدلا من الإفصاح عنها – لكن (الحوار) في هذه النصوص قد وجد حلا لمشكلة العامية والفصحي في الحوار بين الشخصيات – علي يدي (نجيب محفوظ) – سواء كانت تدب علي المسرح او تتجسد في خيال القارئ، وأثبت إن قدرته أن يقول بالحوار الفصيح كل ما يمكن ان يعبر عنه الحوار العامي، ونجح ف صياغة اللغة الثالثة التي يبحث عنها كتاب العربية لصياغة الحوار، ووجد اللغة البسيطة الفصيحة التي تحمل حيوية الحوار العامي مع ضبط اللغة الفصحي .. مما يؤكد أن مسرحه نتاج طبيعي لتطور فن الرؤية والقصة عنده .
مسرحية “يُميت ويُحي” هي اولى مسرحيات نجيب محفوظ ذات الفصل الواحد، وبطلها هو ذلك (الفتي) الذي يمثل عند الكاتب مفهوم الانسان المتحرر من سطوة الاستلاب = أي الإنسان الذي لا يؤمن بشيء، وإن أمن ببعض القيم فإن إيمانه يظل عرضة للاهواء والنسيان أو عرضة للمساومة والتنازل في ظروف الشدة والامتحان – أي إنسان الحقيقة والإرادة والفعل، الإنسان الذي يفي ذاته ولا يتخلى عن مسؤولياته وهو سيد مصيره، ويواجه التحدي  بكل ما فيه من قوة العقل والجسم، وهي اكثر مسرحيات مجموعة “تحت المظلة” كفاءة في التعبير عن ازمة العرب في العصر الراهن – فالشخصية الرئيسية لا تخرج عن فتي وفتاة، ومسرح الاحداث لا يميزه من المعالم الا نخلة وساقية صامته، والاسلاف راقدون في الجزء الخلفي من المسرح، واصوات المعركة أول ما يُسمع..  فالفتاة تُمثل بنات جنسها جميعا تتألم لصوت المعركة، وتتمني لو يقنع الفتي بصدرها ملاذا من متاعب الدنيا – لكنه يحن الي (توهج مصباح الحياة علي حافة هاوية الخطر الداهم) – فهو مريض يشخص الطبيب مرضه – فهو مصاب بالوباء – وباء العصر، القلق والمغامرة وجنون العظمة والجري وراء المجهول والبحث عن المجد والكرامة، وكل ما يورد الفتيان امثاله مورد التهلكة، وفي النهاية يقف الفتي وحده وقد استنهض الأسلاف ليسيروا ورائه صفوفا في المعركة ولا نعرف شيئا عن نهايتها، وتنظر الفتاة اليهم ذاهبين، وتنصت الي وقع اقدامهم بحزن، وينزل الستار . وقد حاول محمود امين العالم (1922-2009) تفسير هذا النص تفسيرا سياسيا حين اشار في مجلة “الهلال” فبراير 1970-ص(22)( في دراسة بعنوان “تأملات في خمارة القط الاسود “و”تحت المظلة”. مرحلة جديدة في عالم نجيب محفوظ) أن (العملاق) في هذا النص قد يكون رمزا لامريكا في معركتنا الراهنة ضد العدوان والوجود الاسرائيلي الصهيوني، وقد يكون وسيط بين الانسان وانسانية فعله الخلاق، وان الفتي يرفض المهادنة والوساطة والرضوخ كما يرفض (الطبيب) الذي يريد ان يشفيه من وباء القلق وكذلك (الشحاذ) الذي يريد ان يهبه طمأنينة خاوية او يوحي له بتمرد خال من اي هدف، وتنتصر ارادة القتال في الفتي وتحيا بتفجرها في نفسه مقابر الاموات والنيام، فتهب يشارك معه معركته الفاصلة التي تصبح جدارا يساند المقاومة، ويلهم الصمود بل ويتحرك ويقاتل، وقد اثار هذا النص اهتمام الناقد (ابراهيم حماده فتناوله في دراسة بعنوان (انكسار بطل “يحي ويميت” عند نجيب محفوظ) في كتابه “دراسات في الدراما والنقد” يشير فيها الي ان نجيب محفوظ كان تحت سقف رقابة داخلية تتأرجح بين عدة اقطاب مغناطيسية متجاذبة، يقودها اللاوضوح وسط القلق، والتمرد، والرمز، والاتهام، والأمل، والاحباط، والحلم، واليقظة، والمجهول، والغضب، والتلميح، والتصريح، والسرحان، والمرارة. ... الخ، ويقسم (الناقد) هذا النص الي حركتين رغم التماسك العضوى - اولاها في تحليل اعراض العلة الاشكالية القائمة، وأخرهما في الوصفات الطبية المقدمة للتداوى والانتهاء بالاختيار الفردي، ويري ان نقطة الضعف في هذه المسرحية تكمن في ان محاولة اكسباها صيغة التجريد، عجزت عن جعلها رمزا مطلقا يعيش فوق حدود العصر والموقع .... ولهذا، ستبقي صدي لوضعية تاريخية لا بد من التعرف عليها مُسبقاً، ويري ان (الفتاة) تستنكر في حسم تطلع الفتي الي الوراء حيث الخواء والموت، وتذكره بالحرب التي اهاجها ولم يكن متهيئا لها وكان يعتقد انها جولة من جولات المزاح الذي حذرته من اعتياده والمغالاة فيه.. وتظل تترامي الي سمعه قهقهات عدوه المنتصر في وحشية ساخرة، ويشير الناقد الي تخفي الكاتب في مزيد من تلافيف الرموز بسبب دافعان من التخوف وهما أن تأتي المناقشة تقريرية ومباشرة واقرب ما تكون الي التقرير الصحفي، والتخوف الثاني (ظرفي)، وهو ان حراس النظام السياسي عصر ذاك لم يكن يسمحون برفع اصابع الاتهام معلنة وواضحة، ولكن كانوا لا يمانعون من لجوء شطر من المعارضة الي استخدام (تورية التورية) حتي تلتبس المعاني وحتي يمكنهم التعامي عنها، ويتكلم (الطبيب) عن اثني عشر عرضا من اعراض الوباء الكاسح والتي انحصرت كلها في السلوكيات والمعنويات المرضية مثل ان يسير على يديه ويسمع بعينيه ويري (الناقد) ان شخصية (العملاق هو احدي القوتين العالميتين وان (الشحاذ) الأعمى يمثل الحرية الشخصية التي هي أقيم من الأمن نفسه، وان النص شكل ايهامي في تمسرحه، بما استعان به من خواص درامية خارجية، كان يكون كله حوار، وأن يكون مُطعماً بالإرشادات المسرحية المفسرة لمكانية الزمان ولتحركات الشخصيات وبعض ردود افعالها . ولهذا كان دخول الشخصيات الي المنظر وخروجها منه خاضعا للضرورات التي تنظمها حدوته خيالية وليس منطق السعي الي تصنيع حياة درامية، تشع بمناخ العلاقات الانسانية ومن ثم كانت الشخصيات المتحاورة في المسرحية شبه تجريدية وليست تجريدية صرفة، وذات بعدين اثنين، وتنبع من العقل الي العقل، ولا صلة لها بدفء القلب ونبض الحياة، حتي وان غمزت بأحداث معاصرة ويعتبر هذا النص قصة خيالية سياسية مصاغة في الاطار الشكلي للدراما ومن ثمة فإنها تتجانس بجوهر طبيعتها مع ما سبقها من (ست اقاصيص) ضمتها مجموعة “تحت المظلة” ولكنها تخالفها في البند التشكيلي باستعارتها من الدراما الهيئة الحوارية الخالصة والاستعانة بالإرشادات المسرحية، بدلا من التوصيف السردي المعروف في القصص، ويري انه لو كان العمل الادبي “يُحي ويُميت” قطعة درامية صالحة بذاتها للأداء في المسرح، لما عمد بها مع زميلتيها الاخريين “التركة” و”النجاة” الي الكاتب المسرحي (مصطفي بهجت) لكي يقوم بإعدادها، ويشير (د ابراهيم حماده) في دراسته الي ان (نجيب محفوظ)كان مشغولا بحقائق ملموسة واخري غير ملموسة تخفت عنها شخصيات (الفتي المهزوم، والفتاة، والطبيب، والعملاق، والشحاذ،والموتى الرقود في الظلام.. ثم اصوات قهقهة العدو )، وان هذه الحقائق الملموسة وغير الملموسة تتمثل في مصدرين الاول محسوس والثاني تجريدي، ويتمثل المصدر الملوس في هزيمة يونيو ومصر وعبدالناصر واسرائيل، والكتلة الشرقية والكتلة الغربية وكتلة عدم الانحياز، ويتمثل المصدر غير الملموس في المعاني المجردة والقيم الاخلاقية واللاأخلاقية ويقول ( ان هذا  يذكرنا –ولو من بعيد- بالمسرحيات الاخلاقية التي تهدف الي تجسيد فضائل البشر ورذائلهم، وان الكاتب لجأ –عامداً-  الي الرمز الُمعمىَ ويتساءل (الناقد) حول شخصيات النص : فهل : العملاق .. هو احدي القوي العالمية او صوت العقل كما وصفته الفتاة ؟ ام صوت الحكمة كما نعتها العملاق هل الفتي هو عبدالناصر أم اي محارب عنيد مهزوم ؟ هل الشحاذ هو الدول الفقيرة أم الحاجة الضرورية التي تؤثر الحرية والانطلاق علي الارتباط بالنظام الشيوعي الذي يمثله الناظر الصارم في ترتيبه لشئون المعيشة الحياتية؟ ويقرر ان (الاجابة علي تلك التساؤلات تتأرجح بين النفي القاطع، والظن المتردد ولكنها لا تتخطي الحدود الي منطقة اليقين الحاسم)، (وهكذا تعمد نجيب محفوظ إما بدافع شخصي  بحت، أو بدافع خارجي قد يكون الخشية من مخالب السلطة – ان يزيد شخصياته الوافدة الي الفتي والفتاة، أو مرموزات افكاره غموضا ولبوسا، بتغيير ملامح مدلولاتها الحقيقية بإضافات لا تخطر علي بال، حتي يتفادى عمليات الاسقاط المتوقعة من اهلية المازومين فكريا ونفسيا،ويدع كلا منهم يتخير دلالته، طبقا لمكنوناته الفكرية والنفسية الخاصة . لكنه لم يخف تماما –بسبب توفر الاحساس بالوضعية التاريخية التي تفرض نفسها علي الزمن فرضا – خصوصية الفتي كعبدالناصر، والصوت الساخر كصوت اسرائيل المنتصرة، والارض كمصر الحزينة المنكسرة ولا ان يبعد عن الزهن والاسقاط المحتوم علي الحدود الموتى.. الذين يمثلون التراث الحضاري والعسكري العريق، او الانتماء القومي المجيد، وينتهي (الناقد) بان يقرر ان النص (قصة حوارية) الطابع وسياسية المغزى.. وكأنها اصداء مطموسة المعالم ترك بصماته الأسيانة في القلوب، وان التغامض الذي اكتنف القصة ليس هو الغموض الشعري الموحى الذي يحرك الذهن والعاطفة ويحقق النشوة الوجدانية، وانما هو الغموض الحسابي الذي يحمل متتبعه علي ان يضرب اخماسا في اسداس بحثاً عن المسالك غير المسرودة، (ولهذا ننتهي من مطالعة القصة وتأملها دون خوض تجربة انفعالية او عقلية محددة ودون اتخاذ موقف ).
ويدور نص “التركة “1969 حول ابن ضال لولي من اولياء الله الصالحين قضت وصيته الا يصرف مليما من النقود قبل استيعاب ما في الكتب الصفراء من خزانة الحائط دون ان يعبا بها - حتي يصل الي النقود الراقدة تحتها ويستولي عليها غارقاً في الضلال – صاحباً معه قرينة سوء ويدخل (رجل) يدعي في البدء انه مخبر – يوثقه وصاحبته بالحبال، ويستولي علي النقود، وفي النهاية يعود (المخبر) في حراسة الامن علي هيئة (مهندس) ليشتري البيت العتيق الذي ظن رجل الامن ان صاحبه قد تركه دون وريث.. يشتريه بالنقود المسلوبة ليقيم مكانه مصنعا للأجهزة الالكترونية ويبقي هناك امل ضعيف ... بصيص نور ما يزال يختفي في احد الاركان، ويتمثل في اكتشاف سلطات الامن للوريث، فتتعطل اجراءات البيع لحين ثبوت النسب وتراضي الطرفين . وهي مسرحية اقرب الي مسرحيات الاخلاق في العصور الوسطي التي تعالج رحلة الانسان في الحياة وموقفه من الموت، وقد عالجه الكاتب متدرجا من الجزئي الي الكلي، ويذكرنا (الفتي) في النص بشخصية (صابر) في رواية “الطريق” ... اما الناقد (محمود امين العالم) (المرجع السابق) فيري ان (المهندس)الذي جاء ليشتري البيت العتيق لا يهتم بكتب الشيخ(فلديه معجزاته في علمه الهندسي وقدراته التكنولوجية، وهو يتهم الشيخ وابنه الضال صاحب الخمارة بأنهما علي تناقضهما سواء... فكلاهما يسعي الي الطمأنينة بطريقته الخاصة _أما هو فعلي نقيض الشيخ والابن _ فهو لا يسعي للطمأنينة. إنما يسعي للتقدم مهما كلفه من جهد وقلق، ولكنه تقدم لا قلب له.. تقدم خالٍ من إنسانية الإنسان .هذا هو الإنسان الذي يريد أن يشتري البيت ويتحكم في مصيره. إنه امتداد (للفتي)في “يُحي ويميت”. امتداد لصفاته وخصائصه وإن يكن مسلحاً بالتكنولوجيا والسلطة )، ويعلق الناقد قائلاً :-(إننا نرفض الطمأنينة العاجزة في الشيخ ونرفض المغامرة الفاجرة اللاأخلاقية في الابن،ولكننا نرفض كذالك التقدم الهندسي الخالي من إنسانية الإنسان .وهكذا تظل المأساة الإنسانية من جديد،، تنتظر المنقذ، تنتظر النجاة، ويري البعض أن حوارية (النجاة)1969هي ابرع المسرحيات الخمس (“يُحي ويميت “،”التركة “، “ النجاة”، “مشروع للمناقشة “،”المهمة” )..  فنيا وأكثرها تركيزاً وأفواها درامياً، وتدور في حيز ضيق : شقة في بيت محاصر بطلاها (رجل وامرأة) يلتقيان بلا معرفة سابقة، ويقعان في أزمة الحصار ..فيتنافران ويتقاربان، وعندما تدركهما النجاه تكون النهايه المأساوية .ونشير هنا إلي أن البناء الغني المحكم ووطأة العنف الذي يدور في خارج خشبة المسرح علي مسمع من الشخصية والجمهور، وتطور العاطفة في لحظة النجاة،وكل ذلك يجعل من هذه المسرحية القصيرة (أمثولة) معبرة عن الوجود بصفة عامة ... فنحن نظل في شك وريبة تجاه تصرفات الأخرين حتي يفاجئنا (الموت) فاقدين امتع لحظات حياتنا وأجداها بالاهتمام. فنحن بإزاء (فتاة) هاربة من وجه الشرطة التي تطاردها،وتطرق باب الفتي وتدخل، طلبا للحماية _ما جريمتها ؟ترفض ان تصرح، وبرغم الحرص الشديد الذي يبديه الكاتب في إخفاء طبيعة هذه الجريمة...فإنه يترك لنا بعض البصمات للتعرف عليها،جريمتها (فعل تاريخي)يتهمه حراس الأمن والاستقرار بأنه جريمة،وهي تصرخ محتجة عند رؤية رعاة البقر في التليفزيون يتبادلون إطلاق الرصاص،إنها تعيش الخطر وتمارس فعلا تاريخيا ولكنها تكره هذا العنف الأمريكي ..هكذا تصبح قسماتها الثورية -وكأنها- بغير دقة هندسية .(زهرة) في (ميرامار” وقد تطورت فأصبحت فتاة تتجاسر فتشارك في فعل تاريخي.. اما (الرجل) فبرغم لقاء المصادفة الذي جمعه بها، فهو كذلك ذو قسمات ثورية لا يمكن اخفاؤها، انه كما يقول له صديقه –يعرف عن فيتنام اكثر مما يعرف عن العمارة التي تواجهه، وهو يخفي في بيته اشياء لا يجب لرجال الامن ان يطلعوا عليها – انهما اذا شركاء في (فعل تاريخي وفي حلم واحد)، ويواجهان معا خطي الشرطة .. عدوة هذا الفعل التاريخي، وعدوة الاحلام- يلتقيان كما يقول لصديقه في لحظة (ما) أنها إشارة الي لقاء الدعوة- فماذا يفعلان.. هي تفضل الموت علي الخيانة(اذا انقطع الامل فعلينا ان نعاشر اليأس معاشرة حسنة )هكذا تقول .. لأنها اذا سقطت بين ايدي اعدائها فستسقط جثة هامدة منتصرة، ولهذا فعندما تدرك انه لا مفر، تتعاطي شيئا في غفلة من صاحبها، فتسقط وتموت ثم تدخل الشرطة فلا تهتم بها او بصاحبها فهناك – في العمارة المقابلة معركة بل تكاد تكون في كل مكان .. معركة شاملة اكبر من حدودهما، ولهذا قد يكون انتحارها -رغم بطولته – تعجلا لا مبرر له وقيمة سلبية في رحلة نظر لها الجسور، ولكنه علي اية حال عمق مسرحي لمأساة بطولتها انها تموت والمعركة مستمرة .. انها بحياتها وموتها انتصار رائع للحياة والانسان .. لذا فالنص في النهاية اقرب الي الحالة المسرحية التي نلمسها عادة في مسرح اللامعقول، وهو اقرب اليه(دراميا) من ان يكون مجرد حوارية ..
ويتناول (نجيب محفوظ) في نص “مشروع للمناقشة” فكرة تدور حول الفشل في القيام بعمل جماعي، فهنا مجموعة تريد ان تحقق عملا باهرا – فمن يحققه ؟ هل يحققه (المؤلف المسرحي ) وحده، او يشارك في تحقيقه معه الممثل والممثلة والمخرج والناقد والجمهور.. حيث يدور حوار حول تأليف مسرحية جديدة يقف فيها المؤلف متعاليا متكبرا فارضاً موضوعا غريبا علي إرادة1  الجماعة المتمثلة  في الممثل والممثلة والمخرج والناقد – الممثل يريد دورا يضمن بطولة خارقة، والممثلة تريد دورا يتضمن حبا دائما، والمخرج يريد ان يبهر الجمهور بالعمل، والناقد والمخرج يؤمنان (بجماعية العمل) حتي يتوفر له الكمال، والمؤلف ينفرد برايه، ويتعالي ويتمسك بموضوعه الغريب.. ثم لا تلبث الأحداث ان تفضي الي مشاجرة حادة بين الممثل والممثلة والناقد والمخرج .. مشاجرة بغير بطولة وبغير دلالة باهرة، وهكذا يظل (المؤلف) منفردا برؤياه متعاليا بإرادته المتسلطة فلا يتحقق (الفعل) الفعل الجماعي الباهر. وفي هذا النص ينقل الكاتب نفس المشاكل ونفس الادوار الي عالم التمثيل، والتشبيه بين ما يدور علي خشبة المسرحية وحياة الانسان في هذه الدنيا تشبيه قديم يذكرنا بأن ( ما الدنيا الا مسرح كبير).. لذا فان ما يجري علي خشبة المسرح هو محاكاة لما يجري في الواقع .. تدور احداثها في غابة يلتقي فيها رجل وامرأة وفي الغابة اخطار لا حصر لها ولا عدد.. فيمضيان اوقات الراحة في عناق حار، وفي لحظة من لحظات العناق الحار يسقطان جثتين هامدتين – فما اسباب هذا الموت ؟، وأي سبب نفترضه ؟ هل نقول انه العناق نفسه ؟ ويدور نقاش (الخميس) شخصيات  ليصبح (النقاش) أحد مظاهر الصراع في المسرحية.. حيث تقوم كل من هذه الشخصيات بدور واحد، ويعبر عن راي واحد لا يتغير وكأنها شخصية في مسرحيات الاخلاقيات في العصور الوسطي.. اذ يرتكز الحوار بين الشخصيات حول طبيعة الفن وقيمته وهدفه، وهو حوار خصب يمكن ان يفسر علي اكثر من وجه.. اذ تتمسك كل شخصية بدورها التقليدي، ويصدق علي الكون بقدر ما يصدق علي الفن المسرحي، اذ يحدث ان يقلد (الواقع) المسرح وتلعب الممثلة دورها – دور الحب- تلعبه مع المؤلف إنقاذا للعرض المسرحي، ويتضارب الجميع ويسقطون بأعياء وكأنهم يمثلون ادوار الحرب والبطولة التي اولع بها الممثل، والمؤلف الذي ينظر اليهم بازدراء، اليس هو الخالق المبدع؟ لذا فالنص في تصوري دعوة واضحة الي الديموقراطية المفتقدة، وان تم تجسيدها علي استحياء شديد .
وفي مسرحية او نص “المهمة” 1969 نلتقي بشاب لم يفعل شيئا في يومه الطويل ولا بحياته، اللهم الا التسكع والحب في الخلاء وليست لديه رغبة في صداقة انسان بل وليس لديه اي اهتمام بالإنسان، واضاع وقته ووقت الاخرين سدي لكنه عندما يقع في محنة يتضرع  طالبا الرحمة ..فيسعي للصداقة تحت وطأة الظروف القاسية - فلماذا أضاع وقته سدي ؟وهو الذي ( لو كان قد افتقد الحنان والغذاء في ثدي أمه الأيمن ..فثديها الأيسر مازال ينتظر شفتيه)..ولكنه جبان، لم يحقق مهمته الإنسانية،ولم يحقق شيئا ..لهذا يحاكم ويُدان ..فالنص دعوة إلي القيام بالمهمة التي ينبغي أن يكرس الإنسان حياته من أجل تحقيقها ..بدلا من أن يبدد وقته سدي، في اهتمامات صغيرة وفي غير موضوعها، او (معارك مجدية)،أو (طمأنينة عاجزة )، أو ( ذهول أجوف)، أو انتظار عقيم،أو مساومة رخيصة _التي تناولتها النصوص السابقة.. تري ما هي هذه المهمة)؟ هل هي الدفاع عن إنسانية الإنسان ...(فالشاب) في النهاية مدان من الجميع بينهم لا يدري عنها شيئا، ويخرج محمولا بين يدي (حامل المشعل)...وهو نص يمتلك خيطا دراسيا ملموسا تتيح له أن يقدم علي خشبة المسرح.. لإبراز ما يوحيه من إشارات مجازية غنية ..تُري هل من الممكن أن يكون ذلك الشاب) يمثل شخصية الزعيم المهزوم؟
هذه نماذج من أغلب نصوص نجيب محفوظ المسرحية ذات الفصل الواحد (السبعة)، بالإضافة إلي “الجيل “في “خمارة القط الأسود و”الشيطان يعظ “و”حارة العشاق” ولنا ان نتساءل مع الناقد (محمود أمين العالم )(المصدر السابق):- ما هي القيمة الفنية لهذه المسرحيات؟ وهل هي مجرد حوارات ذهنية -كما يري بعض النقاد؟ وهل هي مسرح متواضع للغاية لا يصلح إلا للقراءة ؟ - لكن (العالم) يؤكد أنه مسرح خارج من عالم نجيب محفوظ شاكي السلاح .. خرج متفجرا بالصراع والقدرة الفنية والفكرية الناضجة ..مسرح حقيقي في أرقى مستوياته -( لعلنا نستكثر في بعض المسرحيات، أو في بعض الفقرات من بعض المسرحيات _(إطالة الحوار التحليلي)، أو غلبة (للرمز) الفكري الخالص، إنها بقايا أصداء لعالمه الروائي والقصصي، ولكنه مسرح زخرا في كثير من جنبانه بالصراع المتدفق، والحركة النابضة ..لنستشعر هذا من مجرد قراءة للنص، ثم نتبين هذا كذلك في التجسيد المسرحي الذي قام به (أخيرا) 1970 مسرح الجيب لمسرحيات “يميت ويحي “، ”النجاة”، و “التركة “-وإن ارتكب المخرج (أحمد عبدالحليم) خطأا فنيا وفكريا _بمزجه بين مسرحيه “ ”يميت ويحي“ ومسرحية “النجاة”  كلمات لم يكتبها المؤلف، مهما كانت استلهاما منه او امتدادا لأفكاره .. “النجاة”، وإضافته إلي النص في المقدمة والخاتمة، وهو الإعداد الذي قام بي الكاتب المسرحي مصطفي بهجت مصطفي (1934-1980).. كما تلتها تجربة عرض نص “ الشيطان يعظ” في المسرح القومي عام 1977 وهي التي نشرت من قبل في  مجموعة قصصية بنفس العنوان عام 1979 ويقرر (العالم): (المهم أن نجيب محفوظ قد وقف علي منصة المسرح، لا انقطاعا عن رواياته وقصصه، وإنما إغناءً  لعالمه بمزيد من التجرد والخصوصية .. انها ليست مجرد معالجة لشكل تعبيري جديد.. مجرد نزوة فنية .. بل هي ضرورة فرضها احتدام الصراع في عالمه، وتفجر بطولات جديدة منه . أن خروج نجيب محفوظ الي المسرح هو في حد ذاته معني كبير من معاني مشاركته الايجابية الفعالة في الصراع السياسي والاجتماعي والانساني في الدائر حوله .. فالمسرح هو لقاء الإنسان بالإنسان لقاءً حميما دافئاً والمسرح بالضرورة موقف حاسم متجسد ) وهذا ما كان يحرص عليه كاتبنا الكبير، وهو يؤكد ان  حضوره الادبي في الساحة، وتبرز مشاركته الملموسة في الساحة في حينها بعد زلزال هزيمة يونيو 1967 ولم يكن (للرواية ) أن تسعفه في هذه الظروف اللاهثة، وكم كنا نتمني ان يزدهر المسرح العربي بمشاركته الخلاقة فيه .. كما تمني الاستاذ (العالم) عام 1970 (المصدر السابق)، وان يشاركه هذا التفاؤل المبشر الذي لم يتحقق، ولربما كان ذلك بسبب ان كاتبنا الكبير أصر ألا يعاود التجربة، وأتصور أن صاحب الفضل في إبداع تلك النصوص الحوارية المسرحية التي كتبها نجيب محفوظ علي مدي فترة من الزمن يرجع في المقام الاول الي تاثير مسرح اللامعقول وتقنياته - الذي التزم بالشكل الخارجي له - حتي ولو كان قد ضرب الكثير من هذه التقنيات في الصميم عندما اعتمد اعتمادا كليا علي اللغة والحوار العقلي ذلك الذي يهمشه مسرح اللامعقول كواحدة من سماته الاساسية ..
المراجع :
- “تحت المظلة -نجيب محفوظ -مكتبة مصر -1969
-”معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية “ د. إبراهيم حمادة -دار المعارف 1971-1981
-”دراسات في الدراما  والنقد “د. إبراهيم حمادة -سلسلة (كتابات نقدية)-الهيئة العامة لقصور الثقافة -1996
- مجلة “القاهرة” العدد (75) –دراسة (تعادلية توفيق الحكيم والبحث عن الانسان في الكون والمجتمع) د. عاطف العراقي – ص(46)
-مجلة “القاهرة”العدد(90) -ديسمبر 1988- (حواريات نجيب محفوظ) لمحمد محمود عبد الرازق -ص(43)+عرض لرسالة ماجستي ر لمحمد عبدالحكيم عبدالباقي - يقدمها مراد عبدالرحمن مبروك -ص (51)+(بيليوجرافيا الأديب نجيب محفوظ) ص(61)
-جريدة “القاهرة” مقال بعنوان (عشق المسرح وكتب خمس مسرحيات تجاهلها النقاد)مقال لكرم محمود عفيفي - العدد(334) 5 سبتمبر 2006-ص(13)
-مجلة “الهلال “فبراير 1970- عدد خاص-دراسة (تأملات في خمارة القط الأسود،و “تحت المظلة” مرحلة جديدة في غالم نجيب محفوظ) ص (12)+ حوار (حول مسرح نجيب محفوظ) للناقد محمد بركات -ص (198)


عبد الغنى داوود