علاء قوقة: لا بد من تقديم الشخصية على الوجه الأكمل حتى لا أفقد المصداقية بين تلاميذي

 علاء قوقة: لا بد من تقديم الشخصية على الوجه الأكمل حتى لا أفقد المصداقية بين تلاميذي

العدد 596 صدر بتاريخ 28يناير2019

ضمن ندواته الشهرية أقام المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، الأسبوع الماضي، تحت رئاسة الفنان ياسر صادق، ندوة نقدية لمناقشة العرض المسرحي “مسافر ليل” داخل القطار الذي بني خصيصا لهذا العمل الفني المتميز.. تحدث في الندوة الناقدة أمنية طلعت والناقد باسم صادق وأدارها الباحث علي داود.
الناقدة أمنية طلعت قالت إنها دائما تنتصر لفكرة النص أولا، وإن أي عملية درامية سواء على خشبات المسارح أو على الشاشات، تحتاج إلى مخرج متميز حتى تخرج إلى الجمهور بشكل لائق، كما هو الحال في هذا العرض، مضيفة أن نص صلاح عبد الصبور “مسافر ليل” هو نص فلسفي جريء من الدرجة الأولى قابل للتأويل. وعلى المستوى الشخصي كان لها رأي آخر وهو أنه يطرح فكرة السلطة الكونية في مواجهة الإنسان بشكل عام، وأن النص يتخطى فكرة السلطة العادية «الأرضية».
تابعت: إن النص يناقش حالة الاستسلام من المواطن العادي البسيط متمثلا في «الراكب» عبده وهو اسم كل أفراد العائلة عبده بما يدل على (العبودية)، وفي المقابل «المثقف» الذي يدون ملاحظاته ودائما في حالة تدوين للواقع، وإذا حاول مواجهته يكون مصيره مثل من سبقه ممن حاولوا تغيير الواقع، مؤكدة أن المثقف بشكل عام في حالة مشاهدة دائمة ثم انسحاب، غير قادر على المواجهة، يدون ما يحدث ويتركه للتاريخ.
أشارت أمنية إلى أن نيتشه أهم من ناقش فكرة الإنسان في مواجهة القوة العليا، لذا اخترع فكرة “سوبر مان” أو الإنسان الذي يمتلك إرادة، مؤكدة أن النص قدم هذه الجزئية بشكل أو بآخر.
وعن التناول الإخراجي، قالت إن المخرج استطاع أن يقدم عرضا مسرحيا سوف يستخدم كمادة للدراسة والتدريب لدى طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية لعدة سنوات حيث لم يقتصر فقط على كونه عرضا مميزا وناجحا بكل المقاييس، مؤكدة أن هذه الطبعة الإخراجية أمامها أكثر من 10 سنوات حتى يتم تخطيها والصعود عليها. وعن الإضاءة قالت إنها لعبت دورا كبيرا وجعلت المتلقي يشعر وكأنه في قطار حقيقي يتحرك.
وصفت أمنية بمباراة بين ثلاثة أبطال وهم الممثلون الذين قاموا ببطولته وهم جهاد أبو العينين (المثقف) المتعاطف غير المنغمس، والراكب (حمدي عباس) العبد الذي يحاول دائما أن يرضي سيده من خلال تعبيراته المميزة وأدائه الحركي والجسماني، وعلاء قوقة (عامل التذاكر) وقد صفته بأنه حالة متفردة لم ترَ مثلها من قبل حيث أعاد نحت الشخصية من جديد، وأسبغ عليها مقومات مختلفة من ذاته الإبداعية.
أضافت: على الرغم من أن صلاح عبد الصبور كتب هذه الشخصية (الإسكندر، عامل التذاكر، عشري السترة) بنوع من السخرية أو الكوميديا السوداء، فإن هذه الشخصية تحتوي على كثير من المنحنيات والصعود والهبوط، والانتقالات السريعة من المحتوى الكوميدي إلى المحتوى العنيف والسلطوي، إلى المتلاعب الدنس، وهذا يتطلب الكثير من التحولات النفسية في الأداء خلال لحظات بسيطة وبمنتهى الدقة، وهذا ما تمكن قوقة من نحته باحتراف عالٍ، أضفى على الشخصية سحرا خاصا.
بينما قال الناقد باسم صادق إن فكرة تجسيد نص شعري على خشبة المسرح تعد مغامرة نظرا لصعوبتها ومشكلاتها التي تفرضها طبيعة المنتج الشعري على الشاعر أو المؤلف قبل المخرج ذاته، مضيفا: فهناك الكثير من الشعراء الذين يتصدون للتأيف المسرحي يقعون في حيرة لصعوبة التوفيق بين الضرورات وما يقتضيه النص المسرحي من خصوصية الدراما التي تضفي على كلماته عمقا وتشويقا يجذب المتلقي، لذلك فإن مؤلفات مسرحية معدودة هي التي نجت من ذلك الصراع الشعري الدرامي خاصة إذا كانت بأقلام عظماء الشعر من أمثال أحمد شوقي وصلاح عبد الصبور، وهذا بدوره يحيلنا إلى تجارب مسرحية رائعة تصدى مخرجوها بشجاعة متقنة ومحسوبة لنصوص هؤلاء العظماء، فلا ننسى مثلا تجربة المخرج الكبير سمير العصفوري حينما قدم رؤية إخراجية سياسية لنص الست هدى لأمير الشعراء أحمد شوقي وما سببته من جدل كبير لدى عرضها بسبب عدم تعثره أمام هيبة النص وكاتبه في رؤيته الإخراجية التي بناها على خيال سياسي يقضي بأن الست هدى بطلة النص ما هي إلا مصر، بينما أزواجها التسعة هم الغزاة الطامعون في أرضها وخيراتها على مر السنين، وتلك هي عظمة الدراما التي تضفي أبعادا غير متوقعة على ما بين سطور النص المكتوب ونحن اليوم أمام حالة إبداعية شديدة الخصوصية فرضتها عبقرية كاتبها الراحل الكبير صلاح عبد الصبور وجرأة مخرجها محمود فؤاد الذي أعاد المسرح الشعري إلى صدارة المشهد من جديد، فمن يقرأ النص الشعري “مسافر ليل” يدرك أن صعوبة تجسيده تأتي من حالة التجريد التي بنى عليها المؤلف نصه لتناول تيمة الجلاد والضحية بأشكالها المختلفة عبر التاريخ، بالإضافة إلى التعبير عنها شعرا لا نثرا. فكان السؤال الذي طرحه على نفسه هل يريد شاعرية الحالة أم شاعرية الأداء؟
اسستطرد: أن الإجابة عن هذا السؤال لم تكن سهلة على الإطلاق بل أوقعته في حيرة شديدة خاصة وأن المؤلف أراد نصه من نوعية الكوميديا السوداء، فهل يحقق الشعر ذلك على لسان شخوص كعامل التذاكر والراكب المغلوب على أمره (عبده)، وإذا كان صلاح عبد الصبور قد كشف في النهاية عن حرصة على تحقيق شاعرية الحالة قبل شاعرية الأداء. رأى صادق أن المخرج جمع الحسنيين في رؤيته لهذا النص من خلال تصميم سينوغرافي بديع نفذه بدقة وصفه الكاتب في سطر واحد قال فيه «عربة قطار تندفع في طريقها على صوت موسيقاها» ليصحبنا في رحلة شاعرية محطاتها الزمن وأبطالها جلاد وضحية من أوراق التاريخ، مؤكدا أن المتلقي حينما يقرأ النص وتذييل كاتبه له ويشاهد العرض يشعر وكأن هناك حالة من الذوبان والتماهي الحقيقي بين المؤلف والمخرج حاول الأخير خلالها التوغل في عمق مشاعر المؤلف ليبني لنا رؤية إخراجية جاذبة بصريا وأدائيا مستغلا الملاحظات الإخراجية للمؤلف أو لنقل أمنياته الإخراجية، فأخذ المخرج على عاتقه عبء تحقيقها واستطاع ببراعة شديدة أن يضع نفسه مكان المؤلف ووضع تصورا إبداعيا أضفى روح الحيوية على النص.
أشار صادق أيضا إلى أن المخرج محمود فؤاد لم يكن ليحقق ذلك لولا اختياراته الأنسب للممثلين الذين تشبعوا بكلمات الحوار العميقة وما بين السطور من معاني القهر والطغيان، فقدموا أداء شاعريا كوميديا متناغما بامتياز جعلنا نرى بين وجوه ركاب القطار صلاح عبد الصبور جالسا يصفق بحرارة إعجابا بهم.
تابع: منذ أن انطلقت الرحلة بكلمات الراوي المتورط في الأحداث رغم ما يبديه من حيادية يجد المتلقي نفسه متعاطفا مع الراكب البسيط الذي جسده حمدي عباس بأداء سهل ممتنع يدفعك للتعاطف معه طوال الوقت مستغلا ملامحه الشرقية الأصيلة، وقد استطاع عباس أن يضيف للشخصية تصورا مخلتفا متفقا مع الكاتبة أمنية طلعت التي قالت إنه استطاع تجسيد شخصية «العبد» باقتدار من خلال انفعالاته وتعبيراته وتكوينه الجسماني.
وعن الممثل القدير علاء قوقة في تجسيده لشخصية الديكتاتور الطاغية، قال صادق إنه لم ينسَ أن يغلفها بأداء كوميدي في لحظات الجدية، وهو ما كان يتمناه المؤلف حتى إنه يفجر ضحكات جمهور الركاب من تفصيلة لغوية لم يذكرها النص حينما يقسم الراكب قائلا «أقسم أني» فيرد عليه العامل قائلا «أقسم أني» بكسرة الهمزة وهي إحدى الحليات الأدائية التي ألقاها بوعي ليخرج المتلقي من انغماسة في الأحداث بهدف التفكير فيما يحدث مستغلا مدرسة كسر الإيهام فيضحك الجميع رغم إدراكهم لمصير الراكب المحتوم بالقتل على يد هذا الطاغية. واختتم كلامه عن الفنان علاء قوقة بأنه كوميديان من الطراز الأول على عكس ما كان يتصوره، بينما أكد باسم أن الفنان جهاد أبو العينين (الراوي) تجاوز الهدف من الدور المعروف لوظيفة الراوي دراميا كمعلق إلى كونه جلادا وضحية يستخدمه الطاغية في حمل جثة الراكب المقتول فيتجاوز حياديته إلى التورط في الجريمة.
أبدى صادق إعجابه بالأداء اللغوي المتقن لأبطال العرض وخصوصا الممثلين علاء قوقة وجهاد أبو العينين متسائلا ولما لا؟ فهما أستاذان بقسم التمثيل والإخراج في المعهد العالي للفنون المسرحية، وما نشاهده من خلال هذا العرض يجعلنا نطمئن على مستقبل طلاب التمثيل والإخراج بالأكاديمية. اختتم باسم صادق حديثه بالإشادة لمصمم الإضاءة أبو بكر الشريف بما رسمه من تعبير بإضاءة تخدم أجواء الرحلة الليلية الغامضة وفي سياق آخر رأى صادق أن العرض تعرض للظلم أكثر من مرة، الأولى حينما تجاوزته الجوائز الكبرى في الدورة الأخيرة للمهرجان القومي للمسرح، والثانية حينما استبعد من مسار التنافس على جوائز مهرجان المسرح العربي، مؤكدا أن عزاءنا هو ما يحققه العرض من نجاح جماهيري منذ افتتاحه، مطالبا المسئولين وعلى رأسهم الفنان محمد الدسوقي مدير عام مركز الهناجر، إعادة النظر في توقف العرض واستمراره لأطول فترة ممكنة.
فيما قال الفنان علاء قوقة معلقا على فكرة الأداء الكوميدي في عرض تراجيدي، إنه يرى متعة في أن يخرج من وسط هذه التراجيديا القاسية لمسات كوميديا، مشيرا إلى أنه يدرس لطلابه كيفية صناعة الكوميديا التي تنشأ من العقل وكيف يستخدم قدراته العقلية ويستطيع أن يضحك أي شخص وهو يطبق نظرية واحد + واحد = إفيه، مؤكدا أن هذه النظرية جعلت الأمر سهلا في شعر صلاح عبد الصبور أن يخرج منه الكوميديا التي وصلت إلى حد العبث وليس الضحك العادي الواقعي، ولكنه يحتاج إلى تدريب جسدي وتدريب على طبقات الصوت المناسبة، كما أوضح أن دوره في هذه الجزئية مزدوجا، مؤكدا أنه مجبر على أن ينغمس في دراسة الأشياء حتى تظهر بالشكل اللائق ولا يفقد المصداقية بين تلاميذه الذين يحرصون على مشاهدة أعماله.
وأضاف أن الإبداع لا بد أن يسبقه الإخلاص في العمل إذا توفر الإخلاص فهو يدفع صاحبة إلى الإبداع. أشار قوقة إلى أن تفسير الناقدة أمنية طلعت بأن النص يطرح فكرة السلطة الكونية هو وجهة نظر خاصة، ولكن النص يستعرض السلطة الأرضية.
قال مخرج العرض محمود فؤاد صدقي إن العرض شهد صعوبات كبيرة في تنفيذ فكرة القطار الخشبي في البداية إلا أن روح التفاؤل والطاقات الإيجابية في الكواليس وأثناء البروفات طغت على كل الصعوبات التي واجهناها أثناء تنفيذ القطار. وفي سياق متصل، وجه صدقي الشكر إلى مدير مركز الهناجر الفنان محمد الدسوقي على إيمانه بفكرة العرض وبه هو شخصيا في تجربته الأولى كمخرج على خشبة المسرح وتقديم كل الدعم حتى تخرج الفكرة إلى النور.
أضاف صدقي العرض شهد دراسة تفصيلية لكل كبيرة وصغيرة على كل المستويات سواء رؤية إخراجية أو تقنيات أو ديكور وغيره، موضحا أن سينوغرافيا المكان فرضت على كل طاقم العمل أن تكون البروفات مختلفة تخدم الرؤية الجديدة.
الفنان محمد الدسوقي مدير عام مركز الهناجر للفنون قال إنه فخور كل الفخر بهذا بالعرض وصناعه وحالة النجاح الذي يشهدها العرض منذ الليلة الأولى له حتى وصل إلى ما يقارب 125 ليلة عرض. وفي السياق ذاته، وجه الدسوقي الشكر للجماهير الوافدة لمشاهدة العرض على الرغم من شدة البرودة التي تشهدها البلاد وهذا يؤكد على أهمية وقيمة العرض لدى الجماهير العاشقة للمسرح، كما وجه الشكر إلى المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية الذي حرص على إقامة الندوة النقدية لمناقشة العرض، وقدم التهنئة للفنان ياسر صادق على توليه منصب رئيس المركز القومي للمسرح وأثنى على فارس عبد المنعم المدير المالي والإداري بالمركز على إدارته الواعية للمركز خلال الفترة الماضية.

 


محمود عبد العزيز