العدد 574 صدر بتاريخ 27أغسطس2018
تظل أعمال الراحل صلاح عبد الصبور، والذي تعددت مواهبه بين الشعر والكتابة المسرحية والصحافة، من أهم رموز الحداثة العربية، فالراحل كان من القلائل الذين أضافوا إلى المسرح الشعري الحديث، ورائد من رواد العمل الثقافي المصري؛ وبينما كان صحفيًّا محافظًا، جاءت لغته الشعرية والمسرحية مليئة بالحنين لقيم اندثرت، ولكنها ظلت في أعماله التي تهتدي بها أجيالاً عديدة من المثقفين؛ ربما لذلك كانت نهايته الدرامية تليق بعبقري من هذا الطراز.
وكما قتلت الكلمات الحلاج، قتلت أيضًا صلاح عبد الصبور، ففى تلك الليلة 14 أغسطس 1981 أو الليلة المشئومة حسبما وصفها الدكتور جابر عصفور في كتابه «رؤيا حكيم محزون»، قال «عبد الصبور»:» إنه يشعر بإرهاق وصداع وضغط ثقيل يطبق على صدره، وأنه يفضل العودة إلى المنزل مع بناته، إلا أن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أصر على أن يستريح قليلا، ولكن الألم عاوده من جديد، ما جعلهم يذهبون به إلى مستشفى هليوبوليس بمصر الجديدة، حيث دخل العناية المركزة وكانت آخر كلماته لجابر عصفور «هل تتذكر زكاة الوقت؟» فأجابه الأخير: نعم. ليرد عليه عبد الصبور «هذه أيضًا زكاة بدن»، ليدخل بعدها فى غيبوبة وتفشل جميع محاولات إنقاذه، ليرحل بعدها إثر أزمة قلبية حادة.
وبعد مرور 37 عاماً على رحيل أنبل من أنجبت الثقافة المصرية والعربية أقام قطاع شؤون الإنتاج الثقافي برئاسة المخرج خالد جلال، ندوة لمناقشة العرض المسرحى «مسافر ليل» بمناسبة الذكرى الـ 37 لرحيل الشاعر»صلاح عبد الصبور» وذلك في الثلاثاء 14من أغسطس الجاري بمركز الهناجر للفنون، عقب انتهاء العرض، وذلك بحضور الدكتور مصطفى سليم، أستاذ النقد بالمعهد العالى للفنون المسرحية، والناقد الدكتور محمد سمير الخطيب، والدكتور محمود نسيم، أستاذ المسرح بأكاديمية الفنون، والناقد محمد الروبى، رئيس تحرير جريدة مسرحنا، والشاعر الناقد يسرى حسان، الفنان موحمد دسوقى مدير مركز الهناجر للفنون، والناقدة ضحى الوردانى، والمخرج محمود فؤاد، والناقد أحمد الحناوى، وأبطال العرض ومنهم الدكتور علاء قوقة.
وقدم الندوة المخرج محمد دسوقى مدير مركز الهناجر للفنون وتناول خلال كلمته عن دور المسرحيين والقائمين على العملية الإنتاجية بداخل مسارح الدولة حول إعادة الدور الريادي والبحث عن أعمال الكبار عن طريق البحث في نصوصهم وإعادتها إلى خشبات المسارح مثل يوسف إدريس، وصلاح عبد الصبور وغيرهم.
وتابع دسوقى أنه أسعده الحظ في أن يتقابل مع الكاتب الكبير صلاح عبد الصبور في مسرح الطليعة عندما كان صغيراً، مؤكدًا على سعادته بإنتاج عرض مسافر ليل وهذا الشكل الذي قدم به، كما تقدم بالشكر لمحمود فؤاد مخرج العرض، وجميع التقنيين والإداريين بمركز الهناجر للفنون للجهد الذي بذلوه لخروج العرض بتلك الصورة المشرفة والمبهرة، كما وجه الشكر للبيت الفني للمسرح برئاسة الفنان إسماعيل مختار على مساندته لهذا العرض . وأشاد برؤية المخرج فى استخدامه لعربة القطار، التى كانت بمثابة تجسيد لمقولة «إن أتيحت لك مساحة من الأرض فطوعها لعمل عمارة مسرحية».
وقال الدكتور مصطفى سليم، خلال كلمته : «أننا نحتفي اليوم بذكرى رحيل أحد رواد المسرح الشعري المصري، وهو ليس فقط أحد الرواد بل هو علامة فارقة بالمسرح الشعري الذي استطاع أن يحرر الدراما الشعرية من قواعد الشعر التصنيفي العمودي والتي كانت بالضرورة تحد من طاقة درامية للعرض، بعدما كانت الكثير من الدراما الشعرية مليئة بالمطولات الشعرية التي تؤثر ربما في السرد على الإيقاع الدرامي في العمل الفني، جاء صلاح عبد الصبور بمشروعه الذي كان مشروع تحديث، وأيضاً مشروع متمرد على التقاليد واستطاع أن يقدم لنا خمس مسرحيات هامة، تمثل المسرح الشعري، وبدأت بفتح طاقات جديدة للكثير من الشعراء حين دخل عالم الشعر وحطم التقاليد وأنجز مشروعه في الشعر الحر، والذي عندما دخل مجال المسرح أعطى للدراما الكثير وأخذ من الدراما المسرحية الكثير أيضاً» .
وتابع سليم : « مسرحية «مسافر ليل» تعتبر أحد النماذج الدرامية شديدة الاكتمال والتكامل بمعنى أنه لا يوجد جملة في هذا النص،تنتمى لعالم الشعر دون الدراما، فربما نقف حول قصيدة « يوميات نبى مهزوم في مسرحية «ليلى والمجنون» ونقول ما هي وظيفتها الدرامية، ولكننا في مسرحية مسافر ليل فلا تستطيع أن تستغني عن كلمة واحده، و تقرأها في اقل من ساعة،فأنا أعتقد أن مسافر ليل من النماذج القوية في تاريخ الدراما المصرية” .
وأضاف سليم : «ان صلاح عبد الصبور كان الشاعر الرسمي لعروض مسرحيات لوركا في المسرح المصري، فكان حينما يقدمون عروض لوركا يستعينون بصلاح عبد الصبور، وذلك لأن عروض لوركا تحتوى على مقاطع شعرية مطوله، وكان هو المتصدر الوحيد لهذه النوعية من العروض، كما تأثر عبد الصبور كثيرا بالشاعر والمسرحي الكبير تي اس اليوت، لدرجة أن كثير من المسرحيين اعتقدوا أن صلاح عبد الصبور هو «اليوت» العرب، كما فتح صلاح عبد الصبور طاقة جديدة لجيل جديد من الشعراء، ويظل صلاح عبد الصبور علم من أعلام الدراما المصرية و من أعلام الشعر، وتظل المساحة الفارغة التي تركها صلاح عبد الصبور بعد رحيله فارغة، فلم يأتي شاعر بعده ليملأ هذا الفراغ بشكل كامل، هذا بالرغم من محاولات بعض الشعراء في فترة الثمانينات أو التسعينيات، أضاف: لن نقدر أن ننسى كلمات السجين الثاني من مسرحيته مأساة الحلاج وغيرها من الجمل الشعرية داخل مسرحياته والتي حفرت بداخلنا ومازلنا نرددها كجمل مأثورة . واختتم كلمته قائلاً : صلاح عبد الصبور يقاوم الزمن ويستطيع أن يحيا في المستقبل، رحل بالجسد إنما هو باق بفنه وبفكره والذي مازال يجعلنا نتناقش ونتحاور « .
الناقد محمد الروبي رئيس تحرير جريدة مسرحنا وجه الشكر لجميع صناع العرض، أضاف:
أنه عندما تم استضافته بمهرجان الشارقة للمسرح، وطلب منه التحدث في أحد محاوره والتي تناولت موضوع «هل هجر الشعراء خشبة المسرح « فإن أول شيء طرا على ذهنه هو المثل الشعبي « بركة يا جامع» مؤكدا أن المسرح له شاعريته الخاصة وأن التاريخ يحدثنا عن ذلك، تابع: ولأنني مؤمن بأن المسرح له شاعريته الخاصة، وهذا ليس رأيي أنا، بل هو كلام الشاعر الكبير تي اس اليوت، في أحد دراساته المطولة، حيث قال أن المسرح الشعري صعب للغاية وعلى من يتصدى له، أن يبحث عن جديد في الشعر وجديد في المسرح، وأكد الروبي أنه ليس كل شاعر يستطيع أن يكتب المسرح، وليس كل كاتب مسرحي يستطيع أن يكتب شعراً، تابع : وهنا نجد أن صلاح عبد الصبور يمثل نقطة مفصلية في هذا الصدد، وللأسف لم تكتمل تجربته المسرحية، وهو أحد مؤسسي الشعر الحديث في مصر والدول العربية « .
وأضاف الروبي : صلاح عبد الصبور كان واعيًّا جدًا، ويظهر ذلك من خلال علاقته وانفتاحه على العالم، وكان يبحث دائماً عن كل ما هو جديد في الشعر، ومن هنا نرى أنه عندما خرج نص مسافر ليل، والذي يدهشك عشرات ومئات المرات عندما تشاهده بأكثر من رؤية وأكثر من إخراج، اكتشفت أن صلاح عبد الصبور رجل مسرح، وليس مجرد كاتب مسرحي، وهذا يتجلى في الإرشادات المسرحية، فتجده يرسم المشهد المسرحي، وكأنه يشاهد الصورة، وكأنه يحلم دائمًا» .
وتابع الروبي عن عرض مسافر ليل حيث قال : « لو عاش عبد الصبور ورأى هذا العرض بهذه الرؤية التي قدمها المخرج محمود فؤاد، كان سيسعد جدًا، هذا لأن المخرج استطاع أن يقترب بشكل كبير من حلم صلاح عبد الصبور، الذي كان على يقين وقت كتابه النص عام 68 أي منذ خمسين عاماً بصعوبة تحقيقه، و استطاع محمود أن يحقق ولو جزءا من هذا الحلم .. وهو صنع عربة قطار حقيقية، عبر الروبي عن سعادته بتجربة مسافر ليل والمخرج محمود فؤاد، مضيفا أن العرض يقدم مخرجًا ذو رؤية مسرحية ومهموم بالمسرح، و هذا الهم ليس مرتبطًا بالإبداع فقط وإنما بكافة التفاصيل، ويدور بداخله العديد من الأسئلة التي تدفعه لخروج العرض بالشكل الذي رأيناه «.
وتناولت الناقدة الشابة ضحى بعض إبداعات صلاح عبد الصبور المسرحية والتي قدمها في مسرحية ليلى والمجنون ومسافر ليل، والأميرة تنتظر، ومأساة الحلاج، وكيف نشأت علاقتها بمسرح صلاح عبد الصبور عندما كانت تدرس بالمعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون كما قال الدكتور علاء قوقة بطل العرض والذي يقوم بأداء شخصية عامل التذاكر، أنه سعيد بإقامة هذه الندوة عقب الليلة الـ 50 من العرض وفي الذكرى الـ 50 لكتابة المسرحية، وأضاف قوقة أن الفضل الأول لخروج هذا العرض المسرحي يرجع إلى الكاتب نفسه، فلولا أنه كتب هذا النص العبقري بهذا الشكل وهذا الأسلوب لما أبدع مخرج ولما أبدع ممثل و مهندس ديكور، فنحن ننطلق دائماً كمخرجين وكممثلين من كتابة المؤلف، فإذا كان المؤلف صلاح عبد الصبور فيجب أن نقف مشدوهين ونتأمل ونحاول أن نرتقى إلى هذا المستوى من التأمل والبحث الحقيقي عن الإبداع ليصل إلى تقديم هذا الفن، فالتعب في المسرح الشعري أكثر بكثير من التعب في المسرح العادي والتقليدي، فأنت مطالب في المسرح الشعري بأن تحافظ على البحر المكتوب منه الشعر، وتحاول أن تحافظ على الموسيقى الشعرية، ويجب أن تحافظ على الصور الجمالية في الأداء حتى تصل إلى المتلقى، فلابد أن يكون لديك الحس الذي يتصور المعنى الذاتي والخفى وراء الكلمات، ولابد أن تتمتع بروح التهكم الخفى بين الكلمات وبين ثنايا الحوار، ولابد أن تجد طريقة للتعبير الجسدي، فالمسرح الشعري ليس شعراً منطوقاً وإنما هو لغة واللغة تحتاج إلى لغة مجاورة حتى يصلا معاً ويحققا الصورة المُثلى للصورة الدرامية» .
واختتم قوقة كلمته بتوجيه الشكر لجميع العاملين بالمسرحية، معبراً عن سعادته بالحصول على جائزة احسن ممثل بالمهرجان القومي للمسرحي في دورته الـ 11، مؤكدًا على أن الرؤية التي وضعها المخرج محمود فؤاد جعلته يعرف كيف يخترق هذا الحصار الذي يضعه صلاح عبد الصبور حول الممثل عندما يقوم بتجسيد أحد شخصيات مسرحياته، وأن شخصية عامل التذاكر شخصية تلبى كافة طموحات أي ممثل فكانت رؤية المخرج المحفز الرئيسي للمغامرة والاجتهاد لخروج الشخصية بهذا الشكل وهذه الصورة الجمالية، وان صلاح عبد الصبور لم يأخذ حقه كمؤلف مبدع، وأنني كل يوم أكتشف جديد في النص حين عرضه» .
العرض المسرحى «مسافر ليل» إنتاج مسرح الهناجر، من إخراج : محمود فؤاد، بطولة الفنانين «علاء قوقة وجهاد إبو العنين وحمدى عباس»، إضاءة : أبو بكر الشريف، وتأليف : صلاح عبد الصبور.