فارس والمهرة..  والسقوط لأعلى

فارس والمهرة..  والسقوط لأعلى

العدد 565 صدر بتاريخ 25يونيو2018

منذ أن رأت مدام (دي ستال) أن الأدب صورة المجتمع الذي ينتمي إليه، وتأثر النقد الاجتماعي بفلسفة (هيجل) الذي اعتقد أن العالم بلغ في تطوره حد الكمال ماديا في منطقة من التناقض، وأن العالم في حالة صيرورة وتغير وتطور دائم، والتناقض هو المبدأ الدافع لكل تطور، وربط الأنواع الأدبية بالمجتمعات التي نشأت فيها، وتفرع من منهج النقد الاجتماعي النقد النفسي والآيديولوجي، فمن هذا المنطلق يتجسد لنا مفهوم «الأرض» كمكان حاوٍ للأفراد يرتفع في رمزيته ليصبح الوطن الذي يحتضن أبناءه ويموتون في سبيل الدفاع عنه، وهو ما يؤسس له عرض “فارس والمهرة” الذي كتبه الدكتور سيد الإمام وأخرجه أحمد الحناوي، وقدم ضمن مشاريع الدراسات العليا بالمعهد العالي للفنون المسرحية.
فقد تكون أولى عتباتنا لعرض «فارس والمهرة» هي عنوان العرض، ويزيد عليه ما زاده د. سيد الإمام كاتب النص؛ عندما نوه عن استلهامه فكرته من نص سترندبرج «الآنسة جوليا»، حيث ينتمي النص موضوع الاستلهام للمذهب الطبيعي، بينما تحول نص سيد الإمام من الطبيعية إلى الواقعية الاشتراكية التي تتماس معها في كثير من الملامح، لكنها تختلف في أخرى، فإن الواقعية الاشتراكية تولي أهمية كبرى لرسم وإبراز ما يسمى (النموذج البطولي) في إطار التلاحم النضالي مع الجماهير والتصميم الإرادي والوعي والتضحية، وهو ما يبرُز في شخصية (فارس) في عرض «فارس والمهرة»، وهذا ما جعلها تختلف عن شخصية (جان) لدى سترندبرج، فـ(جان) كان خادما يستخدم أوضع الطرق للوصول لأهدافه، أما (فارس) ففلاح يقود ثورة إصلاح. رغم ابتعاده عن المثالية في تحقيق تلك الأهداف؛ فإنه استخدم أهدافا مشروعة في عرف الحرب، يريد بها استعادة حق مستلب؛ هو أرض أسلافه.
لم يحدد العرض زمنًا محددًا تجري فيه الأحداث، ولم يشر أيضا إلى مكان جغرافي لها، ولكن السياق العام للمتن الحكائي للعرض قد يلقي لنا خيطًا ضمنيًا أن الأحداث تبتعد عنا بما لا يقل عن خمسين عامًا أو يزيد. والبيئة التي تجري فيها الأحداث هي بيئة ريفية، حيث يشير العرض بكلمة عزبة إلى مكان الأحداث، وهذه الإشارة تحيلينا مباشرة وبشكل تأسيسي إلى مجموعة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الحاكمة لهذا المكان، فهي عزبة يملكها (السيد الكبير) وابنته وريثته الوحيدة (مهرة)، ويعمل لديهم (فارس) سائسًا للخيل؛ وارثًا مهنته عن أبيه، وابنة خالته (راضية) التي تحمل صفات كثيرة من اسمها، فهى تحبه وتريد الزواج منه، وتعمل خادمة في قصر مهرة وأبيها أو البيت الكبير.
وتجري الأحداث أثناء حلول موعد سداد دين على السيد الكبير مالك العزبة، لمجموعة من الدائنين. وتجري عملية التفاوض بين الدائنين وابنته مهرة، بينما يتحرك فارس ومعه مجموعة من الفلاحين وعمال المعصرة والمحلج، ويعدون خطة للسيطرة على العزبة، بالضغط على مالكها كي يبيعهم إياها، ويلغي الرهن، ويمثل جماعة الفلاحين على المسرح شخصية (الرجل الملثم)، الذي يلتقي بفارس في مشهد فحواه أن هناك اجتماعات سرية تدور في العزبة بين فارس والفلاحين، وأن هناك شخصية تدعى (الشيخ عمران) - لا تظهر على المسرح - تدرك تاريخ العزبة جيدا، وما حل بها من أحداث منذ بداية تاريخها، وأن الفلاحين على استعداد للقيام بحركة مضادة لفرض سطوتهم على العزبة رغما من صاحبها.
إن صياغة الأحداث على تلك الشاكلة يربط فكرة العرض بالأرض عند شخصية فارس، الأمر الذي جعل هذه الشخصية بعيدة كل البعد عن نص سترندبرج، فـ(جان) في «الآنسة جوليا» يبحث عن النقود، وهي كومة أوراق في خزينة، بينما يبحث (فارس) عن ميراث مادي له دلالاته التاريخية، ويشكل أكبر دوائر الوجود بالنسبة للشخصيات التي تعيش فوقه. فدائرة الوجود تلك تحمل أحد أهم مفردات المكان، وهي اللغة، وأيضا الميراث بكل عناصره المادية والمعنوية، مبتعدًا في «فارس والمهرة» عن التصوير الفوتوغرافي للواقع الطبيعي.
الفخ الحقيقي الذي وقع فيه المخرج وهو يتعامل مع نص سيد الإمام هو محاولته المستمرة الارتفاع بالأحداث إلى مستويات أعلى من المحلية الذي يطرحها النص حتى يتماس مع الفكرة العالمية لتكون صالحة للتقديم في أي زمان ومكان إلا أن محاولات الارتفاع تلك لم تكن موفقة إلى حد كبير لأنها أسقطته في فخ التناقضات على مستوى تكامل عناصر الصورة البصرية والسمعية؛ فنجد على سبيل المثال النتاقض الذي ظهر جليا في موسيقى العرض التي تنوعت ما بين استخدام اللون الغربي مع اللون الشرقي وخصوصا في مشهد الغواية التي تقوم بها مهرة لفارس فنجد حضورا طاغيا للعود في هذا المشهد رغم تجريد الملابس إلى حد كبير حيث يلبس فارس ملابس لا تعبر عن خصوصية بيئة معينة بينما كان اللون الأحمر هو الذي شكل ملابس مهرة وهو ما أظهرها في صورة فجة خصوصا مع الاستخدام المتعمد لإضاءة حمراء في مشهد الغواية مما جعل الصورة فائقة الاحمرار تؤذي العين وتميع الشخصية أكثر مما تبرزها وتصوغ حركاتها.
من اللافت للنظر أيضا في تصميم الديكور الذي جاء لمكان ثابت وهو غرفة نوم فارس وهو أيضا اسطبل الخيول الذي يعمل به فارس، حيث نجد أماكن مخصصة لمبيت الخيول ويقبع في مستوى أعلى منها عن مستوى الخشبة صفر بارتفاع كبير كومات من القش والتبن وسرير فارس الذي يحتل أعلى منتصف المسرح في العمق، حيث تجرى عليه أحداث الغواية ما بين فارس ومهرة وهو ما يستدعي تساؤلا مهما حول جدوى وضع السرير في الأعلى لأنه يتناقض بالضرورة مع فعل السقوط الذي يحدث لمهرة باعتبارها من طبقة أرستقراطية عليا في مقابل طبقة أدنى بكثير وهي فئة الخدم التي تبني مجد الطبقة الأرستقراطية فقط، وقد كان من باب أولى أن تحدث الغواية والوقيعة في أحد اسطبلات الخيل الكائنة أسفل السرير، لا في أعلى مكان على خشبة المسرح حتى يتجسد لنا فعل السقوط لأسفل وليس لأعلى وبهذا يتسق الحدث مع الفعل الدرامي ويأتي مبررا له، ففي نهاية المطاف تقتل مهرة فارس بعد أن استغل هذا الأمر ليساوم أباها على العزبة، الأمر الذي يسقط الأب بعده ميتا، فتقرر مهرة الانتقام لأبيها، ولهذا السقوط التي تردت فيه دون أي منفعة، فقد مزج المخرج في هذه اللحظة ما بين السينما في المسرح - عن طريق استخدام الداتا شو - في إظهار ابتزاز فارس للأب وإرغامه على توقيع وثائق التنازل عن الأرض دون إظهار لشخصية الأب أو حتى معرفة ملامحها، وذلك ما أجل الإيهام بأن هذه الشخصية التي كانت يوما ما تملك زمام الأمور، قد أصبحت شبحية الملامح لا تقوى على اتخاذ القرار، وهو ما كان موفقا بشكل كبير في توظيفها دراميا على مستوى الحدث.
جاء عنصر التمثيل في العرض أيضا بصورة متهافته إلى حد كبير، فظهر جليا عدم تمكن الممثلين من حفظ أدوارهم بشكل جيد حيث جاء حوارهم به الكثير من التعلثم وهو ما أعاق الممثلين عن قيادة زمام الشخصية وخصوصا فيما يخص شخصيتي مهرة وفارس اللذين جسد دوريهما كل من تغريد عبد الرحمن ومحمد يوسف، ولم يفلت من هذا الأمر سوى بيرين شامخ التي لعبت شخصية راضية حيث ساعدتها ملامحها الرقيقة على تجسيد الخادمة المقهورة والمنسحقة أمام كل ما يحدث لها دون حتى محاولة مقاومته، وهي في ذلك لا تحمل إلا الحب في قلبها لكل الناس بعكس شخصية فارس المتمردة على أوضاعها على الدوام والساعية بكل قوة لمحاولات إعادة الحق لأصحابه وتغيير منظومة العلاقة بين السادة والعبيد.
العرض إذن يطرح في سياقه صراعا طبقيا آيديولوجيا بين فئتين متناقضتين ومتصارعتين على الدوام إحداهما هي الطبقة الأرستقراطية بكل فسادها واستشرائها في المجتمع أمام فئات الخدم والعمال وأشباههم الذين يبنون مجد هذه الطبقة دون حتى محاولات الانقلاب عليها أو حتى تقنين أوضاعهم، وهو ما يستدعي توريط المشاهدين في الانحياز إلى الجانب المظلوم والمهمش على الدوام حتى وإن كانت طرق نيل حقه تذهب أحيانا إلى إهمال جوانب أخلاقية في سبيل نيل الحرية وتحرير الأرض.
 


باسم عادل شعبان