أبو العجب وحكايات من القلب

أبو العجب وحكايات من القلب

العدد 555 صدر بتاريخ 16أبريل2018

تعوا... وعوا... شوفوا واسمعوا
أجا أبو العجب يا ولاد
أجا أبو العجب يا بنات
الحاضر يعلم الغايب
جاي ومعي صندوقي
والشاطر إللي يعرف ما فيه
أنا ياما لفيت بلاد وبلاد
وطلعت جبال ونزلت بحار
لا بهدا ليل ولا نهار... بحكي حكايات وقصص وروايات
أنا بحكي حكايات وقصص وروايات
من الماضي والحاضر وعن إللي آت
مقدمة بسيطة مشبعة بالجمال والرقة يسردها الرجل بكل أشكال التنعيم والترقيق يخلط فيها الغناء بالحكي الموجع بلا أي لحظة استجداء أو حتى زخرفة لا طائل من ورائها، فقط تخرج المعاني والأفكار من صوت الرجل وحركاته البسيطة فتصل لقلبك تقتحمه بحب وألفة وذكاء، ليس مهما في هذه الحالة إن كان متاحا له أن يقدم حكاياته في ساحة مفتوحة أو مسرح علبة إيطالي، فاللعبة الدرامية تتعدى الأشكال وتعمد لمخاطبة القلوب والعقول مباشرة من خلال وعي لا يهمه بشكل كبير أي المساحات متاحة، هو فقط مشغول بجمهوره كيف يصل إليه وكيف يؤثر فيه، كيف يقدم الحكاية، وكيف يطورها من خلال لقاء حيوي مع الجمهور، وصندوق العجب في هذه الحالة موضوع على خشبة المسرح، ولا يتم اللجوء إليه إلا مع انتهاء الحكي المباشر، فهو جزء من كل يتعدى فكرة تلك الأعين المتلصصة التي يمكن من خلالها أن تلاحق الشخصيات وقصصهم الكثيرة المشبوكة بعضها مع البعض، فالحكواتي مدرك أن الزمن قد تعدى التقنية البسيطة، ولذلك تجده متمسكا بأوليات اللعبة الدرامية (ممثل في مقابل جمهور) ولا يحيد عنها حتى اللحظة الأخيرة، وهي مساألة مهمة للغاية في اتجاة كيف نقدم للمتلقي بطرق وآليات تطوير للحدث تناسب اللحظة الزمنية ولا تتعارض معها.
هكذا يبدأ عادة "عادل الترتير" الحكواتي الفلسطيني المعروف، حكاياته التي تخلط العالم الواقعي بالأسطوري، فالرجل يعتمد بداهة على صوت يأتي من الماضي ليشكل الحاضر، وملابس تشبه تماما صندوقه القديم ذا الأعين الذي تم تطويره مؤخرا كي يتماشى مع متطلبات عصر الصورة من خلال ميكانيزم بسيط يستطيع من خلاله أن يحرك ذراعين عن يمين ويسار الصندوق، فتلف الصور التي وضعت داخل شريط فوتوغرافي بسيط وتدخلك للعالم القديم الجديد.
الحكاية الإطار قد تتخذ من حكاية الصندوق وكيف تشكل موضوعا فرعيا بعد حكاية طويلة يرويها "عادل الترتير"، يمكن أن تكون حكايته الشخصية مع أسرته التي اضطرت للتهجير بعد حرب 48، والحكاية وإن كانت تبدأ من التهجير إلا أنها لا تتوقف بأي حال عند ذلك الموقف، وإنما تبحر في القضايا الفلسطينية حتى اللحظة الراهنة متخذة من شخصية الحكواتي محورا للحدث؛ إذ تصحبه الحكاية من بلد لبلد ومن تعقيد لتعقيد ومن حكاية عادية لحكاية عبثية أو حتى سريالية مع العدو الإسرائيلي، ولكن الرجل ونظرا لجمال أدائه وقوة صوته وتنوع دراماته يغوص في قلب الحكايات المقاومة، ويخلط فيما بينها، فتصل ببساطتها وتعقداتها لكل من حالفه الحظ وحضر العرض، حكايات تقاوم الاحتلال على طريقتها الخاصة التي تخلط الهزل بالجد والهم الشخصي بالهم العام، فتحيطك بموضوعات متوقعة وغير متوقعة عن الأسرة التي تفككت أوصالها، وكيف مات الأب حزنا على بلده التي ضاعت من بين يديه وعن الابن الذي يقاوم قدر المستطاع عن الأم والأخ والأخت الذين ساحوا في البلاد العربية كلاجئين يحلمون بالوطن الأم يحلمون باليوم الذي يتخلصون فيه من سطوة العدو وجبروته الذي يصل لحد الجنون، ورغم قلة حيلة الحكواتي فإن مقاومته شرسة ولا تعتمد منهجا واحدا في الوصول لقلب الوطن وسرد حكاياته الآسرة، فقط ينتظر كل لحظة وكل موقف كي يعيد على مشاهديه ويغزل لهم من جديد موضوعاته الموغلة في البساطة والكوميديا، لا يتوسل إلا بالحد الأول من جماليات التقديم؛ حيث الزي المزكش ذو الألوان الزاهية، والحذاء الكبير الذي يناسب التركيبة الفانتازية، وغطاء الرأس الملون، ولا شيء آخر غير ذلك الصندوق البسيط أولي الصنع الذي تم وضعه على خشبة المسرح الفارغة.
اللعبة الدرامية التي يتكئ عليها الرجل جد بسيطة، ولكنه يمتلك من الحكمة ما يعقد مستوياتها كي تبقى صالحة لكل أفراد الأسرة، يمكن أن تمر للطفل واليافع فتعطي انطباعات متفاوتة حسب ثقافة ووعي المتلقي، والجميل أن "عادل الترتير" حكواتي مدرك تماما لتفاوت مستويات الجمهور، ويعرف كيف يطور حدثه الدرامي بالمنطق الذي لا يمكن معه لأي متلقٍ أن يتوقع مصير الحكاية أو منعطفاتها المتشعبة، فقط عليك أن تترك نفسك مع الحكاية وتنتبه لمصير ذلك الحكاء الذكي الذي يضمن الموضوعات السياسية ببساطة متناهية، فيعيد القضايا لوجودها الأول وأسئلتها البديهية ووجعها الأولي، والفكرة الفلسفية المصاحبة تعتمد تلك المراوغة الجمالية الشيقة في تشكيل مستويات التلقي.
كنت قد شاهدت العرض ضمن مهرجان فرحات يامون، الدورة السابعة والعشرين، التي أقيمت في مدينة جربة التونسية، تلك المدينة التي تحب المسرح وتتفاعل معه بكل الاشكال للحد الذي يعطيك انطباعا طيبا عن هؤلاء الذين جذبهم الحدث وتواصلوا معه بحب ودأب، وقد سعت إدارة المهرجان لإقامة مسابقة بسيطة بين الأطفال عن بعض ملامح حكاية "عادل الترتير" كي تقيس مدى استيعاب هؤلاء للحكاية المقدمة وكيفيات تطويرها، وهي مسألة تحفز الأطقال على الانتباة والتركيز الشديد وتعطيهم حافزا بسيطا ولكنه حيوي.
هؤلاء الطلاب وأسرهم عشقوا أهمية الحكاية وعلموا الدور الثقافي والاجتماعي للمسرح فسعوا إليه بكثافة وعشق، قدم العرض في الفترة الصباحية وهي الفترة المخصصة لعروض الأطفال، وقد امتلأ المسرح عن آخره بجميع المستويات العمرية جاءوا خصيصا كي يتابعوا "عادل الترتير" وطريقته الشيقة في سرد الحكاية.
في النهاية، لا يسعني إلا أن أشد على أيدي "عادل الترتير" الذي يرحل عبر المدن والقرى موزعا ابتسامته الجميلة وقدرته الهائلة على الإمساك بالمتلقي حتى اللحظة الأخيرة من العرض الشعبي الذي يقاوم بكل شراسة ويدافع عن حق المواطن البسيط في الوطن المغتصب.


أحمـد خميس