المكان المسرحي والثقافة الوسائطية

 المكان المسرحي والثقافة الوسائطية

العدد 554 صدر بتاريخ 9أبريل2018

في هذه الدراسة سوف أبرهن أن مفهوم المكان المسرحي المتغير وسائلي في تطوير مفهوم دراما ما بعد الحداثة، وسوف أقدم أمثلة لوصف هذا المفهوم الجديد وأناقش وظائفها في مسرحيات دراما ما بعد الحداثة. وكما سنرى، يتوقف مفهوم المكان من عدة نواح على تشكيل تأثير ثقافة ما بعد الحداثة الوسائطية. فالدراما التجريبية الحالية مهتمة أن يصبح الفراغ واضحا فعلا عندما نتأمل المكان الذي تحدث فيه المسرحيات غالبا. وقد كانت دراما ما بعد الحداثة في الستينات والسبعينات تقدم غالبا في أماكن مسرحية غير معتادة، تتراوح بين الشرفات الخاصة، مرورا بالمقاهي والكنائس ونواصي الشوارع. على الرغم من أن المنافع الاقتصادية الأكبر غالبا هي التي حددت اختيار مثل هذه المواقع، وكان ذلك معلوما أيضا لاعتبارات آيديولوجية. فالمسرح في مكانه عموما يمثل محاولة للوصول إلى الجمهور، ولكي يضفي جوا جديدا على المكان الذي يحدث فيه الأداء المسرحي، ويعزو صورا جديدة إلى الأماكن اليومية الغريبة والبعيدة عن الاستخدام كخشبة مسرح – تنتقل الأفكار من خلال فن الأداء ومسرح الوقائع Happening. فمكان المسرح يرتب من جديد في إطار مفاهيمي، ويتحول هو نفسه إلى فكرة مهمة، وهي حقيقة تعزز فيها الضغط الدرامي الشارح metadramatic في دراما ما بعد الحداثة. وبالإضافة إلى اهتمام الدراما الشارحة المركز على مكان خشبة المسرح، فإن الاستخدام المتنوع للوسائط المعاصرة قد غير مفهوم خشبة مسرح ما بعد الحداثة إلى حد بعيد. كما يمكن أن يتضح في الممارسات المعاصرة، فقد غيرت مجموعة من التقنيات الأدوات من التلفزيون والفيديو والسينما المكان المسرحي وحدوده لكي تمثل الثقافة الوسائطية بشكل شامل في دراما ما بعد الحداثة وتطرح إشكالياتها في دراما ما بعد الحداثة.
يتعلق الكلام عن المكان دائما بالجدال حول الزمن، وهو أمر ليس مقصورا، رغم ذلك، على عصر نزعة ما بعد الحداثة وحده. ففي مقاله الجوهري «الشكل المكاني في الأدب الحديث Spatial form in modern literature»، يناقش (جوزيف فرانك Josep Frank) مغزى ووظيفة المكان والزمان في ما يتعلق بالأدب الحداثي؛ إذ يركز على الشعر الحديث و(فلوبير) و(جويس) و(بروست) و(دونا بارنز)، قبل أن يهتم بتحليل المكان في الفنون البصرية، التي يرى أنها النموذج المبشر باستخدام النموذج المكاني في الأدب. بينما يؤكد (فرانك) أن الأدب الحديث ولا سيما الذي قدمه (ت. س. إليوت T.S. Eliot) و(إيزرا باوند Ezra Pound) و(مارسيل بروست Marcel Proust) و(جيمس جويس James Joyce) يتحرك في اتجاه الشكل المكاني (3). وقد يزعم عدد من النقاد أن الكتابة بعد الحداثية تضم النزعة المكانية، وأن المكان هو الأكثر تعلقا بجدول الأعمال بعد الحداثي من تعلقه بجدول الأعمال الحداثي. ويمكنني أن أبرهن أن الفرق الحاسم بين الحداثة وما بعد الحداثة، في ما يتعلق بالمكان، ذلك أن الحيز المكاني في الأدب الحديث هو الأساس النصي بدرجة كبيرة، بينما يبتكر كتاب دراما ما بعد الحداثة مجموعة كبيرة من الأشكال الجديدة المرتبطة بالوسائط للتعبير غالبا عن التوجه المكاني في مسرح ما بعد الحداثة الذي يتميز بالتحولات. وفي هذا السياق، تخضع الأمثلة المكانية للآنية والتزامن، بينما يرتبط الزمن بالخطية والتتابع والتقدم إلى الأمام والأمثلة السببية. ويميز (ويليام سبانوز William Spanos) على سبيل المثال الجهد المبذول في صيغ الكتابة بعد الحداثية لكي تهرب من الزمنية وتحاول فيما يسميه “تحديد نطاق حيز الزمن” (4). وبالإشارة إلى مجموعة متنوعة من الكتاب والنقاد والفنانين تضم (بارث Barthes، وآلان روب جرييه Rob - Grillet، وماكلوهان Macluhan، وكابرو Kaprow، وأولدينبرج Oldenburg، وفيدلر Fiddler)، يقرر أن:
 «صيغ الإبداع والتأملات النقدية هذه تشهد على تنوع مشهد ما بعد الحداثة، ولكن هذه النزعة الجماعية تميل أيضا إلى إخفاء حقيقة أنهم يتوجهون بهذا الميل إلى ما وراء التاريخ أو بالأحرى يستلهمون تحديد نطاق حيز الزمن».
يؤيد المتخصصون في المسرح ذلك الفهم للمكان باعتباره العنصر الحاكم في المسرح التجريبي عموما وفي دراما ما بعد الحداثة خصوصا. ففي مقابلة مع (ليز لوكمت Liz Lecompt) من فرقة ووستر جروب مثلا، أشارت إلى أن المكان في مسرحها بعد الحداثي يلغي الزمن، وأن المبدأ البنيوي السائد في أعمالها هو المكان بشكل حاسم وليس الزمن.
ويؤكد عدد من النماذج والمفاهيم في النظرية النقدية علي التوجه المكاني في الكتابة بعد الحداثية. ولعل فكرة “الجذر الأفقي (7) Rhizome” عند (جيل ديليوزGilles Deleuze، وفيليكس جواتاريFelix Guattari) هي أكثر من مجرد إشارة إلى بنية السطح المكانية في ما بعد الحداثة، وكذلك مفهوم ترادف ما بعد الحداثة عند (كاثرين هايلز Katherine Hayles). إذ تتصدر هذه النماذج والنظريات سطح بنية الكتابة في ما بعد الحداثة، وتحدد هدفها بأنه انقلاب العلاقات وتحولها التسلسلي واستبدالها بصيغ الآنية.
وبمصاحبة المكان المسرحي، تندرج وظيفة المشهد في الدراما أيضا تحت التغيرات في دراما ما بعد الحداثة. فلم يعد يقدم المشهد حبكة، بل يفهم باعتباره منظرا طبيعيا وصورة مكانية. فقد تبنى المسرح الولع بالمكان من الفنون البصرية. فمسرح (روبرت ويلسون)، حين يرد على أذهاننا كمثال، يسمى غالبا «مسرح الصور Theater of Images». فمناظره السمعية الطبيعية – التي تذكرنا بقوة الممارسات السينمائية – مع توازي الصور ونماذج الكلام تهدم التسلسل. فلا تكاد تقدم الشخصيات أو النماذج المسطحة أي إشارة؛ إذ يعتمد كل شيء على القدرات التخيلية للمتلقي لكي يكوّن كولاج أو مونتاج للمنظر المسرحي. ويستطيع من خلال عمليات التداعي أن يفسر ما يقدم على خشبة المسرح. وفي ما يتعلق بمفهوم الفكرة في مسرحية بعينها، فإن ميل الصور الأسطورية أو شبه الأسطورية ليست مهمة بشكل مؤكد في تقديم صراع داخلي لشخصية بعينها، أو تفاعل درامي بين الشخصيات، ناهيك بالمشكلات الاجتماعية والسياسية عموما. وبالمثل، يقدم مسرح ما بعد الحداثة عموما المنظر الطبيعي ويحوله إلى ما يسمى المسرح البيئي. وباستعارتها من الفنون البصرية، يظل تأكيد دراما ما بعد الحداثة مؤقتا، ومعدا من أجل التجربة المادية غالبا. فمن عدة اعتبارات، يميز مفهوم المسرح هذا الحركة بعيدا عن شكل الدراما التي تعتمد بكثافة على الحبكة والشخصية والحدث ونقل رسالة تعليمية أخلاقية. وبالمقارنة تبرز الصور المكانية والزمنية للدراما على حساب الحدث أو الحبكة المترابطة بشكل سببي. فنقص أدوات خشبة المسرح التي تخلق الجو والحركة البطيئة في اللوحة الحية هما من بين السمات السائدة في هذا الشكل الجديد من المسرح؛ إذ تصبح لحظة الكلام القليلة الأهمية كتعبير يملك خصائص الشخصية والقصة، هي صوت لكلمة تتفاعل مع الفراغ.
علاوة على ذلك، تهدف دراما ما بعد الحداثة إلى تفكيك الزمن باعتباره استمرارية وحركة خطية متقدمة، فالزمن يقدّم بشكل سائد باعتباره متقطعا ونسبيا. والنتيجة هي تقديم أشكال جديدة لم تعد تقوم على مفاهيم تقدم الزمن، فجماليات الزمن في مسرح ما بعد الحداثة تتأسس على جهد تقديم الزمن ذاته (كما هو في الواقع) وتعرضه وتثير رد فعل درامي شارح في صور الزمن. من أجل هذه الغاية يتم مط الزمن وإبطائه أحيانا، كما يحدث في الحركة في السينما، وتتكرر أطر الزمن من أجل نفس التأثير. وتجذب مثل هذه التكرارات الانتباه إلى الفروق التفصيلية داخل هذه التكرارات، فمثلا تكرر «سوزان لوري باركس» إيماءات وعبارات معينة إلى حد الغثيان حتى يختفي معناها. وهذه الحركة الدرامية الشارحة يتم أداؤها بغض النظر عن مفهوم حركة القطار التي يستخدم فيها الزمن والمكان بما هما كذلك. وهذا أيضا يستتبع تفكيكا للذات التي لم تعد تحدد معنى مترابطا للزمن. وباتباع تقنية جماليات الفيديو كليب (لقطات الفيديو القصيرة والسريعة) والسرعة والآنية والكولاج المستخدمين إلى درجة افتقاد تقمص الحقائق بكل معاني استنفاد الآنية. وقد يقال إن دراما ما بعد الحداثة تعرض الصراع بين موقف معين ولحظة الحياة والأسطح الإلكترونية الافتراضية في بيئة وسائطية كلية.
ولأننا نعيش فيما يسميه (فيليب أوسلاندر Philip Auslander) الثقافة الوسائطية، فإن الوسائط مغروسة بشكل نهائي في الحياة اليومية، بمعنى أنه لم يعد يبدو ممكنا أن نعرف الفرق بين التجربة الوسائطية والتجربة الحية. وبنفس النبرة، تتحول خشبة مسرح ما بعد الحداثة إلى فراغ وسائطي، ولا يمكن تقدير مغزى وتأثير تقنيات الوسائط على الثقافة المعاصرة عموما، وعلى المسرح خصوصا. فقد أعطت شكلا للكتابة الدرامية والأداء المعاصرين، ولا سيما في ما يتعلق بمفاهيم الذات والهوية والصور الشكلية الأخرى في الدراما. ويمكننا بالتأكيد أن نعترض على أن صور الوسائط قد تركت أثرها على الفن والأدب. ولكن ما تغير بشكل درامي بداية من أواخر الستينات والسبعينات وحتى اليوم هو كلية الوجود وانتشار تقنيات الوسائط الجديدة بتعبيراتها المتعددة في الأدب والحياة. ولذلك فإن الخطر المزعوم من المبالغة في تقويم مغزى الوسائط ربما لا يكون كبيرا مثل الميل إلى التنبؤ بأن الجديد هو تنويعات على القديم فقط؛ إذ يستخدم كتاب دراما ما بعد الحداثة الوسائط المعاصرة – ومن أبرزها التلفزيون والسينما والفيديو – لكي ينقلوا خصائصها إلى لغة المسرح. وهذا السعي التناصي textual غالبا يتحدى الخطوط الفاصلة بين مختلف أشكال الفن ويجعل العلاقة بين البيئة الوسائطية ومعنى الذاتية المتغير والذات في ما بعد الحداثة علاقة درامية.
ومع ذلك، لا يهم هنا التأثير والنفوذ الذي تمارسه الوسائط على الدراما أو المجتمع عموما. فالأمر الأساسي هو كيف تغير الوسائط إطار التجربة وتؤسسها في ثقافة ما بعد الحداثة. وكما أشار (مارشال ماكلوهان Marsall Macluhan) مؤكدا في كتاباته أن الوسائط ليست مجرد وسائل لنقل التوسيط ونقل رسائل أو أفكار بعينها، ولكن الوسائط نفسها أصبحت شكلا في التجربة. فمن خلال الوظيفة المزدوجة، تنشئ الوسائط العالم الذي يُمارس ويفعّل باعتبارها وسيلة النقل التي يعاش من خلالها هذا العالم، فهذه الوسائط تعرّف تجربة الواقع في المجتمعات الغربية، بأنها الحضور الدائم الذي يعزو إليه الناقد (بول فيريليو Paul Virilio) هذه القوى المتضمنة التي تصل إلى الخلاصة التالية:
 “تتخذ غرابة وسائل الاتصال في المجتمع البرجوازي من التفرد الإلهي وسيلة نقل (لكي يكون كاذبا في كل مكان وكل وكل وقت) إذ يمكن أن يتحول كل منا إلى كائن رباني”.
فانتشار الصور الجماهيرية المولدة من خلال الوسائط مذهلة بالطبع. ويؤكد (جان بودريار Jean Baudrillard)، في رؤيته للوسائط الفاسدة التي تهيمن على أشكال الواقع، على اقتحام مجاز الوسائط ووسائل الاتصال للأماكن التي كانت خاصة ذات يوم، واخترقت اليوم بنظرة الوسائط الجشعة: فكل شيء واضح بالنسبة إلى نور المعلومات والاتصالات القاسية التي لا ترحم. ويتضح استنتاج نظرية الوسائط المنسوبة إلى (بودريار) في دراسته المبكرة “قداس للوسائط Requieme pour les media” عام 1972، التي حدد فيها الطبيعة أحادية الاتجاه لوسائل الاتصال باعتبارها السمة الأساسية للوسائط الجديدة: “يتكلم عن ذلك الشيء، وهو متأكد أنه لن يتمكن من الإجابة في أي مكان آخر”، والنتيجة هي المزيد من العزلة الاجتماعية للمتلقي، الذي ينفق الساعات وهو جالس خامل أمام جهاز التلفزيون دون أن يكون محفزا للانغماس في تبادلات ذات معنى، فقوة الوسائط تكمن بالضبط في هذه العزلة، وفي عدم الاضطرار إلى التعامل مع بيئته، أو في عدم تحديد شرط لهذا التبادلات الاتصالية.
ويمكن القول إنه لا ينبغي الترحيب بهاجس غزو صور الوسائط في حياتنا اليومية؛ إذ يمكن أن يرى أيضا باعتباره عملية تسريع وتكثيف، فصناعة وسائل الاتصال تشكل الوعي، ويمكنها أن تلطف الواقع وتستبدله بتمثيله الوسائطي. ومن منظور المنطق الاقتصادي، يقدم السوق تعبيرات ثقافية وتوجهات جديدة لكي يخلق أسواقا ومنافذ لبيع السلع والمنتجات. ولذلك، لم يعد من الممكن أن نعزل الصورة عن الحقيقة، أو الوسائط عن المجتمع، لأنهم متضافرون ومتغيرون دائما بشكل محير. وبالإشارة دائما إلى الصور الأخرى للوسائط - وليس الإشارة إلى الحقيقي - في حركة ذاتية الإشارة، تخلق الوسائط شبكة من الصور المترابطة، فما بعد الحداثة تحاكي بوضوح استراتيجيات من التلفزيون المعاصر الذي يكمن هجومه في إبداع شبكات ذاتية الإشارة إلى الصور. وفي ما يتعلق بهذه الميول، يشرح (أمبرتو إيكو) التلفزيون بشكل مفصل، ويؤسس تصنيفات التلفزيون القديم والجديد المتباينة: “السمة الأساسية للتلفزيون الجديد أنه يتكلم أقل عن العالم الخارجي، بينما يتكلم التلفزيون القديم عن العالم الخارجي أو يتظاهر بذلك، فالتلفزيون الجديد يتحدث عن نفسه وعن الصلات التي ينشئها مع جمهوره”.
يخلق التكرار والإشارة المرجعية إلى القصص والصور والشخصيات مجالا واسعا جديدا من المعلومات العامة التي تشكل الحياة المعاصرة وتغيرها. ومرة أخرى، نادرا ما تعد حقيقة غزو الصور الزائفة لحياتنا حقيقة جديدة، ولكن الجديد هو غزارتها وانتشارها، وتموجاتها وغموضها الذي يبدو غير مسبوق اليوم.
وفي هذا السياق، تجسد دراما ما بعد الحداثة الإيجاز وسرعة تغيير القناة وآليات الوسائط المعاصرة الأخرى. فالإصغاء إلى التلفزيون يعني الانتقال إلى الأمام وإلى الخلف بين مختلف التمثيلات والمحاكاة، وأمسيات التلفزيون التي تولد من الفتات الذي يتم تنميطه بعد بنائه بشكل عشوائي كولاج متعدد الطبقات. لذلك، لم تعد تمثيلات التلفزيون تحكي قصة متماسكة، بل تثير تدفقا لا نهائيا للصور على مر الزمن. ولوصف جماليات التلفزيون الجديدة، يستخدم (ريموند ويليامز Raymond Williams) مجاز «التدفق». وهو يضم النقل غير المنطقي لفتات نصي غير مترابط، فمثلا يدمج الإعلانات والبرامج مع بعض المواد الترفيهية في تجربة استهلاكية نشير إليها باعتبارها مشاهدة للتلفزيون. وقد استبدلت صيغة التلفزيون الجامدة بنموذج التدفق الذي يتميز بالحركة والتلاشي. وقد كانت هذه النقلة في جماليات التلفزيون حاسمة: فهناك نقلة ذات مغزى من مفهوم التتابع باعتباره إعدادا للبرامج، إلى مفهوم التتابع باعتباره تدفقا. ومع أن التدفق مخطط له على نحو ما، فهو غير محدد بشكل متعمد. والأسلوب المميز لمشاهدة التلفزيون أو سماع المذياع كاشف لهذا الميل: يشير إلى نشاط اعتيادي فضلا عن نشاط غامض. ويشير إليه الناس باعتباره تمضية للوقت وليس اهتماما محددا وخبرة، ويتم تذليل التصنيفات الثقافية التقليدية في استمرارية التدفق لأن الفنانين المتخصصين ينشغلون بمختلف الأوضاع ويدمجونها، في ما يتعلق بالتسلسل باعتباره شكلا تلفزيونيا مهما، يتحدث (إيكو) عن «مفهوم لانهائية النص»، وهو المفهوم الذي له تداعيات على مفهوم النصية الدرامية المتغير، فاستخدام تقنية الوسائط يتحول النص الدرامي إلى تلوّين متغير وغير مستقر يمكن تعريفه بقدرته التحولية، فتدفق الحدث المسرحي وزيادة سرعته وإبطاؤه ينزع البساط من تحت أقدام الحبكة. فالحبكة تستبدل ويحل محلها الوسيط نفسه. بمعنى آخر، يبطل الشكل والمضمون ويزعم لنفسه الأهمية الأساسية: تتشكل المجتمعات بطبيعة الوسائط التي يتواصل بها الناس أكثر من تواصلهم مع مضمون الاتصال. ورغم ذلك، فإن المجتمع المتشكل بواسطة الوسائط الموحدة يتحمل مخاطر سياسية لا حصر لها؛ إذ إن تجانس المجتمع عموما واختزال الرؤى الجماعية إلى رؤى موحدة هي النتائج الجاهزة في ظل هذه الظروف. فالاهتمام الواسع الانتشار في دراما ما بعد الحداثة هو ذلك المجتمع المعاصر الذي قد يتطور إلى مجتمع غير مثالي أو لا مبالي تنمحي فيه الفردية وتمتلك فيه الوسائط القوة لتخدير الأفراد وتحولهم إلى نماذج شارع ماديسون الممتثلة الشائعة في المجتمع الأمريكي. وتعبر كل مسرحيات (جان - كلود فان إيتالي) بعد الحداثية تقريبا عن هذه الرؤية غير المثالية.
تعد انعكاسات الثقافة الوسائطية الدقيقة علي المسرح الأمريكي المعاصر متنوعة ومرئية بشكل صارخ؛ إذ قدمت ثقافة الوسائط والتكنولوجيا لكتاب المسرح تشكيلة من الصيغ لعرض اهتمامات ما بعد الحداثة في مسرحهم، فقد وسطوا المرجعية الذاتية بشكل متزايد من خلال الوسائل التكنولوجية، ومقارنة الحضور البدني في المسرح وماديته بتمثيله الوسائطي عندما يتجاور الممثلون مع صورهم في الفيديو. فهناك وسائط معينة تقدمنا برؤية بعد دنيوية Metaworld حيث تكون العلاقة مع الجسم الفعلي هي التحرر من الجسم في مجال افتراضي. وأحيانا تستخدم تكنولوجيا الوسائط لجعل المرئي غير مرئي، والمسموع هو غير المسموع سابقا. وتسمح التكنولوجيا كذلك لمزيد من الوسائل أن تستفسر عن مفهوم التمثيل والتركيز المصاحب للحضور من خلال قدرتها على خلق حضور افتراضي.
وبهذه الطريقة تخلق دراما ما بعد الحداثة، بشكل متزايد، أسطحا مشتركة بين الإنسان والآلة، فالمجال الافتراضي غالبا يستبعد الجسم المادي ويهتم بالظهور الوسائطي الافتراضي (غير المادي). وتعرض تجليات فنون الفيديو مفاهيم واقع مختلط يكون فيه الفعل الإنساني الحي هو مكون العمل الفني، ولكنه في نفس الوقت، لا يقدمه في ماديته بل في صورته على الشاشة. وفي نفس السياق، يغير الصوت المسجل علي الشريط في المسرح مفهوم المكان المسرحي لأنه لا يمكن تحديده. ولا يقدم التوسع الافتراضي للمكان فراغات جديدة فقط، أو مفهوم جديد للمكانية التي تحتاج مختلف العمليات التخيلية، بل يميز أيضا المواجهة مع حقيقة أن ثقافة ما بعد الحداثة تستمد، بشكل عام، من التوسع في الوعي التكنولوجي. وبذلك، يتحدد انشغال دراما ما بعد الحداثة في العقل وتذبذب التكنولوجيا في الثقافة المعاصرة. ومع اقتحام الشاشات والفيديو والتلفزيون.. إلخ للمسرح يبدو أن الجسم الفعلي للمؤدي اختفى نتيجة لاختزاله إلى مجرد ظهور سطحي. وبهذا يصبح المفهوم الدرامي للمكان في ما بعد الحداثة، والتحديد الدقيق لمنشأ الصوت والفكر والمصداقية بلا جدوى، فالصور والتشوهات الناتجة تقنيا تحول الشخصية الدرامية إلى نموذج شبحي متحول. وقد عرف (هربرت بلو) هذه النزعة الشبحية بأنها فكرة الأداء المعني concerned performance بالظهور والاختفاء ومتابعة الأثر الذي هو أصل الذاكرة التي يظهر من خلالها، كما هو الحال في النظرية المنسوبة إلى (دريدا). وهذه الأشباح هي محاكاة، يمكنها طبقا لتصنيفات (بودريار) أن تنسب إلى المحاكاة من الدرجة الثالثة، وتحديدا، محاكاة القيمة التفاضلية للعلامة. وهذا هو نظام الوسائط وهي تشكل الشفرة وتسيطر عليها. وفي دراسته “أسبقية الصور The Precession of Simulacra” عام 1981، يحدد (بودريار) أربع مراحل في تحول الصورة، التتويج المبالغ فيه، مثل خشبة المسرح الذي لا تكون فيه الصورة غير صورة زائفة وليس لها علاقة بأي حقيقة. وطبقا لـ(بودريار) لا يتضمن الواقع المبالغ فيه أي مفهوم للأصل غير محاكاته المعاد تقديمها. والنتيجة في إطار أكثر من بسيط هي غموض نموذجي بحيث يستحيل تحديد المجال الحقيقي للواقع المبالغ فيه. وهي المشكلة التي تتصدر المقدمة في كثير من النقد الدرامي، غالبا في شكل مفهوم منافس للواقع والإيهام في المسرح والصراع من أجل تصديق أن خشبة المسرح – على نحو محاكاتي - تمثل العالم.
ورغم ذلك، لا يجب أن نخلط محاكاة ما بعد الحداثة بالمفهوم الشائع للمحاكاة، رغم أنهما على خلفية مشتركة. وكما يبرهن الناقد الألماني (دايتمار كامبر Dietmar Kamper)، يختلف المفهومان بشكل حاسم، ويؤكد أن المحاكاة “تعمل بالحركة الذاتية، فهي منتظمة من الناحية الفنية وتنتمي إلى اللاوعي الذي يطلق عليه إجمالا ثقافة”. وبالمقارنة تنتمي المحاكاة إلى الفن الذي يميز مماثله، والخيال الذي يميز الخيال والوهم الذي ينظم الوهم. إذن، هدف المحاكاة هو خلق هوية كاملة للصورة والحقيقة، بينما يستعيد التمثيل الفرق المميز بين الاثنين. فالوسائط، في هذا السياق، أضافت تقنيات الوسائط المزيد من الوسائط لتحقيق المحاكاة. وبمجرد أن تستبدل الأجسام الفعلية بالصور المقدمة بشكل تكنولوجي أو بالآلات البديلة، يبرهن (كامبر) بقوله «سوف يتوقف التمثيل عن الوجود وسوف تستوعبه المحاكاة: بقدر ما يتم استبدال الأجسام بالآلات لا يوجد التمثيل، فالتمثيل محاكاة».
تحول الأساليب وثيقة الصلة التي تتبناها خشبة مسرح ما بعد الحداثة هي هجين يغطي ذوبان أو امتزاج الوسائط، علاوة على تجاور تجلياتها المتنوعة (26)؛ إذ يعكس الاستخدام التناصي للوسائط في دراما ما بعد الحداثة نماذج مقترحة ومتطورة من خلال ما يسمى الفن بين الوسائطي في الستينات، فقد أدمج الفنانون بين الوسائطيين، مثل المؤلف الموسيقي والناشط السياسي والمخرج السينمائي والمنظر (ديك هيجنز Dick Higgins)، مختلف أشكال التعبير الثقافي في أعمالهم، وصاغوا مصطلح «بين الوسائط» بسبب جوهر الهجين الناتج. وقد استخدم (هيجنز) مسرح الوقائع Happening لكي يوضح مفهوم “بين الوسائط”:
 “لذلك تطور مسرح الوقائع باعتباره وسيطا مشتركا ومنطقة غير محددة بين الكولاج والموسيقي والموسيقى. فهو ليس محكوما بالقواعد: كل عمل يحدد وسيطه وشكله وفق حاجته، وهذا المفهوم يفهم بشكل أفضل بما ليس هو كذلك فضلا عن ما هو كذلك”.
ويهتم فنانو الوسائط المشتركة علاوة على كتاب دراما ما بعد الحداثة بوضوح بالسطح المشترك بين وجود الجسم/ الإنساني والوسيط/ الإله. لذلك استنكروا أن يكون الوسيط والتكنولوجيا غريبين ومضادين للإنسان ومضادين للفن، وأنهما يمنعان الفن الحقيقي. وهما، رغم ذلك، قد أعادا تقويم الإمكانيات التي تقدمها مختلف أشكال تعبير الوسائط للإبداع الفني الجديد. وبالنسبة للمسرح، فإن هذا يعني أن إمكانيات الوسائط في نقل فنون الأداء تفهم كما ينبغي وتوضع في الصدارة بشكل مادي داخل تمثيلات الجسم البشري على خشبة المسرح باعتبارها شيئا بنفس معنى الكرسي أو أي شيء آخر. فاستراتيجية ازدواج الجسم على خشبة باعتبارها صورته السينمائية أو استخدام الجسم كسطح عاكس لصورة إلكترونية هو أحد أمثلة الآنية المكانية وإظهار الذات الممزقة في دراما ما بعد الحداثة. والجسم المادي بهذا المعنى يتلاشى على الشاشة. وكما سنرى، يهتم كتاب ما بعد الحداثة بمفهوم الحركات المحفزة تقنيا في الفراغ وامتداده كنتيجة محتملة للتكنولوجيا الجديدة.
وقد أصبحت السينما، إلى حد كبير، نموذجا لدراما ما بعد الحداثة في هذا السياق. فالتقسيم السينمائي والإبعاد هما أمران أكثر من مميزين بالمقارنة إلى نقيضهما المسرحي. فأداء الممثلين أكثر فورية مثلا بالمقارنة إلى أدائهم في السينما؛ إذ يؤدي الممثل في الدراما أمام المشاهدين مباشرة، بينما لا توجد مواجهة بدنية بين الممثلين والمشاهدين في السينما. فهما ويتنفسان نفس الهواء ولا يشتركان في نفس بيئة التجربة التي تجعل من المستحيل على الممثل في السينما أن يتفاعل مع المشاهدين؛ بمعنى أن السينما تجسد نموذج اتصال أحادي الجانب، بالإضافة إلى أنه يتم تقسيم أداء الممثل إلى أجزاء لأنه ينقسم إلى لقطات غير مترابطة. وقد تزيد الحيل والخدع السينمائية، مثل التأجيل والمونتاج من ابتعاد الممثل عن المنتج النهائي المرئي على الشاشة؛ إذ تعمل عين الكاميرا عموما كوسيط له فعالية في التكوين المستقل، بعيدا عن الممثلين والمتلقين. فعين الكاميرا هي التي تقدم أداء الممثل وتتحكم فيه، والزوايا الخاصة واللقطات المقربة مثلا هي حركات تقوم بها الكاميرا وليس الممثل، وبذلك تعمل الكاميرا كمشارك إضافي في عملية الاتصال السينمائي بالاشتراك مع المونتاج وأساليب التقطيع التي تتدخل في صناعة السينما وتشكل دلالتها.
وبالنسبة للمشاهدين، تثير مثل هذه العملية تجربة المسافة. وكما يشير (والتر بنيامين Walter Benjamin) «يتبنى المشاهد دور الناقد مع الوسائط المعاد تقديمها تقنيا مثل السينما فضلا عن دور المشارك». ويبرهن (بنيامين) بقوله يتناول المشاهد الوسيط، نتيجة لذلك، في إطار الاختبار. فما تقدمه السينما المعاصرة، غالبا بالإضافة إلى الحيل الشكلية، أفكار آيديولوجية مرتبطة بالأفلام الجماهيرية، علاوة على كل سحر المشاهير في هوليوود والأحلام المتعلقة بهم. لذلك، لا تقدم السينما إمكانيات تكنولوجية حاسمة فقط، بل تحمل معها إيحاءات ثقافية سائدة جماهيريا، عرّفها (ماكلوهان) بشكل ملائم بأنها أحلام. «الأفلام ليست تعبيرا متفوقا للآليات فقط، بل إنها تقدّم أيضا بشكل متباين باعتبارها منتجا لأكثر سلع المستهلك سخرية، وهي الأحلام تحديدا. في مجال الدراما الأمريكية تركز أعمال (فان إيتالي) المسرحية التي تحمل عنوان “مسرحيات دوريس داي” على هذه الأفكار، وتثير بشكل متعمد العلاقة بين السينما والأحلام.
وفي النهاية، تستخدم الحركة البطيئة في السينما وتجميد الصورة – وهي التنويعة الأحدث في تقاليد مشاهد التمثيل الساكن (التابلوهات) لتقديم صور الجسم الإنساني والذات بعد الحداثية. فمثلا، إذا مال الفنان بجسمه في وضع معين على خشبة المسرح نصل إلى لحظة سكون فيتجمد المشاركون بطريقة أسلوبية. ومثل هذه الأساليب توقف الزمن وتصنع محاولة درامية شارحة لتقديم نزعة بدنية. وهذه الأساليب تعرض الجسم في سكونه المادي، في نفس الوقت يضعون المسرحية في حالة توتر بين الجسم باعتباره نحتا وانتقاله إلى موضوع إنساني. فالتركيز على الجسم في دراما ما بعد الحداثة يؤكد على تحرره من هيمنة الخطاب اللفظي الذي كان حاسما في الدراما التقليدية عموما. وبشكل متلازم، تجاور دراما ما بعد الحداثة الجسم بكل تمثيلاته التكنولوجية، وتدفع تحول الجسم المادي إلى أجسام تكنولوجية وسائطية، وهو ما يعني “الجسم المتحول إلى آلة”.
................................................................................................
• كريستين شميدت تعمل أستاذا للدراسات الأميركية بجامعة Bayreuth في هولندا.
• وهذه الدراسة تحمل عنوان theatrical space and mediatize» «culture وهي تمثل الفصل الثالث من الباب الثاني من كتاب «theater of transformation: postmodernism in America» الذي صدر في نيويورك عام 2005.
 تأليف
 كريستين شميدت
 

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح