رصد خان يقين مشكوك فيه وشك لا يقين فيه

رصد خان يقين مشكوك فيه وشك لا يقين فيه

العدد 549 صدر بتاريخ 5مارس2018

على خشبة المعهد العالي للفنون المسرحية، وضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي (ذكي طليمات) الدورة الخامسة والثلاثون، قدم طلاب المعهد عرضهم المسرحي “رصد خان” من تأليف وإخراج محمد علي الذي انطلق من قصة قارون صاحب الثراء الفاحش الذي ورد في الأثر أنه من بنو إسرائيل وامتلك من الأموال الكثير والكثير حتى إن مفاتيح خزائن هذه الأموال كانت تصعب حملها من قبل الرجال الأشداء، وزاد تجبر وصلف وغرور قارون وادعى أن تلك الأموال ليست من رزق الله إنما أتيت لقارون لعلم عنده هو ذاته، ومع ازدياد صلف وغرور وعنت قارون خسف الله به الأرض فاختفى أثره هو وأمواله، وأصبح لقوم إسرائيل عبرة ولكل الناس مثلا. ومن المعروف أن تلك الواقعة ذكرت تفصيلا في القران الكريم في سورة القصص، والجدير بالذكر أن قصة قارون لم تكن إلا متكأ اتكأ عليه «محمد علي» لتمرير أفكاره المتشابكة شديدة التعقيد والطارحة لجدلية أكثر إرباكا عن علاقة الإنسان بالإله.
تبدأ أحداث “رصد خان” بدعوة أبناء العمومة من قبل سجايا حفيدة ابن غانم (والقاطنة في قصره الموجود في أطراف المدينة في مكان مهجور) لاقتسام كنز الجد، فيجتمع الأقرباء لاقتسام الكنز الغامض وبفعل السحر الأسود وطلاسم الفراعنة يتم احتجازهم في القصر وتغلق عليهم الأبواب وتصبح حوائط القصر سجنا منيعا يحبس فيه السبعة من أبناء العمومة وثامنهم شبح ابن غانم المسيطر الخفي عن أنظارهم والمتحكم في أقدارهم والمسيطر على الأحداث جميعها، هو وترهات السحر الأسود القاطنة داخل رأسه الممتلئ بالهذيان والخرف، لتبدأ الأحداث المتشابكة أساسا في التعقيد مع معرفة الأحفاد أن ابن غانم امتلك من الأموال الكثير والكثير نتيجة نبشه لمقابر الفراعنة وسرقة آثارهم وبيعها وما لبث أن أضاع أغلب تلك الأموال على السحر الأسود وبناء القصر المجهور وهجر البشر تماما حتى لقى حتفه جسديا في القصر وهامت روحه فعليا تبحث عن استقرار لن يُمنح، وزاد من تشابك الأحداث أن باب القصر بعد استقرار السبعة داخله اختفى واحتلت حائطا عليها تعاويز فرعونية مكانه وقرأها أحد السبعة لينبئ الجميع أن الجد ابن غانم بنى القصر وشيده واستوطن فيه بحثا عن أموال قارون الموجودة تحت سابع أرض التي لن تظهر إلا بصعودها من سابع أرض عبر الدم فيعمد السبعة (أبناء العمومة) إلى قتل بعضهم البعض لتهيم أرواحهم هي الأخرى بحثا عن استقرار الروح الذي لن يمنح.
زادت الحبكة تعقيدا بكشف العرض عن أفكار ابن غانم الساعي إلى تأليه ذاته والسير على درب الإله للوصول إلى الألوهية والبحث فيما وراء المعاني لإتيان المعاني فضلا عن سعيه في الأخير لا إلى أموال قارون وحدها وإنما السعي الأكثر رغبة هو السعي إلى علم قارون المانح له قوة المال والتجبر.
سعى المؤلف محمد علي لتمرير أفكار وجودية في التحليل الأخير مفادها كيف يخلد الإنسان بفنائه وكيف يفنى الإنسان بخلوده، فعمد إلى استخدام رمز سيميولوجي تركز في التفاحة، تلك الغواية التي أغوى بها إبليس آدم عليه السلام، بأن التفاحة تمنح الخلود فلما أتاها آدم بدت سوءته ولما أتى ابنه غانم التفاحة هو الآخر بدت سوءته، فالتفاحة رمز خيبة الأمل والتغرير والخديعة وآتيها خاسر لا محالة، ولأن الله لا تدركه الأبصار فقد كان الحل الدرامي عند علي هو التصريح بأن التخلي عن الحواس يفقدها وفقد الحواس يساهم في إدراك كينونة الإله، فالفناء بالضرورة خلود ورحلة البحث عن الإله وعن اليقين وعن الحقيقة كانت للمتأرجح بين الفناء والخلود منقوصة، ومع فقد ابن غانم لحواسه البصر واللمس والتذوق والشم، أدرك أن الجسد عبء وأن الموت قادم لا محالة وأن رائحة الموت ستكون رفيق رحلته وطعم التراب سيكون نهايته، ومع اشتراطات التعويذة المانحة الكنز بإزهاق الدم مات أبناء العمومة السبعة احتداما وبقت في النهاية سجايا الداعية للبحث عن الكنز ليصبح كنزها الفائزة به بعد قتل الغرماء أبناء العمومة، هو تجلي الأشباح الغامضة لبدء رحلة الصعود إلى الهاوية واعتناق الهذيان والخرف.
جاء العرض طارحا رؤى وأفكارا شديدة التداخل، ونجح في النجاة من انفصال منصة التمثيل عن صالة النظارة لسببين أراهما وأولهما نوعية الجمهور وهم دارسو فنون المسرح بأكبر صرح أكاديمي في الشرق الأوسط، فوفر بالتبعية فرص التلقي وتعاطي الأفكار شديدة الدسامة في النص بأريحية، وثاني الأسباب وأهمها موهبة فريق التمثيل الشديدة الرقي والتماسك فكانت كلمات الحوار والأفكار المطروحة عونا حقيقيا في إظهار خط الفعل المتصل لكل ممثل على حدة مع الاستعانة بذاكرة انفعالية أراها متراكمة الخبرات، فضلا عن التوفيق الحقيقي من مخرج العرض في تسكين الأدوار، وتميز الممثلون جميعهم وحافظوا على إيقاع الحدث، ورغم التطويل المبالغ فيه في الحبكة فإن خبرات الأداء ساهمت في تخطي هذا إلى البحث عن جماليات فن الممثل وتجلي ابن غانم كشخصية مرسومة بعناية، فكان تحدي محمد يوسف عظيما ورهانه على ذاته ورهان المخرج عليه رهانا حقيقيا ربحه محمد يوسف (ابن غانم) ذلك أنه بدأ شابا فهرما، صحيحا فمغيبا، مرتبكا فمربكا، وحاول تجسيد فقده حواسه المعينة على الحياة، ففقدها وامتلك ناصية القول وتلاعب بإيقاع الأحداث أنى شاء.
جاء ديكور العرض مجسدا حوائط القصر وكفى، واستخدمت ألوان باعثة على الكأبة من منطلق أن القصر موحش ويحمل الموت لقاطنيه، ولكنه تغافل عن تجسيد الحالة الشعورية وتجسيد الانتقال الحاد بين الزمن، فضلا عن ثبات التشكيل الدائم في الصورة بما يتنافى مع ديناميكية الحدث والحدث، وساهمت رتابة الصورة في تصدير الإحساس بطول مدة العرض.
“رصد خان” عرض تمثيلي بامتياز ترك فيه المخرج زمام الإيقاع لممثليه، فنجح في تمرير أفكار المؤلف، فتفوق.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏