العدد 922 صدر بتاريخ 28أبريل2025
في هذه المقالة أركز بشكل أساسي على العروض المسرحية السردية. ومحتوى هذه العروض هو القصص، والقصص هي تمثيل للأفعال يؤديه وسطاء. وقد قمنا بهذا التركيز الشديد من أجل مساعدتنا على البدء. ولكن الرؤية التي أقترحها لها تطبيق كثر عمومية.
والمشكلة التي سوف أدرسها هي الكيفية التي يولد من خلالها الأداء المسرحي الحالات المزاجية والمشاعر بمعزل عن الحالات المزاجية والمشاعر التي تولدها القدرة على استيعاب مكونات الأداء. فمثلا، ربما يشعر المتفرج بالحزن من أجل محنة الشخصية وحتى حل الحبكة ولكن لا يزال يعتقد أن المزاج العام للأداء خفيف الظل. وربما لا يمكنه أن يشير إلى شيء محدد في محتوى الأداء يمكن أن يبرر هذا التوصيف الكلى. ولاشك أن عدم القدرة على تفسير ردود الفعل الملموسة تجاه الأداء هي أمر شائع إلى حد ما. ويبدو أن لها علاقة بحقائق العروض نفسها بشكل أكبر من الحقائق المتعلقة بمضمون العروض.
وسوف أقدم هنا تفسيرا لهذه الظاهرة من خلال التأكيد على الدور الذي تلعبه البنية الجسدية للمؤدين في تحفيز المشاعر والحالة المزاجية للمتفرجين.
ما يبدو واضحا:
التعبير عن العاطفة أمر مركزي في العروض المسرحية السردية على نحو ما. وفيما يلي خمسة مزاعم يعتقد بها على نطاق واسع فيما يتعلق بالعلاقة بين التعبير والأداء. وينقل الممثلون في العروض السردية مشاعر وحالات شخصياتهم المزاجية.
ومن الملائم أن نصف العروض المسرحية التي تستخدم مصطلحات العواطف والحالات المزاجية. ويرتبط ما يفعله الممثلون لنقل مشاعر الشخصيات وحالاتهم المزاجية بإسناد المتفرجين مصطلحات العاطفة والحالة المزاجية إلى العروض المسرحية.
ترتبط طبيعة العلاقة بين المؤدين والمتفرجين بطريقة نقل مشاعر الشخصية وحالتها المزاجية, وكذلك ما يبرر أعزاء المتفرجين للمشاعر والحالات المزاجية للعروض.
والاعتراف ببعض الأمور المذكورة آنفا مطلوب من أجل الاستجابة التقديرية لأي أداء.
وفي هذه المقالة سوف أتأمل فقط الأربعة مزاعم الأولى من هذه الادعاءات الخمسة. لأن الزعم الخامس سوف يأخذنا بعيدا عن فكرتنا.
وسوف أنظر إلى هذه المزاعم باعتبارها بديهيات. ومن خلال إطلاق اسم بديهيات عليها، أعني أنها مزاعم يستعد الكثير منا إلى تصديقها قبل الانخراط في التفكير النقدي. فربما تكون خاطئة نتيجة لتحيز محض. ولكنها غالبا ما توفر بداية للمناقشة. وهي على حق في كثير من الأحوال بالطبع، وهذا ما يساعد في تفسير سبب قدرتهم توفير هذه البداية. وفي الجزء التالي، سوف أناقش كل زعم من هذه المزاعم الأربعة بتفصيل أكثر.
البديهيات الأربعة بمزيد من التفصيل
1- لماذا يجب أن نستخدم كلمة «ينقل convey» البديهية (1) فضلا عن كلمة “يعبر express” عندما نتحدث عن الممثلين ؟ ألا تبدو الأخيرة أكثر منطقية ؟. تبدو فكرة أن الممثلين “ ينقلون” عواطفهم وحالاتهم المزاجية سطحية. لاسيما أن التمثيل الجيد يوصف بأنه يتعلق بالتعبير عن المشاعر بشكل صحيح، وليس مجرد نقلها.
ومع ذلك، فان استبدال كلمة «يعبر» بكلمة «ينقل» خطأ في الحالة الأولى. وإذا تطلب التعبير عن شعور أو حالة مزاجية أن نكون في هذه الحالة المزاجية أو هذا الشعور، فان الدمى لا تعبر عن ذلك. ومع ذلك يحس المتفرجون بالعواطف والحالات المزاجية عندما يشاهدون العرائس. علاوة على ذلك، فان الشخصيات في العروض الروائية هي التي تعبر عن العواطف وتعاني من الحالات المزاجية. وحقيقة أن الشخصيات تعبر عن العواطف أو تعاني من الحالات المزاجية لا يستتبع أن الممثلين يعبرون عن العواطف أو يعانون من حالات مزاجية في الحقيقة. ولكن ماذا عن التمثيل الجيد ؟ ربما كان من المفيد هنا أن نفكر للحظة في أحد أنواع التمثيل السيئ. فأحيانا يتحدث الممثلون عن شيء يسمونه “ الالتزام بالفعل committing to action”. ويمكن إظهار الفرق بين أداء الفعل بهذه الطريقة والفشل في فعل ذلك، ولكن من الأفضل تفسير ذلك بالإشارة إلى عدة أسباب قد تؤدي إلى فشل الممثلين في الالتزام بالفعل. وربما يفشلون لأنهم متوترون بشأن ما يُفترض أن يفعلوه. وربما يفشلون لأنهم لا يفهمون فعلا ما يفعلونه ولماذا يفعلونه. ولكنهم يفشلون عموما عندما يشعرون بذواتهم لسبب ما.
ولا ينبغي الخلط بين الوعي الذاتي self-consciousness الذي أتناوله هنا والانتباه إلى الذات self-awareness. فمثلا، إذا كان الأسلوب يستدعي ذلك، فمن الممكن أن يكون الممثل منتبها إلى ذاته ومنتبها إلى علاقته بالمتفرجين بدون أن يكون وعيا بذاته. علاوة على ذلك، يمكن أن يقوض الوعي الذاتي الأداء المتعمد الواعي بذاته بسهولة، كما يمكن أن يقوض التمثيل /الأداء في أي نوع آخر من الأساليب. فكل ما يتطلبه الأمر هو الشعور بعدم الارتياح عند الاعتراف بعلاقته بالمتفرجين.
وغالبا ما يكون هذا النوع من الفشل في التمثيل واضحا للمتفرجين. فعندما يكون الممثل واعيا بذاته فيما يفعله، فان سلوكه غير الحذر سوف يكشف عن شعوره بعدم الارتياح. ولهذا السبب فان قدرا كبيرا من التدريب يتضمن تعلم كيفية عدم الوعي بالذات في أداء هذه الأفعال التي سوف تصبح نظام تلقائي يتطور في التدريبات والأداء أمام الآخرين. والالتزام بالفعل هو أحد الطرق التي يتجاوز من خلالها الممثلون الوعي بالذات.
كما أنها أيضا طريقة لغرس القيام بأي فعل من الأفعال بنوع من الطاقة المركزة التي تمكن الممثل من جعل الفعل مقنعا، أي جعلها أمثلة مقنعة للأفعال التي يؤديها بمشاعر وحالات مزاجية معينة. وتطبق هذه الملاحظة على تدريب التمثيل الذي يصر على أن الممثلين يجب أن يشعروا بنفس الأشياء مثل الشخصيات التي يؤدونها لكي يصوروا تلك المشاعر، ربما بطريقة “ المنهج The Method”. وتطبق أيضا على تدريب الممثل الذي يصر على أن الشعور بنفس مشاعر الشخصيات ليس ضروريا مطلقا، وفقا للطريقة التي اقترحها ديدرو. ولذلك وبع النظر في كل الأمور، في الزعم الأول، يبدو لي أننا يجب أن نلتزم بكلمة “ ينقل” ولا نبدلها بكلمة “ يعبر “.
2- ينسب المتفرجون المشاعر والحالات المزاجية الى كل العروض. ويبدو من الصواب أن نقول إن الأداء ربما يوصف بشكل صحيح بأنه، مثلا، كئيب وساخر. ولكن وراء هذه الملاحظة، يبدو أننا انجذبنا الى اتجاهات مختلفة من خلال حقائق أخرى عن اعزاء العاطفة إلى العروض.
وقد ترددت أن أقول إن العروض تعبر عن المشاعر والحالات المزاجية. وتساهم الديكورات والأزياء والأدوات والإضاءة والصوت والعناصر الأخرى بطريقة ما في أي مشاعر أو حالة مزاجية يجربها المتفرجون. وبناء على مفهوم قياسي للتعبير، باعتبار أنه يتطلب ذاتا تعبر، فان هذا ربما يكون له معنى. والأمر الأهم هو أنه من غير المرجح أن تساهم هذه العناصر في تحقيق أهدافها نتيجة لإدراك المتفرجين لها. ومن المرجح أن تؤدي هذه العناصر سببيا إلى تحفيز المتفرجين لخوض تجارب معينة مرتبطة بطريقة ما بإحساسهم بما يجري في محتوى الأداء.
وقد ترددت أيضا أن أقول إن المشاعر والحالات المنسوبة إلى الأداء هي نفس المشاعر والحالات المزاجية التي يجربها المتفرجون. ويرجع ذلك إلى أن المشاعر والحالات المزاجية التي تثيرها العروض يجربها المتفرجون، فانه ليس من الواضح ماهية العلاقة بين مثل هذه التجارب المحفزة وإسناد المشاعر والحالات المزاجية يستنتجها المتفرجون من الأداء.
وهناك نقطة أخرى في إسناد المشاعر والحالات المزاجية للعروض، وهي: أنه هناك مساحة منطقية للاختلاف في الإسناد. فمثلا، ربما أعتقد أن العرض كئيب وساخر، وربما تعتقد أنت أنه عدواني ومراهق. ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه الاختلافات قابلة للحل أو ما إذا كانت تحتاج إلى حل.
ومع ذلك، لاحظ أن النطاق الذي تحدث فيه هذه الاختلافات في التلقي تبدو صغيرة. بالنسبة لي سوف يتطلب الأمر ظروفا غير عادية للعثور على أداء كئيب وساخر وتجده أنت خفيف الظل ومتفائل. علاوة على ذلك، لا يوجد فرق كبير بين الحكم على عرض بأنه ساخر والحكم عليه بأنه مراهق، على الرغم من أن أحد الحكمين من المرجح أن يدعم التقويم الايجابي والآخر يدعم التقويم السلبي.
وعلى الرغم من ذلك، هناك نقطة عامة أخرى هي: ربما يختلف المؤدون والمتفرجون حول المشاعر والحالات المزاجية في لحظات معينة من الأداء. علاوة على ذلك، من الممكن أن يكون المتفرجون على حق بشأن المشاعر والحالات المزاجية التي ينسبونها إلى الأداء، ومن الممكن أن يخطئ المؤدون بشأن المشاعر والحالات المزاجية التي تظاهروا بها أثناء الأداء. ومن الشائع إلى حد ما، ولاسيما في عروض الهواة، أن يقوم الممثلون بتحفيز حالات مزاجية مختلفة تماما عن تلك التي يتخيلون أنهم يقدمونها.
يبدو أن كل هذه الحقائق تجذبنا في اتجاهات مختلفة. ولذلك سوف تكون محل اهتمام في هذه المقالة. نحن بحاجة إلى تفسير يجعل هذه المجموعة من الحقائق متماسكة أو يظهر لنا أي منها حقائق فعلية وأي منها مفترضة، والتي تعكس فقط بعض الأحكام المسبقة التي نحملها إلى دراسة المسرح.
3- تأمل الجملة المفتوحة التالية. تخيل نتيجة ملء المكان الفارغ إما بمصطلح «إدراك recognition» أو مصطلح «تجربة experience».
........ مشاعر الشخصية يساهم في، أو هو مكون........ للمشاعر والحالة المزاجية في الأداء المسرحي.
هناك أربعة تركيبا محتملة. إذا ظهر مصطلح “إدراك “ (أو أحد مرادفاته) في كلتا الخانتين، فسوف تكون وجهة النظر إدراكية. وإذا ظهر مصطلح “تجربة” (أو أحد مرادفاته) في كلتا الخانتين فسوف تكون وجهة النظر تجريبية بالكامل. أظن أن معظمنا سوف ينجذب إلى نوع من وجهة النظر المختلطة. ولكن أي منهما ينبغي أن نتبناه باعتباره الأرجح ليس أمرا واضحا على الإطلاق.
من المغري أن نفترض أن هاتين اللوحتين هما التفسيران المتاحان لكلتا الصلتين بين مشاعر المؤدين وحالاتهم المزاجية اللذان ينقلهما المؤدون في تصويرهم للشخصيات والمشاعر والحالات المزاجية التي ينسبها المتفرجون للعروض.
وعلى النقيض من ذلك، سوف أقدم وجهة نظر شبه إدراكية quasi-recognitional وإدراكية عموما، ولكنها ليست نتاج الدفاع عن طريقة معينة لاستكمال الجملة الناقصة. وكما رأينا بالفعل، فان أي حل يجب أن يسمح بالتحريض السببي للمشاعر والحالات المزاجية. فربما ينطق الممثل جملة بنفس النبرة ولكن باتجاه بدني مختلف للمشاهدين أو للشخصيات الأخرى، وسوف يكون للجملة تأثير مختلف على المعنى الذي يصل الى المتفرجين من المشاعر والحالة المزاجية للحظة.
وفي عرض حديث لأسطورة «جلجامش» بعنوان «الإنسان الذي رفض أن يموت The Man Who Refused to Die»، لاحظ المتفرجون أن جلجامش يواجه آلهة وبشرا متنوعين، فيركع ويقول هذه الجمل :
اسمي جلجامش
وقد جئت من أوركا
التي أنا ملكها
وقد مات صديقي انكيدو
وأنا حزين.
في العرض المشار إليه، كان يتم ألقاء الجملة في صورة جانبية. فاذا ألقيت الجملة مباشرة في اتجاه المتفرجين، ولو مرة واحدة، فسوف يختلف التأثير تماما، حتى لو افترضنا أن الجملة أُلقيت بنفس الطريقة في كل مرة، في شكل الصيغة. وبالمثل، كما قالت دوريس كولتش، إن استخدامات الصوتيات في المساحات المادية التي يحدث فيها الأداء بعدة طرق، وهذا التأثير هو الذي يحفز أو يخلق الإحساس المادي بالفضاء المسرحية.
وتعترف وجهة النظر التي أؤيدها بحقائق الأداء السببية هذه. وأعتقد أن الاعتراف بهذه الحقائق يدفعنا الى موقف أكثر تطورا وأكثر دقة من الذي الذي تمثله إغراء استراتيجية تقييد التفسيرات المتاحة لملء الفراغ في الجملة الناقصة المذكورة آنفا.
4- إن إدراك دور التحريض السببي في العروض المسرحية مرتبط بالجانب المادي للعروض. وربما كان هذا واضحا فعلا. ولكن هناك نقطتين حول هذا يجدر بنا أن نذكرهما هنا.
أولا، يمكن أن تكون أنواع المشاعر والحالات المزاجية التي تحفزها مادية العروض، ليس هي نموذجيا تلك التي يولدها فهم المتفرج للمحتوى الذي يتم تلقيه في العرض المسرحي. بل انها تساهم في استيعاب المتفرجين لهذا المحتوى. ومع ذلك، ربما تعزز أيضا ذلك المحتوى، أو توضحه أو تتحداه.
ولنتأمل على سبيل المثال الحقيقة ذات الصلة التي مفادها أن المؤدين يخلقون صورًا مادية على خشبة المسرح. فربما توضح هذه الصور أو تلقي الضوء على المحتوى الذي تقدمه وسائل مسرحية أخرى أو تقوضه. ولكي تنجح الصور ـ سواء لإثارة الحالة المزاجية على نحو تصوري أو غير تصوري ـ فلابد أن يقوم المؤدون بأشياء تركز انتباه المتفرجين على بعض جوانب أجسادهم وأصواتهم وتشتت انتباههم بعيدًا عن جوانب أخرى من أجسادهم وأصواتهم. وسواء كان ما يجب رؤيته هو الطريقة التي يتم من خلالها ترتيب المؤدين بالنسبة لبعضهم البعض، أو الطريقة التي يقفون بها أمام للمتفرجين، أو نمط معين في الطريقة التي يظهرون بها ويلقون من خلالها الحوار (وما إلى ذلك)، فإن النتيجة تتحقق دائمًا تقريبًا من خلال مجموعات من المؤدين وتتحقق دائمًا تقريبًا أيضًا من خلال الجوانب المادية للمؤدين بدلاً من سمات محتوى الأداء.
ورغم أن مثال جلجامش المذكور أعلاه لا يتعلق بشكل مباشر بإثارة المشاعر أو الحالة المزاجية، فإنه يوضح كيف أن الجانب الجسدي لما يفعله المؤدون قد يساعد المتفرجين على فهم محتوى الأداء.
ثانيًا، تعد حقيقة أن الممثلين يثيرون حالات مزاجية ومشاعر معينة من خلال السمات الجسدية لملامحهم الخاصة مصدر قلق خطير في الأداء المسرحي. وغالبًا ما يعبرون عن هذا القلق باعتباره قلقًا من سمات الممثلين وخصائص الشخصيات. ويتعلق هذا القلق، الذي يُشار إليه أحيانًا باسم مشكلة “ذاتية المؤدي subjectivity of the performer”، بالجانب المزدوج للمؤدين؛ فانهم هم أنفسهم ويظهرون باعتبار أنهم شخصيات خيالية في نفس الوقت أيضًا.
لاحظ أنه على الرغم من أن خيالية الشخصيات توضيحية، إلا أنها ليست حاسمة. وإذا كان هذا مصدر قلق حقيقي، فسوف يؤثر حتى على تمثيل الشخصيات غير الخيالية في السرديات غير الخيالية. في الواقع، سوف يصاب المؤدون بالعدوى من أي شيء يمثلونه، أو ربما، عندما يطمحون إلى تمثيل أنفسهم ذاتهم.
.................................................................................
الهوامش
جيمس هاملتون عضو بقسم الفلسفة في جامعة ولاية كانساس. وهو متخصص في علم الجمال والمسرح، وكتابه “فن المسرح” (2007) والذي نشرت ترجمة له ضمن مطبوعات مهرجان القاهرة التجريبي في الدورة الثلاثين عام 2023.
نشرت هذه المقالة في كتاب “ التعبير في فنون الأداء “ الصادر عن مطبوعات كمبريدج عام 2010 (في الصفحات من 16 -27 ) بعنوان “Performer Subjectivity and Expression in Theatrical Performance “.