العدد 932 صدر بتاريخ 7يوليو2025
يُعد كتاب “الحرية والمسرح” - لمؤلفته د. نهاد صليحة من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب - من الأعمال النقدية البارزة التى تناولت العلاقة بين الفن المسرحى ومفهوم الحرية، خاصة فى السياق العربى. فالكتاب يؤسس لفكرة أن المسرح هو أبلغ تعبير عن الحرية؛ لأنه يجمع بين الفكر والفعل، بين الفرد والجماعة، بين الخيال والواقع. والمسرح ليس فقط وسيلة ترفيه أو تعليم، بل هو أداة نقدية تحررية تكشف الزيف، وتطرح الأسئلة، وتضع الواقع تحت مجهر التحليل والتشكيك، وهو بذلك ضرورة اجتماعية وثقافية لا غنى عنها فى أى مشروع نهضوى أو تحررى.
وتستعرض الكاتبة دكتورة نهاد صليحة فى هذا الكتاب كيف يمكن للمسرح أن يكون أداة فعّالة فى التعبير عن قضايا الحرية والعدالة، وكيف يُسهم فى تشكيل الوعى الجمعى للمجتمعات.
ولهذا يُعد كتاب «الحرية والمسرح» مرجعًا هامًا لفهم العلاقة بين الفن والمجتمع، وكيف يمكن للفن أن يكون أداة فعّالة فى تحفيز التغيير والتحرر؛ حيث يُظهر الكتاب كيف يمكن للمسرح أن يُسهم فى تشكيل وعى الأفراد والمجتمعات حول قضايا الحرية والعدالة، كما أنه دعوة صريحة لتحرير المسرح من الرقابة والخوف والتوجيه السياسى، كما يُعد مرجعًا نقديًا وفلسفيًا مهمًا لفهم دور المسرح فى التحول الاجتماعى والسياسى.
ويتألف الكتاب من خمسة فصول رئيسية، تبدأ بشهادات متنوعة، ثم مدخل يشرح مفهوم الحرية، يليه فصل عن مفهوم الظاهرة المسرحية، ثم فصل يتناول حرية المسرح واستراتيجيات القمع التى يتعرض لها، وبعده فصل يناقش المسرح العربى بين الحرية وبنية التخلف، ويختتم الفصل الخامس بمستقبل الحرية فى المسرح العربى مع تسليط الضوء على المأزق والحلول الممكنة.
مفهوم الحرية فى المسرح
ففى الفصل الأول تبدأ صليحة بتعريف مفهوم الحرية، مشيرة إلى أنه ليس مجرد غياب للقيود، بل هو حالة من الوعى والقدرة على الاختيار، حيث تربط بين هذا المفهوم وأهمية المسرح كوسيلة للتعبير عن الذات ومواجهة القمع.
وتشير “صليحة» إلى أن الحديث عن المسرح عامة، والمسرح العربى خاصة، هو فى جوهره حديث عن الحرية، فالحرية فى المفهوم السيكولوجى عند الفيلسوف الفرنسى هنرى برجسون ترتبط بفكرة الإبداع والخلق، وكذلك فى الفكر الماركسى، تعتبر مهمة الإنسان القيام بعملية إبداعية مستمرة تهدف إلى التحرر.
وبناءً عليه، يصبح الإبداع الفنى فى جميع المجالات تعبيرًا ملموسًا عن الحرية. لكن بينما تمثل الفنون الأدبية مثل الشعر والرواية ممارسة فردية لعملية التحرر، فإن الظاهرة المسرحية بطبيعتها الجماعية تمثل ممارسة جماعية للتحرر.
وتستشهد صليحة بوصف الكاتب جبرا إبراهيم جبرا للمسرح بأنه “مدرسة الشعب”، وتصف تجربتها الشخصية فى حضور المسرح بأنها “ثورة مقنعة على الواقع” فى عملية تحرر جماعية حية، حيث ينتقل الجمهور من حالة الراحة إلى التفاعل الحى مع العرض المسرحى.
وقد حددت الكاتبة ثلاثة عناصر رئيسية لتحديد مفهوم الحرية:
موقف أصلى وواقعى فى سياق اجتماعى وإنسانى.
فعل صراع وجدل وحوار مستمر ومتغير مع هذا الموقف.
التغيير كنتيجة للحرية على المستوى الذاتى والاجتماعى والتاريخى.
وهذه العناصر نفسها تشكل جوهر الدراما والتجربة المسرحية أثناء العرض، حيث يتضمن النص المسرحى موقفًا مبدئيًا يثير صراعًا وحوارًا، سواء كان داخليًا أو مع الجمهور، وينتهى هذا الحوار بتحولات فى الشخصيات أو فى وعى الجمهور.
وفى تجربة العرض المسرحى الحى، يمثل لقاء الجمهور مع الممثلين الموقف الأساسى، متضمنًا السياق التاريخى والتقاليد المسرحية وتوقعات المشاهدين التى تستند إلى معتقداتهم وأخلاقهم وعاداتهم، ما يخلق نوعًا من الصراع بين صورة العالم التى يقدمها العرض والصورة التى يحملها الجمهور، وقد ينتهى هذا الصراع بتغيير الوعى أو حتى برد فعل غاضب من الجمهور.
وتشير الكاتبة أيضًا إلى التشابه بين فعل التحرر والفعل المسرحى، وتتساءل هل كل فعل مسرحى هو بالضرورة فعل تحرري؟ وهل المسرح التقليدى والمسارح الأخرى مثل المسرح الملحمى أو الاحتفالى متساوية فى هذا الصدد؟
مفهوم الظاهرة المسرحية
وفى الفصل الثانى يركز الكتاب على أن الظاهرة المسرحية هى عملية تحرر جماعى نسبى، تشكل خروجًا مؤقتًا عن الواقع، وقد تؤدى فى أحيان أخرى إلى خلخلة البنية الاجتماعية وتوفير إمكانيات جديدة للوعى والتغيير الجماعى.
مفهوم الإبداع
حيث تناولت الكاتبة مفهوم الإبداع وهنا ترفض الكاتبة فكرة الإبداع الكامل باعتباره حقيقة مطلقة، مشيرة إلى أن العمل الأدبى أو المسرحى غالبًا ما يصطدم بالأيديولوجيا التى قد تحرفه أو توجهه نحو معانى مختلفة، وهو ما يكمن فى صميم الأدب التنويرى الذى يكشف عن تناقضات الأيديولوجيا ويعرّيها كتركيب وهمى مبنى على الحذف والإغفال.
حرية المسرح
وتناولت الكاتبة حرية المسرح؛ حيث ترى أن حرية المسرح لا تعنى فقط السماح للناس بالتعبير من قبل المؤسسات الحاكمة، بل تكمن فى الطبيعة الثورية للعرض المسرحى نفسه، الذى يعرض الاختبار الأقصى للأيديولوجيا عبر تعدد لغاته وعناصره، وطبيعته الجماعية الحية التى تجمع الجمهور والممثلين فى تفاعل حوارى مباشر.
وأوضحت أن المسرح يتميز عن الفنون الأخرى بقدرته الفائقة على التفكيك وكشف العلاقة بين الخطاب الفنى وشروط إنتاجه المادية، إذ يعيش الجمهور تجربة اجتماعية متكاملة، تتجاوز التجربة الجمالية لتشمل وعيًا ماديًا متصلًا بالواقع الاقتصادى والاجتماعى.
حرية المسرح واستراتيجيات القمع
وفى الفصل الثالث أشارت صليحة إلى أن حرية المسرح تتمثل فى قدرته على خلخلة الرؤى الموروثة وتحدى الأيديولوجيا السائدة، ولكن هذه الحرية لا تعتمد فقط على إرادة الفنانين أو الجمهور، بل هى شرط جوهرى لوجود الظاهرة المسرحية.
وأوضحت أنه يتم قمع المسرح بطرق متعددة عبر الزمن، ومنها:
الحصار الاقتصادى والإدارى (منع التمويل أو التراخيص).
الحصار الرقابى (باسم الدين أو الأخلاق).
الحصار الإعلامى (التعتيم).
الحصار النقدى (الاحتواء أو التزييف من المؤسسات الأكاديمية).
الحصار التكنولوجى (تغليف المسرح فى أشكال درامية معلبة تفقده جوهر الحضور الحي).
وأكدت أن التجربة المسرحية الجماهيرية تعتبر شكلًا من أشكال الممارسة الديمقراطية التى تعلّم الجمهور حرية الموافقة والاعتراض والمشاركة الفاعلة.
المسرح العربى بين الحرية وبنية التخلف
وفى الفصل الرابع توضح الكاتبة أن النظرة إلى المسرح العربى تأثرت بنظرات كلاسيكية وسيكولوجية وأخلاقية، مما جعل النقد المسرحى يعمل على تكريس بُنى التخلف بدلًا من تحرير المجتمع.
وتنسب ذلك إلى بنية التخلف فى المجتمع العربى وطبيعة نشأة المسرح العربى الذى جاء من أوروبا، ليخدم الطبقة البرجوازية وليس الشعب الكادح، ما أدى إلى محافظته على أشكال فنية ونقدية لم تستطع التحرر الكامل.
ورغم ذلك، شهد المسرح العربى بعض فترات الخلخلة خلال اتصال العرب بالحضارة الأوروبية العلمانية، خاصة بعد الحملة الفرنسية على مصر والثورات التى أعقبتها، والتى ساهمت فى ظهور حركات التنوير.
ويتضمن هذا الفصل ثلاثة محاور:
أولًا: مؤثرات رجعية خارجية وداخلية
يعالج هذا المحور العلاقة الإشكالية بين النظريات المسرحية الغربية والممارسة المسرحية فى السياق العربى، ويكشف كيف أسهمت المفاهيم المستوردة غير المُمحَّصة فى ترسيخ التخلف بدلًا من التحرير.
1. التشويه الأرسطى للمسرح
ترى الكاتبة أن الفهم السائد لنظرية أرسطو – خصوصًا التراجيديا – ربطها بالحتمية والقدر، مما حول المسرح إلى أداة تبريرية، تغذى الجبرية وتكرس خضوع الإنسان للقوى الخارجة عنه، لا وسيلة لتنويره أو تحفيزه على المقاومة. وقد ساهم النقاد العرب، من أمثال عز الدين إسماعيل، فى تعزيز هذه القراءة القدرية، متجاهلين دلالات المقاومة العقلانية ضد المؤسسة كما فى مسرحيات مثل أوديب أو الأورستيا التى قرأها رولان بارت بوصفها صراعًا تحرريًا.
2. ازدواجية النظرة للمسرح العربي
حيث تأثر المسرح العربى بنسختين من المسرح:
النموذج الكلاسيكي: ذو توجه نفسى أخلاقى.
النموذج المحافظ: الذى نقل مفاهيم الغرب دون نقد، ورسّخ التخلف الثقافى والاجتماعى.
رغم موجات التجديد منذ الستينيات، بقى النقد الصحفى شعبويًا ومحافظًا، يدعم السلطة ويكرّس الثبات، بفعل: تجذّر التخلف الاجتماعى والثقافى، واستيراد المسرح من أوروبا، لا انبثاقه من البيئة الشعبية، وتمركزه فى أوساط برجوازية منعزلة عن الشعب وهمومه الثورية.
ثانيًا: بنية التخلف وأثرها على المسرح
ويكشف هذا المحور أن غياب مسرح عربى شعبى أصيل يرتبط ببنية التخلف المركبة، التى تحكم المجتمع وتمنع تطور المسرح كفعل جماهيرى واعٍ.
1. ملامح التخلف فى الفكر العربي
اعتباطية الطبيعة: الإنسان خاضع لقوى مجهولة.
اعتباطية السلطة: الخضوع للمتسلط، سواء كان سياسيًا أو رمزيًا.
هذان العاملان أنتجا ثقافة قهرية أحادية، قائمة على الطاعة والسكوت، وليس على الحوار أو النقد.
2. قهر التقاليد والجمود الثقافي
واشارت هنا أن محمد عابد الجابرى يرى أن الثقافة العربية محكومة بهيمنة الماضى، وأن اللغة نفسها تعيق التحديث. كذلك تؤكد فاطمة المرنيسى أن “الطاعة” هى القيمة المركزية، والدين غالبًا ما يُستخدم كأداة لتقييد المبادرات التحررية، وتصويرها كفتنة أو خروج على الجماعة.
3. انعكاسات التخلف فى المسرح
المسرح التقليدى يعيد إنتاج نفس علاقات التسلط:
الممثل خاضع للمخرج، والمخرج خاضع للنص، والجمهور خاضع للتقاليد.
وأوضحت صليحة أنه قد بدأت هذه البنية تهتز مع مشاريع التنوير، وظهور نخبة فكرية ربطت بين الحرية والدين كقيمة إنسانية، لا كسلطة. مثل: رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده، على عبد الرازق فى كتابه “الإسلام وأصول الحكم” (1925)، طه حسين فى «فى الشعر الجاهلي” (1926)، مشاركة المرأة فى ثورة 1919.
لكن التحول الجذرى لم يحدث إلا بعد ارتباط المسرح بقضايا التحرر الوطنى والاشتراكى.
ولذلك تؤكد صليحة هنا أن المسرح العربى وُلد فى بيئة متخلفة ثقافيًا واجتماعيًا، ما جعله رهينة للرؤى المستوردة أو للسلطة. ومع خلخلة هذه البنية، بدأ المسرح يستعيد دوره كأداة نقدية، تتجاوز التقليد نحو الفعل، وتعبر عن صراع الإنسان مع القهر من أجل الحرية.
ثالثًا: أثر خلخلة بنية التخلف على صورة المرأة فى المسرح العربى.
وهنا تركز صليحة على رصد التحول التدريجى فى صورة المرأة على الخشبة، بوصفها انعكاسًا لبنية القهر فى المجتمعات المتخلفة، ورمزًا لصراع الحرية ضد التسلط الذكورى والاجتماعى.
1. المرأة كأيقونة للقهر
حيث يصفها مصطفى حجازى بأنها النموذج الأكمل للوضعية القهرية فى المجتمع المتخلف. يُبجلها الرجل كأم، ويُبخس قدرها كإنسان حر. كما تُرمّز كما الفلاح فى السينما قبل الثورة: ضحية مغلفة بالرومانسية.
2. الازدواجية قبل الثورة
كانت المرأة إما: قديسة مطهرة: الأم المخلصة، أو فاسدة جاهلة: أداة للرجل.
هذا التصوير الخاضع يعكس رؤية ذكورية سلطوية.
3. بداية التحول بعد الثورة
أعمال توفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوى كشفت المرأة المستقلة، المثقفة، والشريكة فى الوعى. أبرز الأمثلة: براكسا والنائبة المحترمة: نماذج نسائية واعية.
وطنى عكا: جدل حول الحب والحرية بين نموذجين شرقى وغربى.
4. التحرر والاعتراف الذكورى فى مسرح محمد عناني:
فى السجين والسجان، يعترف الرجل بخوفه من حرية المرأة. وفى الغربان تشارك المرأة فى العمل والثورة، شريكة فى الوطن لا تابعة.
5. العلاقة بين القهر الجنسى والسياسى فى مسرح صلاح عبدالصبور: فى ليلى والمجنون، يتقاطع القهر الجنسى مع السياسي: قهر اقتصادى للمرأة، رقابة وسجن سياسى، اغتصاب وتشييء جسدى.
«ليلى» تصبح رمزًا للمرأة والوطن، و»سعيد» العاجز عن حبها يرمز للعجز عن الثورة.
6. الحب والمقاومة فى «امرأة العزيز»
«زبيدة» تمثل الحب الكامل، المتحرر من الذكورية. العمل خرق التابو الدينى والسياسى، فتعرض للمصادرة والحرق بعد 18 ليلة فقط من العرض.
7. تشريح التخلف فى «بلدى يا بلدي”
تفكك المسرحية المجتمع القهري:
التقديس الأعمى للأولياء، هيمنة الخرافة، الاستغلال الطبقى للفلاح، المرأة الخاضعة عقائديًا وجنسيًا (فاطمة بنت برى).
8. نقد الحاكم البرىء
تنتقد المسرحية الحاشية ولا تهاجم الحاكم، مما يعكس لحظة وجدانية مع عبد الناصر. إلا أن المسرح العربى تجاوز لاحقًا هذه التبرئة كما في:
الملك هو الملك – سعد الله ونوس، المهرج – محمد الماغوط.
وهنا أظهرت صليحة أن المرأة فى المسرح العربى مرآة لبنية التخلف. تطورت من رمز خاضع إلى كائن فاعل مع خلخلة البنية الذكورية. والمسرح الجاد أصبح مساحة لتحرير العلاقة بين المرأة، الحرية، والسياسة، ووسيلة لكشف تواطؤ القهر الجنسى مع القهر الاجتماعى والسياسى.
«مستقبل الحرية فى المسرح العربى (المأزق والحل)»
واختتمت صليحة كتابها موضحة أن الأمل فى مسرح الشباب، فرغم الأزمات، تؤكد التجارب الشبابية فى مصر (مثل فرقة الورشة، الطيف والخيال، المسرح الريفى.. وغيرها) أن مستقبل حرية المسرح العربى ما زال حيًا. وهؤلاء الشباب هم حملة الرسالة المسرحية فى مواجهة القمع والتهميش، وهم “الأيدِ الأمينة” على حرية المسرح.
موضحة ما يمر به المسرح من مآزق:
أولًا: المأزق الثقافي
بعد نكسة 1967، دخل المسرح العربى فى أزمة ثقافية عميقة، حيث تراجعت القوى الوطنية وصعدت التيارات المتطرفة كردّ فعل يائس على الهزيمة. هذا التحول السياسى والاجتماعى أثّر على حرية الإبداع، وظهرت محاولات لتحريم الفن والمسرح. كما ساد مناخ من الانعزال الثقافى والانحدار الذوقى، وترافق ذلك مع انتشار ظواهر فنية تجارية ومحدودة القيمة.
ثانيًا: المأزق الاقتصادي
أ - مسرح الدولة: كان مسرح الدولة فى مصر جزءًا من المشروع القومى ووسيلة لتنوير الشعب، لكنه دخل مرحلة تراجع بعد الهزيمة، حيث أهملته الدولة وأفقدته الدعم، مما تسبب فى هجرة المواهب إلى دول الخليج (البترودراما).
ب - مسرح القطاع الخاص: حيث تطوّر نوعان من فرق القطاع الخاص:
الجادّة: أنشأها فنانون محترفون ولكنها تواجه صعوبات مادية وتضطر إلى رفع أسعار التذاكر.
الربحية العشوائية: تركز على الربح، وتفتقر إلى القيمة الفنية.
المشكلة الأساسية تكمن فى أن الجمهور المستهدف أصبح من طبقات مرفّهة، ما أدى إلى انحراف الرسالة الفنية لتوافق أذواق السوق.
ثالثًا: المأزق الفنى
فالفنان المسرحى يجد نفسه بين خيارين صعبين: البقاء فى مسرح الدولة رغم الخنق البيروقراطى، أو اللجوء إلى مسرح القطاع الخاص والتنازل عن رسالته الفنية مقابل البقاء الاقتصادى.
رابعًا: المسرح الاحتفالى كحل بديل
ينطلق من مفهوم “الكرنفال الشعبي” كما عرّفه باختين، ويُعد محاولة جادة لكسر قيود المسرح التقليدى.
أبرز سماته: التفاعل مع الجمهور، لا النخبة فقط، والبحث فى جذور الفرجات الشعبية، والبعد عن البذخ فى الديكور والتكاليف، والاعتماد على التأليف الجماعى والمشاركة المجتمعية، التحرر من معماريات المسرح السلطوى.
وروّاده هم: يوسف إدريس، توفيق الحكيم، عبد الكريم برشيد، الطيب الصديقى وغيرهم.
خامسًا: شروط تطور المسرح الاحتفالي: تجاوز المهرجانات والنخبوية والنزول إلى الشارع، و الاستمرارية، لا العروض الموسمية فقط، والحذر من الانغماس فى التراث بطريقة جامدة، بالإضافة إلى ضخّ دماء جديدة وتقبل النقد والحوار الداخلى.
وفى النهاية فإن كتاب «الحرية والمسرح» للدكتورة نهاد صليحة يختتم رحلته الفكرية والنقدية بتأكيد قاطع على أن الحرية ليست شعارًا يُرفع، بل ممارسة حية تتجلى فى الفعل المسرحى ذاته. فالمسرح، بوصفه فنًّا حيًّا ينبض بالصراع والحوار، يظل أحد أنبل أشكال التعبير الإنسانى عن التوق إلى التحرر والعدالة.
ورغم المآزق الثقافية والاقتصادية والفنية التى تواجه المسرح العربى، فإن الأمل لا ينطفئ، بل يولد من بين التجارب الشبابية، ومن محاولات التجديد والبحث عن أشكال أكثر تفاعلًا وجذرية كالمسرح الاحتفالى. وترى صليحة أن الرهان على المستقبل يمر عبر استعادة روح الحرية فى الإبداع، وتجاوز القوالب الجاهزة، والانفتاح على الجماهير لا على النخب، والانخراط فى معارك الوعى من داخل الواقع لا خارجه.
هكذا لا يعود المسرح مجرد مرآة للواقع، بل قوة فاعلة فى تغييره. وبهذا المعنى، يصبح المسرح الحر ليس فقط ضرورة فنية، بل ضرورة وجودية لكل مجتمع يطمح إلى التحرر الحقيقى، والنهضة الواعية.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
نبذة عن الكاتبة: د. نهاد صليحة
ناقدة وباحثة مسرحية بارزة، وأستاذة للدراما والنقد المسرحى. شغلت منصب عميد المعهد العالى للنقد الفنى (2001–2003). حاصلة على ماجستير من جامعة ساسكس، ودكتوراه فى الدراما الشعرية الإنجليزية من جامعة إكستر، بريطانيا. عضو باللجنة العليا للمسرح، ولجنة الدراما بالإذاعة والتليفزيون، وعضو فى صندوق دعم الفنانين الشباب “روبرتو شيميتا”.
رائدة فى دعم الفرق المستقلة، وأسهمت فى إطلاق “المهرجان الأول للمسرح الحر” عام 1999.
أشرفت على قسم النقد المسرحى فى جريدة الأهرام ويكلى (بالإنجليزية) منذ عام 1989. حصلت على جائزة الدولة للتفوق فى الدراسات الأدبية عام 2003.
لها العديد من المؤلفات، أبرزها: «المسرح بين الفن والفكر» – «التيارات المسرحية المعاصرة» – «عن التجريب سألوني» – «شكسبيريات”.. وغيرها.