ليلة غرام .. لا يعرفها أحد !!

ليلة غرام .. لا يعرفها أحد !!

العدد 870 صدر بتاريخ 29أبريل2024

اختتم الريحاني موسمه المسرحي بعرض مسرحية «حاجة حلوة» وكتبها الريحاني بالاشتراك مع بديع خيري كالعادة!! وكالعادة أيضاً وجدناها مقتبسة من هنا وهناك بغرض الإضحاك! فقد قال عنها «سوفوكليس» الناقد الفني لمجلة «الجديد» في مارس 1931: «يتوفر في هذه المسرحية الكثير من مواقف الإضحاك وإن كان أغلبها يفتقد عنصر الابتكار، إذ تلقفها المؤلف من هنا وهناك .. ففيها مشاهد ظهرت في السينما أو فصول قرأناها في القصص الصغيرة أو نكات متداولة صيغت في أسلوب مسرحي، ولكننا ضحكنا على رغم عهدنا السابق بمثل هذه المواقف، لأنها اقترنت هنا بتمثيل قوي ظريف».
ورغم ذلك كتب الناقد نقداً صحيحاً نال فيه من الريحاني وعروضه، قائلاً: عهدنا بالريحاني أنه يصور لنا المسرح المحلي .. فعنده شاهدنا بيئات مصرية وعادات مصرية تناول فيها الناحية الفكهة بنقد لاذع مرير فيه من الجد المستتر أضعاف ما فيه من الهزل الطاهر. ولكننا في «حاجة حلوة» بنوع خاص وفي مسرحيات أخرى بنوع عام رأيناه يخرج عن هذه القاعدة! فإذا هو يصور لنا بيئات غريبة عن أذواقنا ومزاجنا لا تشتبه بالمصرية إلا من حيث الأزياء واللهجات، وهذا بلا ريب أهون أنواع التصوير .. فالرواية المترجمة لا يمكن أن تعد مصرية، وإن كان ممثلوها يرتدون الطرابيش ويتكلمون العربية.
أما ناقد مجلة «الفضيلة» فكتب مقالة بها ملاحظات مهمة على العرض، قال فيها: أولاً وقبل كل شيء يجب أن أقول إن هذه الرواية مقتبسة لا مؤلفة وأنها أقرب إلى الفودفيل منها إلى الكوميدي. وقد عمد المقتبسان إلى الرواية الأصلية وجرداها من الموضوع وجعلاها تهريجاً ومجوناً لا أكثر، ولكن مفاجآتها القوية أكسبتها شيئاً من الجدة ومناظر الرواية وسيرها أقوى دليل على أنها مقتبسة!! ولعل أسخف ما في الرواية مواقف منها: زوجة الدكتور لا تعلم بمبيته خارج المنزل إلا من الفراش في الصباح، وهذا غير مألوف لنا إلا إذا كانت الزوجة غضبى من زوجها وهذا ما لا يقول به حضرتا المقتبسان. والموقف الثاني عندما مدت الحماه يدها لتصافح كشكش بيه مع اعتقادها بمرضه المُعدي .. ولعل المقتبسان يعتذران بسهوهما وهذا بعيد الحصول!! والموقف الثالث ما قام به كشكش بيه الدكتور «المزيف» .. فهل الخواجة الذي يصرخ ويستغيث من فرط الألم ولا يستطيع السير إلا مستنداً - وذلك لالتواء قدمه - هل يعقل أنه يغامر بقدمه ويضرب كشكش بيه «شلوتاً»!؟ ثم شخصية الشامي التي لا لزوم لها بالمرة وقد كانت سخيفة مملة متكلفة من المقتبسين ولو حذفت ما كان لها أدنى تأثير في موضوع الرواية. والغريب أنه يتكلم بالشامية القحة بينما زوجته تتكلم المصرية .. هل يعني المقتبسان أنها مصرية؟؟ هذا حسن .. ولكن ألم تكن «خياطة» واسمها «أوجينا»؟؟ وألم يكن الأوفق جعلها «خوجاية». وملاحظتي الأخيرة أن الفصل الثالث «أبرد» الفصول وأبوخها وقد كان كالرقعة في الثوب المهلهل!!
وتحدث الناقد عن عناصر العرض، فقال عن «الإخراج»: المناظر كانت قديمة والملابس عادية ولكنها مناسبة. وقال عن «الألحان»: غير قوية وقليلة ولا أدري ماذا يضير الريحاني لو أنه عني بها .. فإن الموسيقى والغناء من أكبر أسباب نجاح الريفيو. أما «الرقص» فقد قلّ كثيراً في هذه الرواية عما قبلها وكانت المناسبات التي مهدت له ضعيفة. وعن «التمثيل» قال: طبعاً قام الأستاذ الريحاني بدور كشكش بيه ونجيب أستاذ الدور وخالقه فهو مفتقر إلى كلمة إعجاب. وقام عبد الفتاح القصري بدور «شلاطة أفندي» المغفل الأكبر فكان بهجة الرواية هو ونجيب. وقام أخونا محمد كمال المصري بدور فراش العيادة فمثل «العباطة» أبلغ تمثيل وإن كان الدور الذي أسند إليه صغيراً. وأما حسين إبراهيم فهو «حماة» تمام وقد اشتهر بتمثيل أدوار الحريم «الكراكيب». ولم يكن في هذه الرواية «بطلة» قامت بدور مهم بل هي أدوار صغيرة قامت بها مدموازيل «كليوبي» في دور «الخواجاية»، وكيكي في دور «نميسة هانم» وفكتوريا في دور «الخياطة»، ولم يكن حظ الباقيات في الإجادة أقل من هؤلاء. وبعد، فهذه الرواية من أسخف ما يمكن ومع ذلك فهي تعتبر بريمادونا روايات هذا الموسم.
لم تقدم الفرقة جديداً، فأعادت بعضاً من عروضها القديمة استعداداً لمسرحيتها الجديدة «ليلة غرام»! وهذا ما قالته مجلة «المصور» في نهاية مارس 1931، عندما قالت نصاً: «فرقة الريحاني مستمرة في عرض رواياتها القديمة استعداداً لرواية «ليلة غرام»». الغريب أنني لم أجد عرضاً جديداً بهذا الاسم – ولا في تاريخ مسرح الريحاني - بل وجدت مسرحية «كذبة أبريل» التي عرضتها الفرقة في شهر مايو، فظننت أنها مسرحية «ليلة غرام» وتم تغيير اسمها، أو أن مسرحية «ليلة غرام» كانت مشروعاً لم يتم مثله مثل مشاريع كثيرة لم تتم. ولكن المفاجأة أنني وجدت مجلة «المصور» تنشر تقريراً موسعاً – في يوليو 1931 – بعنوان «الموسم التمثيلي المنصرم»، جاء فيه الآتي نصاً: «أخرجت فرقة الريحاني هذا الموسم أربع روايات جديدة فقط هي: أموت في كده، عباسية، حاجة حلوة، ليلة غرام. وإذا استثنينا الأخيرة فقد كانت الثلاث قطعاً مسرحية غاية في الجودة»!! وللأسف لم تبين المجلة – أو كاتب التقرير – سبب استثنائه لمسرحية «ليلة غرام»، ولماذا عدّها مسرحية جديدة، ثم استثناها!! ومهما كانت الأسباب فهذا التقرير يثبت أن العرض تم ولو ليلة واحدة .. وحتى الآن لم أعثر على سبب الاستثناء، ولم أعثر على أية معلومة أخرى حول هذه المسرحية!!
أما العروض القديمة التي أعاد الريحاني عرضها في تياترو «الهمبرا» بالإسكندرية، فهي: حاجة حلوة، وعباسة، وحسن الحلواني، وكانت التذاكر تباع في مطبعة الرغائب ومن السيد منسى الساعاتي الجواهرجي، ومن شركة النسر الأهلية بشارع سليم قبطان .. هكذا جاء في إعلان جريدة «المساء» في أبريل 1931.
وبالعودة إلى موسم الريحاني المسرحي، سنجده يختتمه بعرض مسرحية «كذبة أبريل»، التي شاهدها «علي خليل البرقاني» الناقد الفني لمجلة «المدرسة والحياة»، فكتب مقالة عن العرض ونشره في مايو 1931، قائلاً: كذبة إبريل هي الرواية الأخيرة التي أخرجتها فرقة الأستاذ نجيب الريحاني وبها ختمت موسمها التمثيلي لعام 1930 – 1931 ويروق لي أن أنتهز هذه الفرصة لأقدم لحضرات القراء الأعزاء تلك الشخصية المحبوبة لجمهور الطبقة الراقية من عشاق التمثيل في وصفي لهذه الرواية رغماً عن اقتباسها من رواية أخرى مثلتها إحدى الفرق المصرية باسم آخر لمؤلفها الأول بطل الكوميدي «جورج فيدو» أو ملك المضحكين كما يلقبونه. فقد اعتاد الأستاذ نجيب الريحاني أن يقدم للجمهور روايات من تأليفه بالاشتراك مع الأستاذ بديع أفندي خيري حتى أن كثيراً من الكتاب المصريين قدموا له روايات من تأليفهم ولكنه كان دائم الإعراض عنها لاعتقاده بأنهم لا يستطيعون فهم شخصيته أو شخصية أفراد فرقته. وإذا قلنا أفراد فرقته فإنما نعني بذلك جماعة الممثلين المتفوقين في نوع الكوميدي والفودفيل والريفيو «الاستعراض» ولهذه الرواية موضوع هام وبحث أخلاقي عظيم كثر فيه النقد والكتابة وأخرج على المسرح المصري والأفرنجي كبار الكتاب من مصريين وأجانب رواياتهم بعد أن قتلوا هذا الموضوع بحثاً وتمحيصاً. غير أن كلاً منهم يدلي برأي خاص في معالجة هذا الموضوع وإذا تكلمنا عن الأستاذ نجيب الريحاني كمؤلف لهذه الرواية اتهمنا بالمحاباة. أما كممثل فلنا في ذلك نواح عدة لا نستطيع لها حصر ولا عد ويرجع السبب الأول في ذلك إلى أن رواية اليوم هي رواية «بسلامته بيصطاد» التي مثلتها فرقة السيدة فاطمة رشدي هذا العام للكاتب الفكه «فيدو» وتعريب الممثل الأديب بشارة واكيم. لذلك كانت دهشتنا عظيمة عند مشاهدتنا للرواية وبحثنا عن الكذبة التي بغتنا بها فرأينا أن الاسم لا يتفق مع الموضوع في ناحية من نواحيه اللهم إلا إذا كان نجيب يقصد باسم الرواية كذبة إبريل يقصد المزاح مع الجمهور. ومسرح الريحاني هو المسرح المحلي المصري الوحيد الذي يغذي الجمهور بروايات مصرية من جميع النواحي. مصرية التأليف مصرية العادات مصرية المناظر. بل مصرية في البحث للعادات القديمة منها والحديثة. وليس الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية مخطئ حين أبلغ معالي وزير المعارف إعجابه الشديد بهذا المسرح وتسجيله هذه الشهادة له عن طيب خاطر وتقريره أن هذا المسرح هو المسرح المحلي المصري الوحيد الذي يرى الجمهور فيه عادات بلاده تمثل كما تحدث بحالتها الطبيعية. وقد أظهر المقتبسان للرواية مقدرة عظيمة في تحويرها حتى أننا بعد الفصل الأول التبس الأمر علينا! وفي الفصل الثاني بدأ الشك يداخلنا من ناحية موضوع الرواية! وما أن تم الفصل الأخير حتى تأكد لدينا الشك وأصبح يقيناً من أن الرواية التي نشاهدها هي بعينها رواية «بسلامته بيصطاد»! ولقد كانت دهشتنا أعظم لعلمنا بأن نجيب لا يقبل أية فكرة يقدمها له كاتب مهما كان له من الشهرة العظيمة في عالم التأليف المسرحي ولكنها الحقيقة المؤلمة على كل حال. لذلك كان أسفنا عظيماً في هذه المرة ولو أراد نجيب أن لا يدع شهر إبريل يمر دون أن يقدم لجمهوره رواية تتفق مع هذا الشهر المشهور بالكذب لكان أمامه رواية «العبد الكذاب» التي مثلتها فرقة الأستاذ الكسار منذ ست سنوات لأنها تتفق مع الاسم وتلبس الجسم بل كانت تمر دون أن يعرف الجمهور حقيقتها لمضي الوقت الطويل على تمثيلها ونسيانه لها. وعلى كل حال فقد وفق نجيب في التمثيل كما أبدع باقي أفراد الفرقة في أدوارهم. كنت أود أن أعرض على حضرات القراء ملخص الرواية حتى يقفوا على موضوعها لولا أن الرواية مقتبسة من رواية بسلامته بيصطاد، بل هي بعينها غير تحوير بسيط في الفصل الأول، وهذا التحوير يتلخص في أن كشكش بك «نجيب الريحاني» تزوج من كريمة رضوان بك وهو من موظفي الحكومة المتقاعدين والمتمسكين بالعادات المصرية القديمة لذلك فإنه دائم الخلاف مع صهره لتمسك الأخير بالعادات القديمة وانقياد الزوج إلى المدنية الحديثة فكل يوم يتنقل من صالة للرقص إلى دار للسينما مصطحباً معه زوجة ابنه الأول هذا غير إقامة حفلات «البالّو» في المنزل مما دعا أصدقاء رضوان بك ينفرون منه ويتركونه كما أفسح المجال للدكتور ممتاز ابن عم الزوجة من الاختلاط بها والتأثير عليها حتى أنها أوشكت الوقوع في الفخ الذي دبر لها لسلبه شرفها وتجرؤها على العبث بحقوق زوجها المقدسة. هذا هو التغيير الذي أدخل على الرواية في الفصل الأول أما الفصل الثاني والثالث فهما من فصول الرواية الثاني والثالث والرابع من الرواية الأولى.
انتهى موسم الريحاني الشتوي، وبدأ موسمه الصيفي – في يونية 1931 - عندما انتقل بفرقته إلى الجيزة ليعرض مسرحياته في كازينو «الفانتازيو» بعد تجديده وتغيير اسمه إلى «السمر فوليز». وبسبب الأزمة المالية العالمية، نشرت مجلة «المصور» في أواخر يوليو خبراً بعنوان «مسرح الريحاني الجديد»، قالت فيه: «علمنا أن الأستاذ نجيب الريحاني يسعى لاستئجار قطعة الأرض الواقعة على حافة شارع الملكة نازلي والتي كان يشغلها «سيرك ابن عمار» وهي مملوكة لجمعية الهلال الأحمر، وربما انتهت المفاوضة بين نجيب والجمعية في هذين اليومين. وينوي الريحاني أن يشيّد على تلك القطعة مسرحاً شتوياً كبيراً وصالة متسعة تحوي ألفي مقعد على الأقل. وقيل إنه ينوي فوق ذلك أن يخفض أثمان التذاكر إلى حد كبير على أن يترك مسرحه الحالي بعماد الدين». 
وهذا الخبر أكدته وأوضحته بتفاصيل أكثر المجلة نفسها في أواخر أغسطس، ولكنها في أواخر سبتمبر نشرت خبراً مغايراً، قالت فيه: لقد صادف الريحاني في هذا الصيف حظاً حسناً ولاقى من تشجيع الجماهير الشيء الكثير حتى أنه سيستمر في عمله بالجيزة إلى آخر أكتوبر المقبل، ثم يستعد للموسم الجديد بافتتاح مسرحه «الكورسال» الذي سيبدأ العمل فيه من أول يناير 1932 وسيكون أجر الدخول فيه عشرة قروش للدرجة الأولى وخمسة للثانية. ولا يخفى أن هذا المسرح يسع الكثيرين من المشاهدين.
وفي أكتوبر 1931 وجدنا الريحاني بفرقته يعرضون مسرحية «حاجة حلوة» في سينما أبولون بالزقازيق، ثم في تياترو الألدورادو ببور سعيد. وفي نوفمبر بدأ الريحاني استعداده للسفر إلى فلسطين، وقد ذكرنا من قبل تاريخ عروض الريحاني في فلسطين عندما نشرنا سلسلة مقالات «المسرح المصري في فلسطين قبل نكبة 1948»، وبهذه المناسبة أقول أن رحلة الريحاني  هذه لم تتم، فقد نشرت مجلة «الصباح» في نوفمبر 1931 خبراً عنوانه «منع الريحاني من دخول فلسطين»، قالت فيه: «غادرت الفرقة القاهرة في 28 أكتوبر الماضي فما كادت تصل إلى القنطرة حتى فوجئت بخبر منع حكومة فلسطين لدخولها إلى الأراضي الفلسطينية. وقد تحرينا عن الأسباب التي دعت إلى ذلك فعلمنا أنها ترجع إلى استحكام الضائقة المالية في هذه البلاد ورغبة البلاد في حماية أهلها من إنفاق أموالهم على مشاهدة التمثيل في وقت هم في حاجة فيه إلى القدر اليسير من المال».


سيد علي إسماعيل