اتبحبح والليلة نغنغة!!

اتبحبح والليلة نغنغة!!

العدد 866 صدر بتاريخ 1أبريل2024

عرض الريحاني مسرحية «اتبحبح» في أواخر ديسمبر 1929، فكتبت عنها الصحف الفنية كلمات سريعة مليئة بالمدح والاستحسان، ومنها جريدة «الأفكار»، التي وصفتها بأنها أبدع مسرحيات الريحاني الكوميدية في السنوات الأخيرة، وهي تأليف مشترك بين الريحاني وبديع خيري. أما فحواها فقالت عنه الجريدة: كشكش بك عمدة كفر البلاص رجل تزوج بامرأة تركية وله خادمة سورية. وهو يرتدي ثوب الصلاح والتقوى إذا ما كان بين أهله ومقر عمديته. أما إذا تطرف إلى العاصمة فإنه شيطان رجيم يسمي نفسه زرزور ولا حديث له إلا النساء ولا مسامرة إلا في غرفهن وداخل حجراتهن!! تعرف كشكش على فتاة تركية فاستلبها منه شاب يدعى شركس. ولكشكش ابنة أحبها شركس دون أن يعرف أن أباها هو نفسه كشكش بك الذي يُعرف باسم «زرزور بك». ووالد شركس هذا رجل تركي ووالدته مصرية .. وفي كفر البلاص نجار من أبناء البلد تزوج من امرأة سوداء أبوها فقيه الناحية.
هذا ما كتبته الجريدة لتعرفنا على شخصيات المسرحية، دون أن تحكي لنا قصتها أو تفاصيل أحداثها! وهذا الأمر كان مقصوداً للتشويق، لأن الجريدة قالت بعد ذلك: انظر إلى احتكاك تلك الشخصيات الغريبة وإلى المسرح الذي يحويها ثم أحكم بنفسك على مقدار الضحك الذي قد يميت القلوب من جراء ذلك. حقاً أنها «عصبة أمم» تعيش في مسرح الريحاني وتلعب روايته. وليس في مقدور أحد أن يقوم بتلخيص مثل هذه القصة، فنكتفي بأن نسجل للريحاني نجاحه هذا وأن نقدم له تهانينا القائمة. وقد قام نجيب بدور  كشكش بك، فهل تريد مني أن أقص كيف كان نجيب يصل بتفننه إلى القلوب والنفوس؟ أم تريد أن أصف رشاقته وخفة روحه؟ لا هذا ولا ذاك وإنما أقول بأنني لم أستطع أن أتمالك نفسي من الضحك. وقامت مدموازيل كيكي بدور ابنة كشكش، وهو الدور الأول في الرواية فنجحت فيه وأدته بكفاءة ممتازة. وقام جبران نعوم بدور «الشركسي» والتوني «ابنه» وألفريد حداد «الخادمة السورية» وعبد الفتاح القصري «النجار» وسيد سليمان «زوجته» وحسين إبراهيم «زوجة كشكش» وشفيقة جبران «زوجة الشركسي» والقلعاوي «فقيه الناحية» وإبراهيم فوزي «المغني الأطرش»، فنجح الجميع في أدوارهم تمام النجاح واستحقوا تهانينا القلبية. ولست أنسى بهذه المناسبة أن أخص الفتى المجتهد «إبراهيم فوزي» بكلمة الثناء المستطاب على مجهوده في تلحين الرواية.
والحق يقال: لا أستطيع الحُكم على مسرحية «اتبحبح» في ذلك الوقت، لأنني لم أجد عنها كتابات معمقة أو مقالات كثيرة تعكس اهتمام الجمهور بها! ولعل السبب راجع إلى أنها لم تضف جديداً، ولم تكن إلا تكراراً لعروض الريحاني المعتمدة على كوميديا الموقف وسوء التفاهم كأغلب عروض شخصية كشكش بك! أقول هذا الآن، لأنني سأعود إلى هذه المسرحية – مستقبلاً – عندما أعاد عرضها الريحاني عام 1938 – أي بعد حوالي عشر سنوات – حيث كان تأثيرها كبيراً على الجمهور والفرقة!!
ونعود الآن إلى تاريخ مسرح الريحاني، ونقول: إنه عرض – بعد مسرحية «اتبحبح» - مسرحيته الجديدة «ليلة نغنغة»، وأعلنت عنها مجلة «الصباح» قائلة تحت عنوان «مسرح الريحاني»: ابتداء من يوم السبت أول فبراير سنة 1930 والأيام التالية تمثل لأول مرة الرواية الجديدة تحفة هذا الموسم باستعداد عظيم وقوة خارقة للعادة «ليلة نغنغة». أوبريت ذات ثلاثة فصول تأليف الأستاذين بديع خيري ونجيب الريحاني، تلحين الموسيقار العصري إبراهيم أفندي فوزي. يقوم بالدور المهم الأستاذ نجيب الريحاني بطل الكوميك في الشرق. وبالنظر لأهمية الرواية بقوتها العظيمة ومواقفها العجيبة قد استحضر لها خصيصاً أعظم وأبرع جوق راقصات وهم: ماروجا، آده ريان، مكسيكان. وبمناسبة شهر الصيام سوف لا تمثل الفرقة إلا حفلة ماتنيه واحدة بكل أسبوع، وذلك بكل يوم أحد الساعة السادسة والنصف.
كتب «أبو المعالي» ناقد مجلة «مصر الحديثة المصورة» مقالة عن العرض، بدأها بملخص المسرحية قائلاً: زوّج كشكش بك ابنته من أحد الشبان، وبعد ليلة الزفاف سافر الزوج مباشرة مع زوجته لقضاء شهر العسل في مكان معين، فبينما كان الزوج وعروسه في صالون خاص بهما بذلك القطار فتح عليهما الباب فجأة أحد المفتشين وطلب منهما إبراز التذاكر التي يحملانها فارتاع الزوج لهذه المفاجأة الغريبة، وامتنع من الدنو من زوجته منذ تلك اللحظة، وكان يصور له الوهم دائماً منظر ذلك الرجل وهو يقول له (التذكرة يا حضرة .. فين التذكرة)! فلما عادت الزوجة إلى بيت أهلها أخبرت ذويها بالأمر. فظن أبوها كشكش بك أن المسألة لا بد أن يكون لها أصل!! وهي أن الزوج يعشق امرأة أخرى، فطلب من زوج ابنته أن يدله على مكان عشيقته التي يحبها. ولما كان الأمر بعكس ذلك، ولم يكن للشاب عشيقة، فقد فكر أن ينقذ نفسه من الخجل، وذهب فاتفق مع إحدى الغانيات التي تقيم في بنسيون أن تمثل أمام صهره دور عشيقة له فقبلت بعد أن أخذت منه بضعة جنيهات في نظير قيامها بهذا العمل. فلما ذهب الشاب بصحبة حميه إلى حيث توجد عشيقته السابقة المزعومة رأى كشكش بك نفسه أمام امرأة جميلة فتانة سحرت لبه وأخذت عليه قلبه وحواسه فعشقها وتظاهرت هي له بالحب في الوقت الذي كانت تتظاهر أيضاً لكثير من الرجال بالحب، وكان ضمن هؤلاء المحبين طبيب عائلة كشكش بك الذي ضبطه في إحدى المرات في منزل عشيقته، كما يتضح أيضاً أن من بين عشاق هذه الغانية شخصاً مغربياً متصلاً بالعائلة كذلك، فعندما يرى الزوج الجديد في تلك البؤرة يسرع بإخبار حماته وزوجته فتحضران، ومن ثم يتوالى سيل المفاجآت تباعاً بين كثير من الإغراق في الضحك والإعجاب بتلك الشخصيات الفذة!! 
وعلق الكاتب تعليقاً سريعاً على هذا العرض – في نهاية مقالته – قائلاً: فقد أخرج الريحاني دوره على المسرح قطعة من خفة الروح التي تمتزج بالفكاهة الراقية فاستدر كلمات الإعجاب وكان قبلة أنظار المشاهدين، كما أبدع الفريد حداد في دور الطبيب السوري وكان موفقاً فيه كل التوفيق. ولا أنسى كذلك أن أشير إلى مقدرة القلعاوي في دور المغربي، وعبد الفتاح القصري في دور طلب، ومحمد عبد النبي في دور صابر، وسيد إبراهيم في دور الحماة، كما أذكر المدموازيل كيكي في دور الغانية، وشفيقة جبران في دور الزوجة. وتمتاز فرقة الريحاني عن الفرق الأخرى بما تطلع به على المشاهدين من فرق الراقصين والراقصات الذين يظهرون على مسرحه لأول مرة أمثال الآنسة ماروجا والآنسة آده ريان والمسيو مكسيكان، وكلهم من كبار الراقصين المعروفين.
أما «سوفوكليس» - ناقد مجلة «الجديد» - فكتب عن العرض مقالة هجومية، بدأها بقوله: كان بودي والله أن ألخص للقراء رواية “ليلة نغنغة” التي يعرضها الريحاني في هذه الأيام لولا أني لا أبيح لنفسي أن أنقل إلى القراء هذا اللون المتبجح من ضروب الحرج على الآداب، وتلك التصريحات والتلميحات الجريئة التي تنافي الفضيلة، والتي تبعث دم الحياة ملتهباً في وجوه النساء من الحاضرات. إذ ما ظن القارئ برواية يقوم فصلها الأول على .. على .. على ماذا؟ على عجز أحد الأزواج عن أن يكون زوجاً .. مفهوم طبعاً!! وهذا التعبير أيها القارئ بالنسبة إلى تعبيرات رواية الريحاني بمثابة مقارنة بين ناسك متعبد وسكير فاجر عربيد! على أنه يخيل إلينا مع ذلك أن هذه الإشارات قد لا تصور أمام القارئ الحقيقة التي ترمي إليها. وإنا لنخشى والله ألا نجد وسيلة غير نصحه بالتفرج على الرواية ليشهد معنا بخروجها وتوقحها! لقد كنا نعيب على الأستاذ أمين صدقي حشوه رواياته بالنكات البذيئة والألفاظ الوقحة. أما الأستاذ الريحاني فلم ينح منحى أمين صدقي وإنما أتخذ لروايته موضوعاً وقحاً، فأين قلم المطبوعات [أي الرقابة المسرحية] يوم أجاز هذه الرواية؟ أم أنه لا يجري مداده الأحمر إلا على النكات والتعبيرات، أما الموضوعات ذاتها فلا شأن له بها؟ ومع ذلك فقد كانت ليلة نغنغة مليئة بالجمل الجريئة الوقحة إذ لا يمكن أن يكتب في مثل هذا الموضوع إلا عن طريقها. قد تُغتفر هذه الجرأة - بل تُشجع - إن كان يقصد من ورائها إلى غرض سام كما كان الشأن في رواية «القبلة القاتلة» مثلاً. وقد يُغض عنها إن جاءت فلتة لا تزيد على مرة أو مرتين مثلاً، كما كانت رواية «أكسير الحب». أما أن تنشر هذه الوقاحات فهي ليست مجرد جرأة من أجل الإضحاك فحسب وتكرر وتعاد طوال فصلين كاملين! فهذا أمر لا نقره ولا نرضاه ولا ندري كيف غفل عنه قلم المطبوعات؟
ويستكمل الناقد هجومه ولكن في نواح أخرى من العرض، قائلاً: ويلوح لنا ونحن ممن يتتبع روايات الريحاني باهتمام ويواليها بالتشجيع والثناء أن بهذه الرواية من أوجه الضعف ما لا عهد لنا به في رواياته السابقة! فإذا تركنا جرأة موضوعها وتعبيراتها، وجدناها في غير قليل من التفكك ولا سيما في الفصل الأول حتى ليخيل إلينا أنه من قلم عدة أشخاص لا شخص واحد تنساق أفكاره في محيط واحد. وعهدنا بروايات الريحاني قوية بختام فصولها إلى درجة كبيرة لأنه يعمد فيها إلى الحركة وهي اليوم عماد في الروايات الهزلية. ففي ختام الفصل الأول حفلة الزار شيء من القوة ورغم ذلك كان أضعف مما أعتدناه، على حين كان الضعف بارزاً في ختام الفصل الثاني .. مطاردة العساكر! وفي ختام الثالث بنوع خاص ذلك النشيد الأجوف! والحركة في رأينا في مقياس الضعف أو القوة في ختام الفصول. وكانت روح الفكاهة غير قوية في القصة ولكن الجمهور كان معجباً بها مقبلاً عليها، على الرغم من ذلك، وليس معنى ذلك أنه يحب الفكاهة الضعيفة، ولكن معناه أن ثمة عوامل أخرى تغريه بالإقبال، نستطيع أن نردها إلى ما يلي: أولاً، جرأة الموضوع والتعبيرات فالإنسان مطبوع على الرغبة في التحلل من قيود الفضائل. ثانياً، جرأة المناظر التي لابست حوادث القصة مثلاً طريقة تبخير العريس! ثالثاً، وجود عناصر جديدة في الرواية ونعني الرقصات الأسبانية! فوجه الراقصة وله في النفوس على الأقل حلاوة وجاذبيتها تلك في رأيي هي العوامل التي أكسبت الرواية قوتها ونجاحها على الرغم من الضعف الذي يعتورها! ولنا ملاحظة أخيرة عن تكوين الرواية نرجو أن يتلافاها الأستاذ الريحاني، وهي أنهم أطالوا في الفصل الأول إلى درجة الإملال فيما يتعلق بتسمية الطفل! فيحسن بهم أن يختصروا هذه النقطة قليلاً.
ويستمر الناقد في مقالته قائلاً: ننتقل إلى الكلام على الرقص فنقول: إن في هذه القصة ظاهرتين جديدتين تتصلان به، أولاها أننا بعد أن كنا نرى الراقصات يخرجن إلينا بغتة وبلا تمهيد كالنباتات الشيطانية أصبحن لا يظهرن في هذه الرواية إلا في مناسبة معقولة يقبلها الذوق ولو إلى حد ما. ولقد سبق أن لفتنا نظر الأستاذ الريحاني إلى ذلك واقترحنا عليه إما خلق المناسبات الملائمة لظهور الراقصات، أو إظهارهن عقب انتهاء الفصول أو قبل ابتدائها مباشرة، وخلق المناسبة أصلح الحلول بلا ريب. والظاهرة الثانية هي التجديد الذي أدخله على الرقص والراقصات .. فقد نبهنا من قبل إلى التشابه التام الموجود بين شتى أنواع الرقصات التي ظهرت على مسرح الريحاني في الموسمين الأخيرين وألححنا بوجوب الابتكار وضرورته وإلا تسربت السآمة إلى نفوس النظارة بتلك الرقصات التي لا تتطور أو تتغير ويلوح لي أن الأستاذ الريحاني قد أخذ برأينا فضم إلى فرقته في هذه الرواية راقصة جديدة بارعة فتنت الجمهور برقصاتها الأسبانية العنيفة، حتى كان يستعيدها في كل مرة تظهر فيها. وإنا لنرجو أن تراعي هذه الراقصة الجديدة تغيير رقصاتها بتغيير الروايات بل إنا لنطلب أيضا ألا تكون جميع الرقصات متشابهة الأصل والطبيعة وإلا فترت قيمتها كالفرقة التي سبقتها.
وربما يشعر القارئ الآن – والمتتبع لهذه الحلقات – أن مضمون أو فكرة مسرحية «ليلة نغنغة» مرّت علينا من قبل .. وهذا حقيقي!! فلو عاد القارئ إلى الحلقة رقم «25» سيجدها عن مسرحية «الجنة» التي عرضها الريحاني عام 1926، ولكنه لم يكتبها ولم يكتبها أيضاً بديع خيري، بل كانت من تأليف «هانكان» وترجمها السيد ولي وأحمد جلال!! لذلك أعاد كتابتها الريحاني وبديع – مع تغييرات في بعض المواقف – فأصبحت «ليلة نغنغة»!! هذا الأمر لم يكتشفه حينها إلا الناقد «أبو المعالي» وأشار إليه في مقالته المنشورة في منتصف فبراير 1930.


سيد علي إسماعيل