انقسام النص/ الأداء (1-2)

 انقسام النص/ الأداء (1-2)

العدد 614 صدر بتاريخ 3يونيو2019

لم يهيمن أي موضوع على الثقافة المعاصرة في دراسات المسرح والأداء، أكثر من انقسام النص/ الأداء. بداية تقييم سوزان هاريس سميث Susan Harris Smith في عام 1989 لتحيزات الدراما المضادة Anti - dramatic bias في كل من النماذج الأساسية والرجعية في الأدب الأمريكي، مرورا بنقد بيل وارزين W.B.Worthen في عام 1995 للافتراضات الكامنة في دراسات الأداء الذي نشر في مجلة (تولين دراما ريفيو TDR)، وصولا إلى عدد من المحاولات لفهم العلاقة بين نماذج المعنى النصي والمعنى الأدائي، وقد بدأ المتخصصون بجدية استكشاف عدم التناسب الواضح رغم ذلك في الترابط المستمر بين النصوص والأداءات. وعلى الرغم من أن ذلك يعود إلى التحيز المسرحي المضاد الواضح في كتابات أفلاطون، فإن انقسام النص/ الأداء – كما نعرفه – هو تشكيل حديث بوجه خاص، إذ تطور هذا التشكيل الحديث في نهاية القرن العشرين من النقاش الأكاديمي الذي عزل الدراسة النصية عن ممارسة الأداء. وفيما يلي سوف أوضح أن منظري الشعر مثل جورج سانتيانا George Santayana، وت. س. إليوت T. S. Eliot وجدوا أن المعنى في النص وحده، في رد فعل لتعاليم أستاذ التربية س. س. كوري S.S. Curry، الذي يزعم أن المعنى كان وظيفة الصوت والإيماءة أيضا. وأخيرا، لحل تشكيل المجالات المنفصلة، فقد طرح هذا النقاش سؤال أين يكمن المعنى: هل يكمن في الكلمات وحدها، أم في الأجسام التي تمنحها الصوت؟

ولم تكن مثل هذه الأسئلة هي ببساطة مجال أقسام الأدب والمسرح. وبقدر ما أثارت الاهتمامات العامة حول طبيعة التجربة الإنسانية، إذ تم تناولها أيضا بواسطة أقسام الفلسفة.
وفي الجزء الثاني من هذه الدراسة سوف أدرس باختصار التقاليد التحليلية والظاهراتية في أوائل القرن العشرين، لكي أوضح أن التعارض الذي يقومان عليه هو بشكل أساسي نفس التعارض الذي يقوم عليه انقسام النص/ الأداء. وكما أزعم، فإن التزاوج بينهما يكمن في علاقة داخلية/ خارجية بين الذات الواعية وموضوع بحثها، حيث يكون القارئ في انقسام النص/ الأداء، إما داخل النص الذي يؤديه أو خارج تفسير معانيه، وفي الانقسام القاري/ التحليلي، إما أن تكون الذات الواعية داخل موضوع بحثها عن طريق وعي متسامٍ (ترانسندتنالي) أو خارج اللغة الشكلية التي تُسجل بها قيمة حقيقة الشيء. وبتحديد تعارض الداخلي/ الخارجي باعتباره الفرضية المشتركة في كل منهما، أختتم باقتراح منهج تحليل جدلي يمزج المميزات ويتفادى مع ذلك قيود كل منهما. وكما هو مطبق في دراسات الأداء المسرحي، يقدم هذا الاقتراح العلاج الممكن لإصلاح انقسام النص/ الأداء الذي أزعج دراسات المسرح منذ القرن الماضي.
•  التشكيل الحديث لانقسام النص/ الأداء:
في دراستها “الدراما الأمريكية: الفن المخادع American Drama: The Bastard Art”، تتابع دراستها التي سبق أن نشرتها في مجلة American Quarterly باقتفاء أثر الجذور التاريخية للتحيزات الدرامية المضادة التي تلاحظها في الدراسة الأدبية الأمريكية. وما اكتشفته هو أن هذه الجذور، بينما ترجع إلى عدم الثقة التطهرية في التمثيل المسرحي، فإنها تغذت على عدد من الشروط التي ترسبت في القرن التاسع عشر، من بينها فقدان حماية حقوق الطبع بالنسبة للأعمال الدرامية، وتقديم تأكيد على العرض (في مقابل السرد)، وتسويق المسرحيات بإلحاح عاطفي (في مقابل الإلحاح الفكري). وفي نهاية القرن العشرين، رغم ذلك، بدأت هذه الظروف تتغير لأن الفن وحركات المسرح الصغيرة بدأت في رعاية المواهب الشابة وتذوق المشاهدين لدراما أدبية جادة. ولسوء الحظ، فقد اعتمدت المسرحيات التجريبية التي قدمتها هذه الجماعات على الإشارات السياقية، جعلتها لا تصلح كنموذج للاستقلالية النصية وسرعان ما أصبحت ذات طابع مؤسسي في أقسام اللغة الإنجليزية بواسطة النقاد الجدد New Critics. ولذلك حددت “التحيزات الدرامية المضادة” شكل دراسة الأدب الأمريكي.
وفي الآونة الأخيرة، أوضح “مارتن بوشنر Martin Puchner” أن الدراما الحديثة تحمل مثل هذا التحيز، مدعيا أنها تكشف عموما “مسرح على خلاف مع قيمة المسرحانية”. وبتحليل كُتاب مثل ستيفان مالارميه Stephane Mallarme، وجيمس جويس James Joyce، وجرترود شتاين Gertrude Stein، يميز بوشنر ميلا إلى الدراما القرائية Closet Drama - وهي دراما ليست معنية فقط بالقراءة، بل هي تلك التي يتم تحقيقها داخل تخيل القارئ. ويدرس أيضا أعمال كتاب مسرح مثل و. ب. ييتس W.B. Yeats وبرتولت بريخت Bertolt Brecht، وصامويل بيكيت Samuel Beckett، ويقترح أن أعمالهم هي “دراما سردية diegetic drama” – وهي الدراما التي يتحكم فيها الكاتب المسرحي في المسرحانية (مثل الدراما القرائية إن لم يكن ذلك مستنكرا). ويجادل بوشنر بأن كلا الخطين يكشفان إلى أي مدى تسعى الدراما إلى مقاومة المسرحانية.
في حين أن بوشنر وسميث على صواب في ملاحظة تحيزات درامية مضادة في كل من الأساس النقدي الأدبي والدراما نفسها، إذ لم يحدد أي منهما المنشأ الثقافي لهذا التحيز أو وصف مبرراته. وكما أوضحت، فإن هذه النشأة في التاريخ الثقافي لحركة الثقافة التعبيرية، وهي حركة واسعة النطاق تؤيد فنون الأداء باعتبارها ترياقا للحداثة، والأكثر تحديدا في السلسلة المؤثرة للحداثة الأدبية الرفيعة التي تطورت كرد فعل لها. والنموذجان المرتبطان بهذه الحركة الثقافية ورد فعلها هما على التوالي س. س. كوري الذي تؤكد نظريته في التعبير على تناسق نماذج معنى الجسم الثلاثة (اللفظي، والصوتي، والتمثيلي)، وت. س. إليوت الذي أكدت مقالاته النقدية المبكرة على استقلال النص الشعري. ولكي نفهم النقاش الذي دار حول الموقفين اللذين يمثلهما هذان النموذجان، فيجب أن نخوض في التاريخ الثقافي لحركة الثقافة التعبيرية.
وبضم الشعر والدراما، والموسيقى والرقص، علمت حركة الثقافة التعبيرية أنه يمكننا أن نتجاوز التأثير اللا إنساني في العصر الحديث من خلال أشكال التعبير هذه. إذ قدمت الثقافة العبيرية برنامج تدريب صُمم لتخليص الجسم من العادات السيئة في التنفس والكلام والإيماء والحركة، التي إذا تُركت دون رادع، ثبطت التعبير الذاتي الصادق. وقد كانت هذه العادات السيئة، التي كان مؤيدوها نتيجة مباشرة، لأنها سمحت لظروف التحرر من التحديث بتغيير إيقاعات الجسم الطبيعية. ومع اقتراح تعديل تلك الإيقاعات الطبيعية والسماح بتعبير ذاتي أكثر حرية، وعدت حركة الثقافة التعبيرية بإعادة تأسيس علاقة الفرد بالقوى الروحانية في الكون.
وبتقديمها خلال برامج شوتوكوا ومدارس التعبير المستقلة، استمدت تعاليم حركة الثقافة التعبيرية أعمال أستاذ فن الخطابة في جامعة بوسطن س. س. كوري، الذي غيرت نظريته في التعبير ممارسة الخطابة عن طريق نقل التركيز بعيدا عن نطق الأصوات في اتجاه تعبير جسدي كامل عن الأفكار. وقد كانت هذه النقلة ضرورية بشكل كبير داخل نظام الجامعة الأمريكية في نهاية القرن العشرين، عندما أعيد تكوين مختلف المجالات التقليدية للدراسة في المجالات العلمية، مع الحفاظ على نموذج معهد البحث الألماني. ولذلك، لكي نعرّف الخطابة من جديد كعلم، حدد لها كوري ومستشاره لويس ب. مونرو Lewis B. Monroe نظرية وتطبيقا جديدين. وقد كانت هذه النظرية هي النزعة الترانسندتنالية الأمريكية، وكان تطبيقها هو توليد مختلف نماذج الاتصال التي تم ملاحظتها وتسجيلها بواسطة الموجه الفرنسي فرنسوا ديلسارت Francois Delsarte.
وعلى الرغم من أن ديلسارت صار منسيا، فقد أحدث منهجه ثورة في الأداء الصوتي والمسرحي في القرن التاسع عشر عن طريق تقديم المؤدين لنموذج أكثر واقعية في الحركة الإنسانية التي استطاعوا توليدها على خشبة المسرح. وقد جاءت واقعيتهم من ملاحظات ديلسارت للناس في الشوارع والحدائق والمقاهي في باريس. وبتسجيل التعبيرات والمواقف والإيماءات التي شاهدها، فقد جمعهم ديلسارت في نظام شامل حيث وضع معنى محددا لكل منها. وبتقديمها إلى الولايات المتحدة الأمريكية بواسطة تلميذه ستيل ماكاي Steel Mackaye، كان منهج ديلسارت مثل النظام الكلاسيكي الجديد للإيماءة البلاغية في تدوينها للحركة الجسمية. وبعكس الذوق الكلاسيكي الجديد، رغم ذلك، يقال إن معانيها اكتشفت في الطبيعة، فضلا عن إنتاجها التقاليد، باستنادها إلى ملاحظات ديلسارت التجريبية. وبهذه الطريقة، قدمت الأساس العلمي لنظرية التعبير عند كوري.
وبداية من الانطباعات الذاتية التي أثارها النص داخل عقل القارئ، سئل تلميذ كوري أن يضع مفهوما لمعنى العمل ككل. ثم، بعد التركيز على مختلف النماذج والصور التي قدمت ذلك المفهوم، تعلم أن يستخدم الوسائل التعبيرية لكل جسمه لكي يوصل ذلك المعنى للمشاهدين. إذ تضمنت تلك الوسائل التعبيرية لغات الجسم البدائية الثلاث: اللفظية (الرموز المتعارف عليها في اللغة) والصوتية (مثل لون نغمة الصوت والتموجات التي تسجل العاطفة) والتمثيلية (الإيماءات والسلوكيات الجسمية). وعلى الرغم من أن الثقافة الحديثة قد ميزت هذه اللغات الثلاث، التي أبعدت المتكلمين غالبا عن وسائلهم الجسمية في صنع المعنى، فقد استطاع طلاب الثقافة التعبيرية أن يتعلموا إعادة هذه الوسائل إلى انتظامها ومنحوا أفكارها كذلك تعبيرا مؤثرا. بالطبع، كان ذلك من خلال الاستخدام الموحد والمؤثر لهذه اللغات حتى يستطيع الخطيب أن يثير التوحد العاطفي لسامعيه لكي نجعل التصورات التي أكدت نفسها للخطيب تؤكد نفسها لهم.
ومشكلة منهج كوري – كما أشار فيلسوف هارفارد جورج سانتيانا – أنه وضع معنى النص داخل العالم الروحاني، مقترحا أن يصبح الطالب متفهما لتجليها لكي ينقل المعنى الحقيقي للنص. وفي دراسته “مبادئ ووظيفة الشعر Elements and functions of poetry” يتحدى سانتيانا ضمنا الافتراضات المتضمنة في منهج كوري. وبينما يعترف بأن العواطف هي المادة التي يصنع منها الشعر، يستمر في التأكيد بأن الشعر لا يقدم لنا تجربة غير محدودة لهذه العواطف وهي تحدث في العالم الطبيعي، فضلا عن أنه يقدم لنا العواطف التي تحولت أولا داخل خيال الشاعر. ويؤكد سانتيانا أن مفتاح نجاح الشاعر يكمن في قدرته على إيجاد الشيء الرابط الذي يمكن التعبير عن العواطف من خلاله. ويؤكد سانتيانا أن هذا التعبير مصطلح مضلل يوحي بأن شيئا ما كان معروفا مسبقا يعاد تقديمه أو محاكاته، في حين أن التعبير ذاته هو حقيقة أصيلة، وهي القيمة التي تحال بعد ذلك إلى الشيء المعبر عنه، بقدر ما ينسب صاحب الألقاب الصينية إلى أبويه. ولذلك، السحر الذي يضفيه الشاعر على المشهد أو الحدث، من خلال فن مزج الصور وظلال العواطف يرتبط بالممثل الأساسي فيه، الذي يستفيد من تزويد نفسه بعقل مجهز جيدا. بمعنى أن التعبير – كما نظّر له كوري – لا ينسب فقط إلى القصيدة مهارة الشاعر، بل ينكر بشكل مؤثر أيضا الطاقة الشعرية باقتراح أن الشاعر هو ببساطة ممر لحقيقة عامة أوسع يدونها الشاعر على الورق.
وعندما كان إليوت طالبا في هارفارد في العقد الأول من القرن العشرين، كان يعرف كل شيء عن التعبير والحركة التعبيرية. بالإضافة إلى أنه كأحد تلاميذ سانتيانا، كان ملما تماما بأسلوبه النقدي. في النهاية، فقد استمد من سانتيانا مفهومه عن «المعادل الموضوعي objective correlative» وركز اهتماماته من حول هذه العبارة على اللغة وقدرتها على التعبير الكامل عن المعنى الذي يقصده المؤلف. وقد ظهرت تلك العبارة لأول مرة، بالطبع، في دراسته «هاملت ومشكلاته Hamlet and his problems» عام 1919. وفيها يشرك نقد نيتشه لمسرحية شكسبير الشهيرة، التي يجادل فيها بأن مشكلة المسرحية تكمن في تأكيدها المبالغ فيه على اللغة. وبالنسبة لنيتشه، فإن المسرحية هي ببساطة أحد أمثلة الدراما في فترة ما بعد يوربيدس، التي سيطر فيها الحوار الأبوللوني المنطقي، أو بالطبع، التي أكملت فيها الموسيقى الشعور الديونيسي الذي كان ذات يوم هو الجزء المكمل للطقس الدرامي. ويؤكد نيتشه، أن الدراما بدونه تميل إلى الإلحاح على مبدأ التفرد principium individuatiois، وتفشل في نقل المشاهدين من وعيهم الفردي إلى تجربة الجماعة. ورغم ذلك فقد شخص إليوت مشكلة المسرحية بشكل مختلف، إذ فشلت في رأيه لأن شكسبير لم يستطع أن يعبر باللغة عن العواطف المحفزة لحوار هاملت. ولعلنا نلاحظ أنها ليست مشكلة تفسير الممثل للشخصية، بل المشكلة في بناء المؤلف للشخصية بالكلمات. وبتقديم مصطلحه النقدي الشهير، يفسر إليوت أن الطريقة الوحيدة للتعبير عن العواطف في الشكل الفني تكون عن طريق إيجاد “معادل موضوعي”، بمعنى مجموعة الأشياء، والموقف، وسلسلة الأحداث التي سوف تكون هي صيغة تلك العاطفة الخاصة، بحيث إنه عندما يتم تقديم العواطف الخارجية، التي يجب إنهاؤها في تجربة حسية، يتم استحضار العاطفة على الفور. وفي حين اعتقد نيتشه أن معنى الدراما لا يمكن اختزاله إلى لغة، أكد إليوت أنها يجب أن تكون كذلك.
ومثل سانتيانا، تحدى إليوت ضمنا نظرية كوري في التعبير بتأكيدها على تكامل لغات الجسم الثلاث. ومثل معلمه، يقترح أنها لا تفسر بشكل ملائم أهمية العمل المهم الذي يؤديه الشاعر على المستوى اللفظي. فعلى الرغم من أن كوري سمح بأن يكون ذلك التعبير اللفظي هو أتم وأنسب وسيلة لتوضيح الأفكار، فقد أكد أن أنه ليس ملائما في حد ذاته، إذ تكمل اللغتان الصوتية والتمثيلية التعبير بتقديم الفروق التي يمكن أن تزيد أو قد تقلب المعنى المفترض للنطق اللفظي. فالكاتب يرتب أفكاره ومساعيه لتجسيد فكره في كلمات. ويفسر كوري قائلا “بينما لا يسعى المتحدث فقط إلى تجسيد أفكاره في كلمات، بل أيضا يكشف كل أطوار التجربة التي تنشأ من تلك الأفكار أو ترتبط بها من خلال تناغم كل لغات شخصيته الحية، إذ لا ينبغي عليه أن يملك الكلمات الملائمة، بل يجب أن يملك أيضا النغمات والتأثيرات والعواطف والحركات التي تحيا في أعماق روحه”.
وفي كثير من مقالات إليوت النقدية في العشرينات، وضح نقده لنظرية كوري في التعبير، من خلال دحض زعمه بأن النماذج الأدائية للمعنى كانت ضرورية لنقل معنى النص. ففي دراسته «إمكانية الدراما الشعرية The Possiblity of a Poetic drama» (1920)، نرى أن تحيزات إليوت الأدائية المضادة واضحة في زعمه بأن الأداء هو أكبر عقبة أمام إبداع الدراما الشعرية. ويجب أن نأخذ في اعتبارنا عدم ثبات أي فن – الدراما والموسيقى والرقص – يعتمد على التمثيل بواسطة المؤدين، إذ يزيد تدخل المؤدين من تعقيد الظروف الاقتصادية التي قد تكون ضارة في حد ذاتها. والصراع المستتر بين المبدع والمفسر هو صراع لا مفر منه تقريبا. فمن المؤكد أن يتمحور اهتمام المؤدي حول ذاته: سوف يشهد القليل من المبالغة من جانب الممثلين والمؤدين، فالمؤدي لا يهتم بالشكل بل إنه يهتم بفرض الإجادة أو في التواصل مع شخصيته.
ورغم ذلك، في حياته المهنية فيما بعد، يبدو أن إليوت اتخذ موقفا أكثر تنافرا تجاه الأداء، وبقيامه لكتابة عدة مسرحيات طويلة، ساعدت كتاباته النقدية المبكرة في تأسيس تحيز أدائي مضاد في الحداثة الأدبية الرفيعة. وحقيقة، إن مسرحياته اللاحقة نالت استحسانا نقديا بسبب خصائصها الأدبية التي تتحدث عن نوع الأدب الذي تم تحديده في كتابات نقدية مبكرة حول قدرة هذه المسرحيات على التوافق مع هذا التعريف. ومن خلال التقنين داخل الجامعة الأنجو أمريكية من خلال النقاد الجدد، كليننث بروكس وبوبرت هيلمان وأي. أ. ريتشاردز وف. ر. ليفيس، حمل  نموذج الحداثة الرفيعة المؤثر هذا تحيزا في داخله ضد الأنواع الأدائية الصريحة، التي كما يبرهن سميث في لباقة، قد جعلت الكثير من الأعمال الدرامية ذلك الفن المخادع. ومع باستبعادها بشكل فعال من أقسام اللغة الإنجليزية من خلال تبني معايير أدبية مضادة للأداء، فقد أقامت ممارسات التعبير سلطتها الخاصة داخل هيكل الجامعة مع تكوين أقسام المسرح. ونتيجة لذلك، فقد تفاقم الطابع المؤسسي لانقسام النص/ الأداء داخل الأكاديمية.
• انقسام النص والأداء في الفلسفة الغربية في القرن العشرين
على الرغم من تركيزها بشكل أساسي على مشكلة التفسير الأدبي، فقد انتشر انقسام النص/ الأداء في مختلف مجالات الفكر الحديث أيضا. بالطبع، يمكن رؤية ذلك في هيكلة الفكر نفسه داخل التقاليد الفلسفية الغربية في القرن الماضي. ولنتأمل الفرعين الرئيسيين في الفلسفة في فكر القرن العشرين، وهما التقليد التحليلي عند برتراند راسل Bertrand Russell والتقليد الظاهراتي (الفينومينولوجي) عند إدموند هوسرل Edmund Husserl. وعلى الرغم من تميزها نموذجيا باعتبارها اختلافا بين أقسام الفلسفة الأنجلو أمريكية وأقسام الفلسفة القارية (بمعنى الفرنسية والألمانية)، والفرق بين التقليدين، هو أقل جغرافيا من أنه تقليد منظوري. لأن كليهما، كما أوضح جان باتوكا Jan Patocka، يستمدان من أعمال جوتلوب فيرج Gottlob Ferge، وكليهما حاولا أن يتأملا الفلسفة داخل علم أكثر صرامة. ففي حين تمرس تحليل راسل على العلاقات الشكلية بين القضايا في الأطروحات التي وضعت عن العالم. وركزت ظاهرتية هوسرل على الذات الواعية التي انغمست في تلك العلاقات مع العالم. إذ ابتكر راسل علما من البناء المنطقي، وابتكر هوسرل علما من المعرفة التجريبية. وسوف نوضح فيما يلي أن الفرق بين الاثنين هو الذي يتضمن أساسا انقسام النص/ الأداء.
عندما نشر هوسرل كتابه “فلسفة الرياضيات Philosophy of Arithmetic” في عام 1891، وجد أنه يجب عليه أن يتأمل فرضيته بأن الاستفسار الرياضي يكمن في مجمله في الذات الواعية، وذلك بعد مراجعة نقدية لفيرج استدعى نزعته الذاتية إلى السؤال. وبشكل ملحوظ، أعطى هوسرل، في الحقيقة، اعتبارا كبيرا لنقد فيرج، واعترف بالافتراضات المؤكدة في أعماله. ولا سيما عندما يرفض الحشو الذي يقول إن كل الأفعال ذاتية بالضرورة، حيث، مثلا، تجريد الرقم من مجموعة معينة يمكن أن يفهم باعتباره عملية نفسية، فضلا عن إدراك تصنيف قبلي للمعرفة. وبالنسبة لفيرج، هذه النزعة الذاتية الملحة تصالحت مع نقاء المنطق الصوري بإنكار إمكانية وجود تصنيفات عامة للمعرفة يمكن أن توجد بمعزل عن فهمنا لها. وقد جعله نقد فيرج يدرك أن العلاقة بين الذات الواعية وموضوع معرفتها لم يكن مفهوما بشكل ملائم.
وابتهاجا بالنزعة المتصوفة في العصاب noumena المنسوب إلى كانت Kant، ركز هوسرل اهتمامه على الظاهرات، الأشياء الفعلية في العالم، ولكن الأشياء التي يراوغ جوهرها الفهم العادي. وكان منهجه في الظاهراتية معنيا بكشف ذلك الجوهر (الشيء في ذاته وفقا لمصطلحات كانت)، ولكن بدون اللجوء إلى النظرية التأملية، فيصوغها هوسرل باعتبارها علما. وكما رأينا فعلا، كان هذا العلم هو نموذج المعرفة المسيطر في مطلع القرن العشرين، الذي زعم لنفسه سلطة على المجالات الأخرى. إذا لم تكن الفلسفة أقل عرضة لسيطرة العلم في البحث الأكاديمي الألماني من الخطابة في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد كانت بالطبع استجابة لتوبيخ فيرج اللاذع لنزعته الذاتية التي انطلق منها هوسرل لصياغة منهجه المعرفي في علم صارم في كتابه “بحوث منطقية Philosophical investigations” (1900 - 1901).
لقد بدأ هوسرل بالتمييز بين نوعين أساسيين من المعرفة: الأولية، والنفسية. إذ كانت المعرفة الأولية هي تلك المتاحة من خلال الانغماس الحسي بالعالم التجريبي، فالألوان والملمس والأشكال والرائحة، كانت هي الأشياء التي يمكن معرفتها من خلال المواجهة المباشرة مع العالم. والمعرفة النفسية من الناحية الأخرى، هي المعرفة القبلية والبديهية والقاطعة. إنها المعرفة التي ليس لها مدلول بالضرورة في العالم الحقيقي. ولكن هذين النوعين من المعرفة، كما زعم هوسرل، أنهما ليسا منفصلين ولا حصريين. بمعنى أننا لكي نتغلب على مشكلة قديمة جلبتها لنا المعرفة الأولية أو الحسية من تجربة مع العالم الخارجي، بينما المعرفة القبلية أو القاطعة هي تجربة داخلية، فقد أكد هوسرل أن كلا نوعي المعرفة يتعلقان بنوعي التجربة. بمعنى آخر، يمكننا أن نتخيل فيلا بنقط وردية وخضراء (حيث يمكن أن تظهر المعرفة الحسية في شكل نفسي)، ويمكننا أيضا أن نعايش، مثلا، الزمن من خلال الإحساس بعمر جسمنا (حيث يمكن أن تظهر المعرفة القاطعة في شكل حسي). وكما يلاحظ مؤرخ الفلسفة جوناثان ري Jonathan Ree أن ظاهراتية هوسرل يمكن أن توصف بأنها توحد الاتجاهين الكبيرين في الفلسفة منذ ديكارت، فهي من ناحية، الاهتمام المحبب بالمفهوم الحتمي وربما الفوضوي عند لوك Locke وبيركلي Berkeley وديدرو Diderot، ومن الناحية الأخرى، التفسير الصارم للأشكال المتسامية (الترنسندنتالية) المنتظمة عند كانت. ولكن الأكثر من توحيد هذين الاتجاهين، كما يناقش جوناثان، أن هوسرل قد حل التناقض الضمني بين المعرفة الداخلية والمعطيات الخارجية التي أزعجت الفلاسفة لعدة قرون. إذ حاول الفلاسفة الظاهراتيون أن يقنعوننا بأن تجربتنا هي بالأساس تجربة ذاتية، ولكنهم كانوا يتجاهلون المرجعية الدنيوية التي لا يمكن كبتها من كل تصوراتنا. فالعالم ليس مستدركا، وخاصية نستنتجها مبدئيا من الترابطات المنتظمة بين أفكارنا، ولا هو شكل ذاتي هندسي ثلاثي الأبعاد نلتزم من خلاله بأفكار معينة من أجل تمييزها عن التجارب الداخلية التي تحدث فقط في البعد الأحادي للزمن. وبدحض تعارض القرون القديمة بين التجربة الذاتية الداخلية والعالم الخارجي الذي نعيش فيه، فتح هوسرل طريقا جديدا لتأمل المعرفة كتجربة ذاتية كانت موجودة في العالم. فهوسرل، كما يقول سارتر، قد حررنا من الفلسفة القديمة في الحياة الداخلية. حيث كنا في النهاية في الهواء الطلق واستطاعت الفلسفة أن تتنفس من جديد.
كانت حقيقة مغزى ظاهراتية هوسرل أنها فهمت العالم باعتباره موضوع المعرفة والسياق الذي تم الحصول على المعرفة من خلاله. فالعالم بالنسبة لهوسرل لم يكن مجرد المكان الجامد الذي تملك فيه الأشياء على وجودها التجريبي، ولم يكن ببساطة المكان الذي نضع فيه تجاربنا الذاتية، بل كان البيئة المحكمة، الدينامية رباعية الأبعاد – أو الأفق وفقا لمصطلحات هوسرل – الذي نشارك فيه بمعرفة الأشياء التي نعرفها. وقد كان ذلك لتنقية معرفتنا لمثل هذه الأشياء من تلوث الذاتية وواقع الوجود التجريبي في العالم الذي طور هوسرل من خلاله منهجه الظاهراتي باعتباره علما. وقد كان مفتاح هذا المنهج هو عملية الاختزال التي بموجبها تعلمت الذات أن تضع الأشياء بين أقواس بعيدا عن سياق العالم لكي تفهم جوهرها الحقيقي، الذي جعلها كما هي عليه وليس شيئا آخر. ولذلك حدد الذات الواعية لكي توجه وعيها نحو موضوع البحث بفعل قصدي لا يختلف عن منهج تأمل الفكرة عند كوري. ثم بالتركيز على ملامح هذا الموضوع (غالبا الملامح التي تقدم إلى الوعي من خلال الحواس) يستطيع الوعي القصدي أن يستنتج ما إذا كانوا منشئين لهذا الشيء أم مجرد أعراض له. فمثلا، قد تكون حمرة التفاحة منشئة لهذه التفاحة بعينها، ولكنها ليست منشئة بالضرورة لكل التفاح. ولذلك، يمكن أن تعتبر تلك الخاصية غير جوهرية بالنسبة لطبيعة التفاح. وكما يوضح هذا المثال، فإن الوسيلة التي تستطيع من خلالها الذات الواعية أن تستنتج الطبيعة الأساسية للشيء تتم عن طريق تخيل كل المتغيرات الممكنة في السمات المحددة من أجل عزل تلك السمات الأساسية والمنشئة لهذا الشيء على ذلك النحو. وبمجرد الوصول إلى هذا الفهم للشيء، ويتعرف الوعي القصدي على جوهره، وهو المعنى الجوهري فيه، وهو المعنى نفسه القادر على أن يسمو بأي وعي قصدي ويقدم لوعي آخر. وبهذه الطريقة استطاع هوسرل أن يتجنب تهمة الذاتية (من خلال مفهوم التسامي) علاوة على قيود النزعة التجريبية (فكان جوهريا بهذا المعنى، وغير ملزم بواقعية الشيء نفسه، مثل تصنيفات القبلي والمجرد في الرياضيات).

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح