جماليات مسرح الشارع (2-2)

جماليات مسرح الشارع (2-2)

العدد 753 صدر بتاريخ 31يناير2022

مع تطور الزمن وتطور الخبرة البشرية بدأ مسرح الشارع يخرج من فكرة طرح القضية الاجتماعية إلى فضاءات أخرى من المواجهة، لا يكتفي بطرح القضايا إنما يناقش التفاصيل المحيطة بها عبر لغة كاشفة تعري الواقع، وهذا ما حدث مع تجربة «مسرح الشارع في أمريكا»، وهو مسرح سياسي راديكالي يقدم عروضه في الشوارع والمدارس والمراكز التجارية وخارج بوابات المصانع، أو في أي مكان يمكن أن يتجمع الناس فيه.
«إنه مسرح بسيط، تمارس فيه الفرق المسرحية نشاطها بصورة واعية لدورها كوسائل للدعاية لصالح حركات اليسار واليسار الجديد، وهي تمثل -شأنها في ذلك شأن تلك الحركات نفسها– نوعا من رد الفعل إزاء تصدع الحياة الاجتماعية في أمريكا المعاصرة»(1).
إذن ارتبط ظهور هذا النوع من المسرح بظهور القوى اليسارية في أعقاب حقبة المكارثية، حيث بدأ ظهور مجموعة من الفرق بداية من عام 1967. 
وقد التقى العديد من أعضاء هذه الفرق على نحو منتظم متبنين منظورا سياسيا واحدا في العمل، من خلال تقديم عروض احتجاجية. وقد تميز هذا النوع من المسرح بعدة خصائص:
أولها: أن عروضه لا تقدم على خشبة مسرح تقليدي.
ثانيا: عدم وجود الطابع الاحترافي، والمحافظة على كون هذه الفرق «فرق هواة»، تؤمن بفكرة المشاركة.
ثالثا: القناعة الكاملة بالمشاركة في عملية تحضير العروض وتطوير المهارات الضرورية لتقديمه في مستوى فني معقول، وهو ما تطور بعد ذلك في شكل «الورش المسرحية» التي تعنى بالتدريب والتأهيل الحركي والجمع الميداني لتكون فكرة مسرحية.
رابعا: وجود حد أدنى من الاتفاق مع التوجهات السياسية للفرقة (بالنسبة لأعضائها).
وعلى مستوى الطرح الرؤيوي من خلال العروض تكونت خاصية خامسة، وهي أن مسرح الشارع هو مسرح «رد فعل» إزاء اغتراب الممثلين عن الجمهور، في محاولة للتصدي للانحراف السياسي نحو تسيد المجتمع الطبقي، وتهميش الأغلبية.
وقد حاولت تلك الفرق التغلب على الحاجز القائم بين الممثل والجمهور في أن تجعل الممثلين يوجهون أسئلة للمتفرجين تتعلق بالحدث أو بمصير شخصية من شخصيات المسرحية، فعلى سبيل المثال: تسأل الدمية «الزنجي المجند» في مسرحية «الدمى» التي قدمها المسرح الأحمر بسان فرانسيسكو، تسأل «الدمية» جمهور المتفرجين: ما هو الأسلوب الأمثل للتخلص من الوغد «العم سام»، وتتصرف الدمى طبقا لرد فعل الجمهور.
وفي إحدى الحفلات وجد محركو العرائس أن مجموعة من الأطفال من بين المتفرجين استجابوا للصيحة التي تختتم «مسرحية الملك»: (لا ملوك بعد اليوم)، وبمطاردة الملك والملكة في ساحة العرض ثم العودة بهما مقبوضا عليها من جانب «الشعب»(2).
مسرح الشارع –إذن- لا يهتم بالزخرف الشكلي أو بالتراتبات الدرامية، قدر اهتمامه بطرح فكرة المواجهة للقهر والصراع الناتجين عن توغل الرأسمالية، من خلال طريقتين في الأداء فبعض الفرق تنظر للحرب والعنصرية على أنها اعتداءات لا أخلاقية سافرة وحمقاء فتنتهج أسلوبا مباشرا –في عروضها– من خلال اللوم والنواح الأخلاقي.
والفريق الآخر تقوم عروضه على التحليل الاجتماعي «ففي الوقت الذي يصور فيه دراميا بربرية الأشكال المتنوعة للقهر في المجتمع الأمريكي، نجده يحاول أن يطور نوعا من الفهم للأساليب التي تترابط من خلالها هذه الأشكال لتشكل امتدادات منطقية للنظام الرأسمالي وأدوات يمارس وجوده من خلالها»(8).
وقد استلهمت كثير من الفرق المسرحية في العالم مثل هذا الشكل ومنهم فرقة «الكارم» المسرحية بمدينة «أفينيون» الفرنسية، وكان من أهم أعمالها مسرحية «كومونة باريس» للشاعر الفرنسي «أندريه نبيدتيوه»، التي شارك أعضاء الفرقة في صياغتها فنيا، وتدور فكرتها حول مجموعة من الشباب من سكان مدينة «أفينيون» وهي مدينة تاريخية صغيرة تقع على طريق مارسيليا، فيقترحون أن يكون احتفال المدينة بذكرى «كومونة باريس» احتفالا مسرحيا بدون خشبة مسرح، فيخرجون إلى الميدان وفي ساحته التاريخية التي تم فيها «استيلاء جماهير الشارع على السلطة في سنة 1871»، فيتم دعوة أهالي المدينة وهم يحملون عروسة حمراء من الخشب يبلغ طولها ستة أمتار، ثم يجيء بعض العمال يحملون الرايات الحمراء، والآلات الموسيقية، ويبدأ البعض الآخر بتلاوة أشعار حول «الكومونة».
وقامت الفرقة كذلك بتوزيع كراسة على الأهالي يشرحون فيها لماذا يتم الاحتفال بالكومونة. 
وقد جاء في هذه الكراسة على لسان أعضاء الفرقة: «لقد خرجنا إلى الشوارع يومها لنؤكد أنه في حين تلقى الجثة على الأرض تظل الفكرة دائما هناك رافعة رأسها منتظرة التحقق من جديد، فقد كان هؤلاء الذين راحوا ضحية القهر في القرن الماضي ينتظرون ويستحقون أن نمنحهم أكثر من المسيرات الجنائزية، وكنا براياتنا وأغنياتنا واكتشافاتنا نريد أن نؤكد أن الفكرة النبيلة التي وجدت من يجسدها ويستشهد من أجلها مازالت في حاجة إلى تجسيد جديد، وربما إلى شهداء آخرين، ولهذا علينا أن نعيد إلى الشارع القوة التي سرقها منها المسرح، فليصنع كل إنسان إبداعه الخاص متحررا من كل القيود، وليكن هو المبدع والمتلقي معا.
وقد كان خروجنا إلى الشارع مدفوعا برغبة حقيقية في تحطيم كل الحواجز التي تعوق الاتصال مع المدينة والبشر، هازمين كل المصاعب».
وقد جاءت الأغاني المصاحبة للعرض لتكشف ما تفعله الرأسمالية والرأسماليون الجدد، الذين تتضخم ثرواتهم يوما بعد يوم، في حين ترزح الملايين في الفقر، تقول كلمات إحدى الأغنيات:
الذين يملكون كل المناجم
أدوات الإنتاج ورؤوس الأموال
الأراضي الخصبة والمصانع
الشمس والهواء والقصور
الذين يسخرون 
من الشعب الذي يموت حزنا وقهرا.
ورغم أن الأحداث التي تطرحها «المسرحية» هي أحداث تاريخية، فإنها تلقي بظلالها على الواقع الآني، وهنا تكمن إحدى جماليات مسرح الشارع، وهي أنه مسرح بلا غطاء مخترق للحواجز، ومنها بالطبع الحواجز الزمنية.

الهوامش:
هنري ليسنك: مسرح الشارع في أمريكا – ترجمة عبد السلام رضوان – كراسات الفكر المعاصر – الكراسة الثالثة – فبراير 1979 القاهرة ص5.
مرجع سابق ص8.


عيد عبد الحليم