تجليات القضية الفلسطينية في المسرح المصري(2-3)

تجليات القضية الفلسطينية  في المسرح المصري(2-3)

العدد 763 صدر بتاريخ 11أبريل2022

تعد تجربة الكاتب المسرحي محمود دياب من أكثر التجارب المسرحية التي اقتربت من القضية الفلسطينية، فقد استطاع أن يعبر في رائعته « أرض لا تنبت الزهور» عبر تراجيديا بالغة العذوبة والألم عن دراما الصراع العربي ـ الإسرائيلي خاصة ما حدث من تراجع في المواقف أثناء اتفاقية كامب ديفيد التي فتحت الباب ـ على مصراعيه للسلام الزائف وتقديم تنازلات سياسية ـ أو على حد قوله في مسرحيته الشهيرة : 
« الأرض التي رويت بالحقد لا يمكن أن تنبت فيها زهرة حب واحدة». 
وعبر فلسفة وجودية متسعة لآفاق عاش محمود دياب مؤمنا بفكرة الحرية بمعناها المطلق مازجاً في رؤيته بين الآني والماضي الذي يستحضره ليعكس في مراياه عمق المأساة العربية فيحتج ويرفض ويثور من خلال عمق الدلالة وإشعاع الرمز وقوة المجاز وتشابك العلاقات بين الثنائيات المتضادة داخل النص المسرحي.
وصفة الناقد الراحل د. على الراعي بأنه « يحلق في أجواء الفانتازيا ويدوس ـ في يقين ـ أرض الواقع خاصة في مسرحيته الشهيرة « باب الفتوح « التي جاءت كاحتجاج على التاريخ الذي زيفه مؤرخو الملوك والسلاطين باعتبار أن الأحداث التاريخية هي ما يصنعه هؤلاء وأن ما سواهم دهماء لا يصنعون وإنما تصنع بهم الأحداث (1)   
هذا التاريخ ببعده التلفيقي تركه « دياب « جانباً وراح عبر أسئلته الحادة والجارحة، والباحثة عن الحقيقة يؤكد أن البسطاء والمهمشين هم وقود التاريخ وصانعوه بعيداً عن مزايدات وإدعاءات مدمني الولائم الملكية ومتسولي الهبات، متخذاً مثالاً على ذلك من موقعه حطين، متسائلاً عن صانع النصر الحقيقي هل هو صلاح الدين الأيوبي، بعبقريته وجيوشه أم الجنود البسطاء الذين ذادوا عن أهلهم وبيوتهم وأرضهم ضد هجمات الصليبيين ؟ 
لم يكن محمود دياب يترك الحديث ليؤثر فيه بقدر ما كان يصنع حدثه الخاص بأبعاد درامية وشخصيات تقترب من الواقع، يقول في إحدى المقاطع من نص « باب الفتوح « : 
« كيف أكون حراً وأنا جائع ذليل ككلب ضال، محتقر .. لا وقت لدي لكي أحب ولا لكي أستمتع بالنظر إلى القمر، أدس وجهي في صناديق القمامة، أبحث عن كرامتي التي ضاعت ؟» . 
 وهو لا يقصد من ذلك الرصد التاريخي وإنما ـ من خلال إسقاطاته الدلالية ـ يجسد الحاضر في الماضي والجمعي في الفرد، فقد وضع يده على المعادل التاريخي للأزمة المصرية والعربية في الوقت الراهن، ليشير إلى أن الهزيمة ليست وليدة اللحظة التي وقعت فيها ولكنها خرجت من رحم التاريخ القديم لتتجدد كلما غفلنا أو تناسينا، وهذا ما أشار إليه على لسان أسامة بطل المسرحية لصديقه زياد قائلا:
« لقد شاخت أمتنا يازياد .. وترهلت .. وأزمنت فيها الأورام». 
وتردد منه ورائه المجموعة «وما عادت تجدي فيها سبل العلاج الموقوتة». 
وتطل الحرية بأعناقها السامقة كأنها لحظة البعث في جسد الأرض الميتة:
معجزة نصنعها بأنفسنا 
شيء يقلب مصير الأمة رأساً على عقب .. 
شيء لا أعرف ماذا أسميه، ولكني أحسه وكأنما هو بركان يتفجر ويفرع كل ما في جوف الأمة من قيح ومرض . 
ولعل نكسة 1967 قد أثرت في رؤيته الدرامية التي اتسمت بالشجن العميق المغلف بالرفض المبني على وعي تام بخطورة الحدث تجلي ذلك في ثلاثيته المسرحية «ثلاث حكايات لرجل طيب» والتي قسمها إلى ثلاث مسرحيات هي «للرجال رؤوس» و«غرباء لا يشربون القهوة» و«أضبطوا الساعات»، ثم مسرحيته الفذة «رسول من قرية تميرة» عام 1973، والتي وضع لها عنواناً مكملاً هو «للاستفهام عن الحرب والسلام في دلالة واضحة على ما كان يخافه من تساقط الدماء وتقديم التنازلات للعدو الإسرائيلي. 
وقد ظلت هذه الرؤية تغلف كل ما كتب محمود دياب عن واقع الأزمة والقضية الفلسطينية والعربية عبر تقنية درامية ذات بعد نيامي متواصل، فنرى هذا الهم الجماعي بشكل مكثف في معظم أعماله المسرحية، من خلال الإطار الفكري والفلسفي الذي تتبناه ـ وهو في الأساس التزام، ألزم « دياب « نفسه به بالوقوف مع عامة الشعب ـ مدافعاً ومحذراً وناصحاً، وهذا التحذير بشقية « الداخلي ـ والخارجي» وهذا الاهتمام لم يأت كما يظن الكثيرون على حساب البناء الفني للدراما وإنما تناول هذه القضايا من خلال بناء فني متكامل ومتطور ومناسب للقضايا التي يطرحها، فقد استخدم تقنيات فنية بالغة الصعوبة ـ وإن جاءت على يديه سلسة ومتقنة ـ مثل استخدامه لتقنية « البديل الشعبي للكورس والجوقة « خاصة في عمله « أحزان مدنية «، وكذلك استخدامه لفكرة « السامر « خاصة في مسرحيته « ليالي الحصاد «.  
أما سعد الدين وهبة فقد كان مسرحه كاشفاً وراصداً للأحداث، فبعد هزيمة يونيو 1967 تصاعد الخطاب المسرحي لديه ليخرج من إطاره الاجتماعي الذي قدمه في مسرحيات مثل « كفر البطيخ « 1962 و» كوبري الناموس « إلى مرحلة تعبر عن المأساة بداية من مسرحية « بير السلم « والتي نجد فيها صدى للرؤى البريختية في طرق التواصل مع الجمهور، والاقتراب من الحدث، لكن مسرحية « المسامير « والتي كتبت عام 1967 كانت بداية لمسار ملحمي حيث تظهر بظله المسرحية « فاطمة» لتحكي القصة، وهنا يبرز الجانب النضالي، حيث يستلهم المؤلف هذا الجانب من أحداث ثورة 1919، مع إعطاء مساحة للربط بين الأزمة، « فتظهر أرض الواقع التي يرغب سعد وهبة في تثويرها لمجابهة العدوان الصهيوني الذي حدث قبلها بشهور قليلة(2). 
ويرى الناقد الراحل د. محسن مصيلحي أن «وهبة» بدأ في هذه المرحلة يستخدم تقنية جديدة في مسرحه وهي وجود مشاهد «المحاكمات» حيث «تمثل مشاهد المحاكمة فرصة للكاتب لبيان مدى عدل المجتمع واحترام القانون فيه، فهو يقدم صداماً أو صراعاً بين وجهتي نظر مختلفتين، الحاكم والمحكوم، القوى والضعيف، الظالم والمظلوم، وإلى آخره، وفي المحكمة يبرز سؤال العدل واضحاً، وهو سؤال يقود مباشرة للكشف عن الوضع السياسي الراهن في المجتمع» (3) 
وتمثل « سكة السلامة « أول مناسبة يستخدم فيها سعد وهبة تقنية المحاكمة، وفي مسرحيته « سبع سواقي تطل المحاكمة برأسها مرة أخرى وإن بشكل أكثر بريختية وأكثر سياسية لأن قضية الثأر لقتلي 1967م ـ موضوع المسرحية ـ كان هو الشغل الشاغل للمجتمع المصري كله وقت تقديم المسرحية، في هذه المحاكمة ترشح بعض الشخصيات التاريخية الشهيرة نفسها للجلوس في مقعد القضاء مثل «سليمان الحلبي، والورداني، ومصطفى الششتيل، وعدنان المدني» ثم يفوز أحمد عرابي به، ويتم اختيار المؤرخ الجبرتي لتدوين وقائع المحاكمة، وعبد الغفار من شهداء 1948 ـ هو الذي يبلور القضية التي جذبت إليها « أخوانا لنا من الأموات .. في مختلف أنحاء البلاد ومن مراحل تاريخية مختلفة، وكل ذلك طبعاً لفائدة المتفرج « . 
 ونقطة الدفاع الرئيسية التي تقف في صف قتلى 1967 م من الجنود المصريين هي أنه لم تتح لهم فرصة القتال والموت استشهاداً، وربما كان ذلك سبباً رئيسياً في إحساسهم بالغربة، في مرقدهم في سيناء دون أن ينتقم لموتهم أحد . 
 ويبرز صوت عرابي مردداً : 
 «الهزيمة كانت قاسية وقسوتها زي انت ما بتقول دوخت بعض الناس والدوخة بتخلي البعض يهذي بكلام فارغ كتير، إنما لا يمكن تغيير التاريخ .. ولا يمكن يخلينا نتخلى عن مبادئنا « (4)   
بعض الشخصيات في المسرحية يعاد لها الاعتبار من خلال هذه المحاكمة، وإن كان المؤلف قد استخدم أسلوباً مباشراً لتأكيد الخط الدرامي، حيث جمع شخصيات قتلت في سيناء 1967، وشخصيات قتلت أيام الحملات الصليبية، وشخصيات قتلت في التل الكبير يجمعها الدفاع عن الشرف والكرامة والوطن. 
 أما مسرحية « رأس العش « فقد كتبها « وهبة « بعد حرب أكتوبر محتفياً بالانتصار، وتبع ذلك كتابته لمسرحيته « حبيبتي يا مصر « وكلها أعمال كان محور الأحداث فيها الصراع العربي الصهيوني .

نتائج البحث:  
1) تجلت القضية الفلسطينية في المسرح المصري عبر رؤى مختلفة اتسمت بطابع المواجهة، واستلهام التراث في كثير من الأعمال المسرحية .
2) إختلفت رؤية جيل السبعينيات من كتاب المسرح المصري والعربي عن رؤية جيل الستينيات للقضية الفلسطينية من حيث الشكل المسرحي ومن حيث المضمون ـ أيضاً . 
3) اتفق جيل السبعينيات مع جيل الستينيات في توظيف الموروث الشعبي في التعبير عن القضية خاصة في أعمال يسري الجندي والكاتب السوري سعد الله ونوس . 

المراجع
1 - د. محمد عبد المنعم: مسرح الكباريه السياسي ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 2013
2- د. على الراعي: المسرح العربي ـ سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ 1996 
3 - د. محسن مصيلحي: تحولات الخطاب المسرحي المصري ـ المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية 2005
4- يسري الجندي: الأعمال الكاملة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 2011 
5- سعد الدين وهبة: الأعمال الكاملة ـ دار الفجر للنشر والتوزيع ـ القاهرة 1995 .

الهوامش
1-  د. على الراعي ـ المسرح العربي ـ سلسلة عالم المعرفة 1996 .
2-  د. عبد القادر القط “ المسامير .. قراءة نقدية ـ مجلة المسرح ـ كتوبر 1967 .
3- د. محسن مصيلحي ـ جيل بعد جيل .. تحولات الخطاب المسرحي المصري ـ المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية 2005 ص 112 .
4- سعد وهبة ـ مسرحية سبع سواقي ـ الأعمال الكاملة ـ الفجر للنشر والتوزيع 1995 .


عيد عبد الحليم