مشاهدات يوسف وهبي في تونس

مشاهدات يوسف وهبي في تونس

العدد 747 صدر بتاريخ 20ديسمبر2021

نجحت الفرقة المصرية في أول زيارة لها إلى تونس عام 1950، ورغم الهجوم الذي وُجه إلى مديرها «يوسف وهبي» - كما ذكرنا سابقاً – إلا أنه أصرّ على توثيق نجاحه في هذه الرحلة من خلال كتابة المقالات وإلقاء المحاضرات، وكلها تدور حول مشاهداته وذكرياته في بلاد المغرب العربي، وتحديداً في تونس! ولأن ما ذكره يُعدّ تاريخاً فنياً وسياسياً – بالإضافة إلى ما ذكره من معلومات فنية وإدارية - سأنقل أهم ما نشرته الدوريات المصرية – لكتابات وأقوال يوسف وهبي - إفادة للباحثين والمؤرخين مستقبلاً!
نشرت مجلة «الأستوديو» في أواخر مايو 1950، مقالة بعنوان «مشاهداتي وملاحظاتي في شمال أفريقيا» بقلم الأستاذ يوسف وهبي بك»، جاء فيها الآتي: الحديث عن مشاهداتنا في شمال أفريقيا يعود بنا إلى ذكريات سعيدة وأيام جميلة قضيناها في تلك الربوع العربية واستمتعنا بلقاء إخوة لنا من أبناء العروبة. ولن ننسى ما حيينا مظاهر الكرم التي قابلونا بها أينما حللنا وفي كل بلد نزلنا. وقد بدأت الرحلة يوم 9 يناير الماضي بالطائرة إلى مدينة تونس مباشرة. وهناك ثلاث وسائل للوصول إلى تونس: فإما بالباخرة وفي هذه الحالة يجب الذهاب أولاً إلى مرسيليا ومن مرسيليا يأخذ المسافر الباخرة إلى ميناء بنزرت. أو بالسيارة وفي هذه الحال يقطع المسافر على طريق ممهد يبلغ طوله 3000 كيلو متر حتى يصل إلى تلك البلاد. وهذا الطريق كان قد أعده موسوليني بالاتفاق مع حكومة تونس قبل الحرب، وهو طريق لا بأس به اللهم إلا بضع ثغرات وفجوات خلفتها القنابل على الطريق. وإذا أردت أن تستعين بالسيارة فيجب أن تمر بطرابلس وأن تقضي الليل في المحطات التي تصادفها. أما نحن فاختصاراً للوقت استعملنا طرق الانتقال الحديثة ألا وهي الطائرة، ووصلنا في سبع ساعات فقط وبدأنا العمل على مسرح البلدية. ويجب أن أنوه هنا عن الطريقة التي أتبعتها البلدية معنا كي تضمن لنا النفقات وتضمن في الوقت نفسه فائدة الجمهور. فبدل أن تقدم للمتعهد إعانة مالية كما هي الطريقة المتبعة في مصر اتفقت البلدية مع المتعهد على أجر معين لكل حفلة. وقد كان هذا المبلغ هو 700 جنيه في العشر حفلات الأولى ولما بدأنا التمثيل عرفت أن البلدية التي اشترت الحفلات حددت سعر تذكرة الدرجة الأولى بمبلغ 500 فرنك أو ما يوازي خمسين قرشاً مصرياً. وبعملية حسابية أدركت أن المسرح إذا امتلأت مقاعده لا يأتي بإيراد في مجموعه بأكثر من 400 جنيه ومعنى هذا أن البلدية تخسر كل ليلة ثلاثمائة جنيه. وهذه الخسارة هي الإعانة التي تقدمها البلدية للفرقة كي تضمن عدم استغلال المتعهد للجمهور ولا تسمح له برفع الأسعار عن القيمة التي تهيئ للشعب الاستفادة من التمثيليات في كل طبقاته. بينما هنا في مصر وبالطريقة المتبعة في الإعانات يحدد المتعهد السفر على هواه وفي الغالب يكون هذا السعر مرتفعاً إلى حد لا يسمح إلا للطبقة القادرة أن تستمتع بالتمثيل. وعدد سكان تونس الخضراء – وقد أطلقوا عليها اسم الخضراء لأنها أرض زراعية قوية الطينة كل شيء فيها ينبت وكل شيء فيها ينمو – عدد سكانها ثلاثة ملايين عربي مسلم ومائتا ألف فرنسي من أصحاب الأراضي والشركات، وهم الذين نطلق عليهم طبقة المستعمرين، وثمانون ألفا من اليهود، ومائة وعشرون ألفا أخرى من أجناس مختلفة معظمهم إيطاليين وقبرصيين. وقد وصفنا السكان الفرنسيين بالمستعمرين لأنهم في الحقيقة وإنصافاً لفرنسا يجب أن نقرر بأن أصحاب الأراضي والشركات في تلك البلاد هم الذين يقفون في وجه الحكومة الفرنسية إذا ما رغبت في الإصلاح أو أجابت رغبات الشعب. وهذا العدد القليل من المستعمرين يملكون أكثرية الأراضي الجيدة ولهم من القوة بحيث يسيطرون على الحكومة. وكثيراً ما يسيرونها حسب رغباتهم. وتونس العزيزة محكومة من الفرنسيين منذ أكثر من خمسة قرون [أظنه يقصد خمسة عقود]. ونظام الحكم فيها وأكبر شخصية في البلاد نفسها هي شخصية صاحب العظمة «الباي» وهو من سلالة ملوك العرب أصحاب البلاد. ثم الحكومة ومعظمها من الفرنسيين، وفي يدهم الوظائف الكبرى. ويسري على جميع بلدان تونس نظام البلديات ورئيس البلدة عادة هو رئيس البلدية ويسمونه «العمدة» وهو فرنسي. وهذا نظام مقتبس بحذافيره من فرنسا. أما التعليم فينقسم إلى قسمين: تعليم عربي بحت وأشهر معهد في تونس هو جامعة الزيتونة، الذي يخرج كل عام صفوة الشباب المثقف ثقافة عربية. والقسم الثاني هو المدارس الحكومية التي تسير على نظام المدارس الفرنسية التي تكون فيها اللغة العربية في المقام الثاني. واللغة الفرنسية هي الأولى والإجبارية ويجب على كل من يريد الاحتراف من المثقفين سواء كان طبيباً أو مهندساً أو محامياً أن يحصل على شهادة عليا من المعاهد الفرنسية، فالحكومة هناك لا تعترف بشهادات الدول الأخرى. وتونس العاصمة هي مركز الحكومة ومقر صاحب العظمة الباي. وله قصران قصر شتوي يقع في ضاحية جميلة اسمها حمام الأنف. وقصر صيفي مبني في مرسى وهي ملاصقة لقرطاجنة القديمة، وما زالت آثار ملك قرطاجنة القديم هانيبال العظيم الذي اكتسح نصف أوروبا باقية الآن يقصدها السواح من جميع شواطئ البحر الأبيض المتوسط. وصاحب العظمة باي تونس مولاي «الأمين» شخصية محبوبة من كل تونس فقد اشتهر بحبه لشعبه واهتمامه لرفاهيته والدفاع عن مصالحه.
أما جريدة «أبو الهول» فنشرت موضوعاً عنوانه «يوسف وهبي بك يصف مشاهداته في شمال أفريقيا»، وهو خلاصة محاضرة ألقاها يوسف وهبي في «محفل الفنان المصري»، وذكر فيها ما ذكره في مقالته السابقة، مع أمور أخرى لم يذكرها، ومنها قوله: لقد تفضل مولاي باي تونس واستدعانا إلى قصره ومنحنا الأوسمة الجميلة، ولما تقدمت بين يديه شاكراً قائلاً: نحن فخورون بعطفك، أجاب مولاي الباي حفظه الله: بل نحن الذين نفاخر بفنكم!». وامتدح يوسف بك آداب جمهور تونس خلال تمثيل الفرقة وإصغائه للمسرحيات وحسن فهمه لدقائقها، وقال: «إن الشعب التونسي الشقيق يفضل دائماً الروايات التي تهدف إلى إصلاح اجتماعي أو دفاع عن الفضيلة، فهم لا يميلون إلى الكوميديا الرخيصة والتهريج المسف، وإن كانوا يميلون إلى الكوميديا الراقية الأخلاقية التحليلية مثل «بيومي أفندي» مثلاً، التي دوى صيتها في جميع أنحاء شمال أفريقيا. ومن أروع اللمحات التي تسجلها ذاكرتنا، تجارب المشاعر دائماً بيننا على المسرح وبين جمهور تونس، الذي يفهم لغتنا الدارجة ولا يميل إلى التقعر في اللغة. ولا نغفل الحديث عن الحفلة التي أقامها لنا المقيم الفرنسي الذي استدعانا ورحب بقدومنا ثم قدم لنا زملاءنا الفنانين والفنانات من أهل البلد، فحادثناهم وفهمنا من حديثهم أن عندهم نهضة فنية تبشر بالخير، ويا حبذا لو تعاونت مصر مع هؤلاء الفنانين الأفذاذ، لكي تتكون في هذه البلاد الشقيقة فرقة تمثيلية تجمع تلك العناصر القوية بشرط ألا تخضع للروتين الحكومي كما تخضع الفرقة المصرية.
وفي أوائل يونية 1950 نشرت مجلة «الأستوديو» الجزء الثاني من مقالة يوسف وهبي «مشاهداتي وملاحظاتي في شمال أفريقيا»، قال فيها: وانتقلنا من صفاقس إلى ميناء بنزرت وفوجئنا في تلك الليلة بزيارة مشرفة هي زيارة الزعيم العربي والوطني الصميم السيد «حبيب بورقيبة» المجاهد الشهير، وصعد على المسرح وقال: «أنا لا أنسى لمصر كرمها وضيافتها. نحن أمة تعترف لمصر بالزعامة وللفاروق بالأمانة». فكادت الدموع تطفو من الأعين وكادت الأكف تلتهب من التصفيق. أما تونس فكما قلت بلاد زراعية وأهم زراعتها الزيتون الذي يخرج أفخر أنواع الزيوت في العالم. ثم العنب وهناك شركات عديدة تستخرج منه الخمور أو بالأحرى النبيذ. والطريف في الموضوع أن هناك شركة أطلقت على نوع جيد من الخمور اسم شيخ ديني وهو «سيدي إبراهيم». كما أن في تونس أنواعاً مختلفة من المعادن والمياه المعدنية، ولكنها كبلاد صناعية ما زالت في طور الإنشاء فهي تستورد كل حاجياتها من فرنسا. ويجب أن نقرر اهتمام الحكومة التونسية بإنشاء الطرق بين القرى وفوق الجبال بشكل مريح إلى حد يخيل إليك في أي طريق تقطعه بالسيارة أن يد العناية تتناوله بالصقل والتحسين. كما أن القرى مضاءة بالكهرباء ولكن لهذا الشعب مطالب وشكاوى. فإن سجلنا تقدم البلاد في الإنشاء والحضارة. فيجب أن نضع في المكان الأول مطالب إخواننا التونسيين الذين يشكون من أن المناصب العالية لا تعطى لهم وأن الأراضي يسيطر عليها المستعمرون وأن الفلاح يعيش في فقر مدقع ولا يعامل معاملة حسنة وهم أشوق الناس إلى الاستقلال. وهم شعب شديد المراس. وعسى أن تصغى فرنسا التي تجاهر دائماً بصداقة العرب إلى شكواهم فإن في ضمان صداقة هذه البلاد قوة لفرنسا يجب أن تعمل لها حساباً.

بوادر رحلة أخرى
ما ذكره يوسف وهبي من مشاهدات ومعلومات وتصرفات إدارية وفنية في تونس، يدل – بنسبة كبيرة – على نجاح رحلة الفرقة المصرية في زيارتها الأولى إلى تونس! وهذا النجاح شجع الفرقة في التفكير على تكرار الزيارة في العام التالي 1951. وظن الجميع أن الرحلة ستكون ميسرة وسهلة، ولكن بكل أسف قامت الصحف بالتحذير والتنبيه والتخوف من تنفيذ هذه الرحلة بسبب الظروف السياسية!
ففي أوائل مارس 1951 نشرت جريدة «البلاغ» موضوعاً عنوانه «رحلة الفرقة المصرية إلى تونس متوقفة على قرار اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية بشأن قضية مراكش»! قالت فيه: «نشرنا من قبل أن الفرقة المصرية اعتزمت القيام برحلة إلى تونس في شهر إبريل القادم، تستغرق ثلاثة أسابيع، وننشر اليوم أنه على أثر انضمام يوسف بك وهبي إلى هذه الرحلة تغير وضعها، وبعد أن كانت بلدية تونس قد رفضت منح الفرقة إعانة مالية، عادت وسمحت بالإعانة على أن تُقدم لها الفرقة جميع الروايات التي ستمثلها في البلاد التونسية للاطلاع عليها قبل عرضها، خشية أن يكون بينها روايات قد تسبب إثارة الخواطر على حد زعم كبار الموظفين الفرنسيين هناك. وجاءت بعد ذلك الأحداث السياسية في مراكش وتصرفات الفرنسيين هناك، وعلى رأسهم الجنرال جوان المقيم العام حتى شملت الثورة جميع البلاد المراكشية، الأمر الذي دعا الدول العربية إلى عقد اللجنة السياسية للنظر في موقف فرنسا من عظمة سلطان مراكش ومن الشعب المراكشي. وستعقد اللجنة السياسية اجتماعها هذا يوم السبت القادم وعلى القرار الذي ستصدره اللجنة السياسية يتقرر مصير الرحلة. هذا والمعروف أن سفر الفرقة سيكون في الأسبوع الأول من شهر إبريل القادم. وسيسافر معها كذلك الأستاذ الكبير «جورج بك أبيض» لتمثيل بعض الروايات التي اشتهر بتمثيل أهم الأدوار فيها».

مكتب تونس الحرة
إذن الظروف السياسية كانت عقبة أمام قدوم الفرقة إلى تونس! ولسوء الحظ لم تكن هذه العقبة الوحيدة! فالمطلع على التاريخ التونسي يعرف جيداً «مكتب تونس الحرة»، وما كان يجمع بين أعضائه، وما هي أهدافه الوطنية، لا سيما كتابه الشهير «تونس بين الاتجاهات» المطبوع في مصر عام 1953. هذا المكتب الوطني السياسي، أرسل رسالة إلى «يوسف وهبي» نشرتها جريدة «المقطم» في مارس 1951، تحت عنوان «خطاب مفتوح من مكتب تونس الحرة إلى الأستاذ يوسف وهبي»، هذا نصه:
«سيدي .. إنك لا تعرف أشخاصنا ولكن أحسب أنك لم تنس بعد شعبنا .. ذلك الشعب الذي كان .. ولا زال على ما أعتقد يرى فيها قبلة تحقيق آماله ولعلك يا سيدي فهمت ذلك عندما ذهبت إلى تونس على رأس الفرقة المصرية في العام الماضي وتذكر إلى أي حد قمنا بواجبنا نحوكم وأستأذنكم في القول بأن تونس حينما هبت عن بكرة أبيها تحمي الفرقة المصرية وتهتف لها. لم يكن الدافع على هذا الحب وذلك التشجيع حب التونسيين للفن فحسب. بل حبهم لمصر فبلدنا والحمد لله غير محرومة من أمثال فرقتكم بدليل إكرامنا لكل مصري سواء في ذلك الفنان أو الصحفي أو غيرهما. وقد عاد فريد الأطرش وعادت سامية جمال ولم يقل تمجيد التونسيين لمصريتهما عن تمجيدهم لمصريتك. والآن هل تعلم يا سيدي أنك بإمضائك ذلك القرار الذي منع السيدة «حسيبة رشدي» من العمل شرعت في أن تهدم ذلك الصرح من الآمال الذي شئنا أن نبنيه من سنوات .. كيف استغل أعداء النفوذ المصري في تونس قراركم للخوض فيما هو أعمق وأقدس من الفن والفنانين ألا وهو آمالنا الوطنية في مصر. هل اطلعت على ما تنشره صحف تونس من عربية وتونسية عقب إذاعة خبر منعكم ضيفتكم التونسية الوحيدة من العمل كرد على تكريم أهل تونس لكم. سيدي بيدكم أن تصلحوا الموقف .. وثق أن إصلاحه ليس في مصلحة حسيبة رشدي بقدر ما يكون في مصلحة مصر والمصريين .. وأنتم أدرى مني بما يعود على مصر من أرباح مادية وأدبية من تصدير أفلامها إلى شمال أفريقيا».
هذه هي الرسالة، ولعلك عزيزي القارئ تتساءل وتقول: من هي حسيبة رشدي، وما علاقتها بمصر، وبيوسف وهبي، وما سبب منعها، وما علاقتها بالأفلام؟!! وما علاقة هذا كله بالفرقة المصرية وزيارتها، وما هو التهديد الموجه إلى الفرقة من حسيبة رشدي؟؟ وهل الموضوع له علاقة بالسياسة؟ وهل هذا الموضوع له علاقة بمكتب تونس الحرة؟!! هذا كله سنوضحه في المقالة القادمة.


سيد علي إسماعيل