التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (25) بعثة ثانية إلى إنجلترا.. لم تكتمل

التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (25) بعثة ثانية إلى إنجلترا.. لم تكتمل

العدد 675 صدر بتاريخ 3أغسطس2020

في المقالة السابقة، تحدثنا عن العام الدراسي الثاني في عمر معهد التمثيل التابع للفرقة القومية، ومقره كلية الآداب بالجامعة المصرية. وهو العام الذي انتهى باختيار ثلاثة طلاب وطالبة واحدة - من بين جميع الطلاب وعددهم عشرة – للسفر في بعثة لمدة سنتين أو ثلاث سنوات إلى إنجلترا، لدراسة علوم المسرح، حتى يكونوا النواة الأولى لأساتذة المعهد في مصر! وتُعد هذه البعثة الثانية للطلاب الثلاثة «محمد توفيق، وحسن حلمي، ومحمد الغزاوي»، والبعثة الأولى للطالبة «سامية فهمي».
ومن المؤكد عزيزي القارئ أنك تستعد الآن لقراءة سلسلة مقالات عن هذه البعثة، تصل إلى أضعاف المقالات التي قرأتها عن البعثة الأولى؛ لأن البعثة الأولى مدتها ثلاثة أشهر، أما هذه البعثة فمدتها سنتان أو ثلاث سنوات!! عزيزي القارئ.. أرجو ألا تُصدم أو تُصاب بالإحباط؛ فإنك لن تقرأ عن هذه البعثة إلا هذه المقالة فقط!! والسبب راجع إلى أن هذه البعثة لم تكتمل، وعاد أفرادها بعد عدة أشهر فقط بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939!! وبعد أقلّ من شهر من اندلاع الحرب، نشرت جريدة «أبو الهول» خبرا تحت عنوان «بعثة خريجي معهد التمثيل»، قالت فيه: “حينما رأت الفرقة القومية تحرّج الحالة الدولية، أرسلت خطابا إلى أعضاء البعثة تسألهم عما إذا كانوا يفضلون البقاء في لندن لاستكمال الدراسة، أو العودة إلى مصر. وكان أعضاء البعثة يفضلون البقاء لاستكمال دراستهم دون شك، إلا أنهم فوجئوا بإغلاق أبواب أغلب المعاهد الفنية، التي يتلقون فيها دروسهم، وأرسلت إليهم عائلاتهم برقيات تطلب إليهم فيها الإسراع بالعودة، فقرروا العودة على أول باخرة. وكان موعد وصول الباخرة يوم السبت الماضي، إلا أن الاضطراب الدولي جعل الباخرة تتخذ طريقا غير عادي، فوصلت إلى الإسكندرية متأخرة أربعة أيام. أما أعضاء البعثة فهم الأفندية: حسن حلمي، ومحمد توفيق، والآنسة سامية فهمي. وقد قابلوا الأستاذ خليل مطران مدير الفرقة القومية على أثر عودتهم فهنأهم بسلامة الوصول، وألقى عليهم نصائحه وإرشاداته، ثم أبلغهم بأنه بعد أيام سيعين لهم عملهم الفني، الذي يؤدونه نظرا لانتقال شئون الفرقة القومية من وزارة المعارف إلى وزارة الشئون الاجتماعية، وينتظر أن يتقرر ضمهم جميعا إلى الفرقة القومية كممثلين”.
كان الأمر غريبا أن تنشر الصحف أخبارا حول سفر أعضاء البعثة، وبعد عدة أشهر تنشر الصحف نفسها أخبار عودتهم، دون أن تنشر هذه الصحف أية معلومات عن أفراد هذه البعثة أثناء وجودهم في إنجلترا!! وربما ظروف الحرب والاستعداد لها من قبل دول العالم، جعلت الصحف لا تهتم إلا بأخبار الحرب، لا سيما وأن مصر مضطرة لدعم إنجلترا في هذه الحرب!! لذلك لم تجد الصحف مصدر معلومات إلا أعضاء البعثة أنفسهم، فعقدت عدة لقاءات معهم! وكانت مجلة «الزعيم» سباقة في هذا الأمر، فنشرت – في أواخر أكتوبر 1939 - حوارا لها مع «سامية فهمي»؛ بوصفها أول فتاة مصرية وعربية يتم إرسالها في بعثة مسرحية!!
أخبار البعثة
أول سؤال، طرحته المجلة: «ما هي أمانيك في الحياة الفنية بعد عودتك من هذه البعثة؟»، فأجابت قائلة: ليس لي في الحياة الفنية سوى أمنيتين: أولاهما تتعلق بي شخصيا، والثانية تتعلق بالمسرح عامة. أما أمنيتي الشخصية فهي أن أكون ممثلة مسرحية كبيرة على مبدأ وأساس، ولكني أظن أن هذا لن يتحقق تماما إلا بعد أن أتمم دراستي التي بدأتها وقطعت فيها شوطا لا يستهان به، حتى أستطيع مساعدة كل مبتدئ وناشئ في هذا الفن، أو أساعد فن التمثيل عامة، سواء أكان ذلك في جو المسرح المدرسي بتدريب طالبات المدارس اللائي لازلن حتى الآن محجمات عن هذا الفن الجميل، وأما الأمنية الثانية، فأن تكون لدينا الدراسة الموجودة في إنجلترا، لأنها تعد من أهم عوامل رقي المسرح وفي نهضته. وأجابت سامية على السؤال الثاني «كيف كانت معاملة الإنجليز لك هناك؟» قائلة: بالطبع لم تقم الدنيا أو تقعد حين وصلت إلى إنجلترا، لأن هذا ليس بشيء غريب أو غير مألوف عندهم، فهناك المئات بل الألوف مثلي تزدحم بهن جدران معاهد التمثيل المختلفة. كما أنني أصارحك وأقول لك إن الإنجليز لم يتكلفوا في الحفاوة بنا أثناء إقامتنا هناك، وإنما كانوا يعاملوننا كأننا منهم تماما. ولك أن تعرف مقدار حسن هذه المعاملة إذا قلت لك إنهم يحترمون بنات الفن وأبنائه ويقدرونهم حق قدرهم. وبالنسبة للسؤال الثالث: «ما هي الظواهر التي لفتت نظرك في الجو المسرحي هناك»، فأجابت عليه بقولها: ما لفت نظري واسترعى انتباهي هو أن كل نوع من فروع المسرح قائم على أساس الدراسة العميقة والبحث والتمحيص، فالمجهود الذي يُبذل مثلا في أدب المسرح أو في الإخراج أو في التمثيل أو في أي ناحية من نواحي المسرح المعروفة، مجهود جبار يستحق كل إعجاب وتقدير. وهذا يدل على أن الإنجليز لا يهتمون بقشور الفن عديمة الفائدة، وأنهم يضعون كل همهم في لبه، الذي هو كل شيء. والسؤال الرابع والأخير كان «ما هو الفرق بين الممثلة الإنجليزية والممثلة المصرية؟»، فأجابت قائلة: إنك لا شك قد شاهدت بعض الروايات المسرحية، التي تمثلها الفرق الأجنبية، التي تحضر إلى مصر كل عام، أو الأفلام الإنجليزية، ولمست بنفسك الفرق الواضح بين الاثنين. ولكني أقول لك إن الممثلة الإنجليزية تمتاز بسعة اطلاعها ومداركها التثقيفية، فهي تتبع العوامل النفسية، وتدرس أدوارها التي تسند إليها وتفهمها بنفسها أولا دون إرشاد المخرج، وتحللها تحليلا سيكولوجيا حتى تستطيع أن توفق كل التوفيق في تقمص الشخصية المراد تمثيلها. إلا أنني أقول إن الممثلة الإنجليزية على الرغم من هذا كله لا تتفوق بكثير على ممثلتنا المصرية.
كانت مجلة «الصباح» الثانية في نشر حوارها مع أعضاء البعثة العائدين بسبب ظروف الحرب! وكان «حسن حلمي» أول من أجاب على أسئلة المجلة! فقد أجاب على سؤال «ما هي أمانيك بعد هذه الرحلة الفنية؟»، قائلا: إن كل ما أرجوه أن أكون ممثلا في الفرقة القومية، فمهمة الممثل هي أمنيتي الوحيدة في الحياة، وهي الهواية الحقة التي تشبعت بها منذ أن كنت طالبا حتى الآن. والسؤال الثاني كان «هل اشتركت في تمثيل أو إخراج رواية وأنت في إنجلترا؟»، فأجاب: لقد أخرجت رواية من فصل واحد اسمها «الهزيمة»، تأليف الكاتب الإنجليزي المشهور «جون جولزورزي»، كما أخرجت أيضا فصلا من رواية «سيران» لطلبة مدرسة «الأولد فيك» التي كنت أدرس بها. لذلك وقع اختيارهم عليّ هناك في هذا العام لأكون في قسم الإخراج بالمدرسة المذكورة، وقضيت في هذا القسم حوالي شهرين، وقد حضّرت أيضا رواية لشكسبير اسمها «سمبولين» أثناء العطلة الماضية على أن تقدم في مستهل العام، وقدمتها بالفعل فحازت القبول، وكذلك مثلنا في آخر الموسم المدرسي الماضي رواية عامة للجمهور، قمت فيها بدور لا يستهان به، وهذا ما جعلني أكون من الأفراد الذين أثنت عليهم الصحف في كتاباتها عن تلك الحفلة. أما السؤال الثالث «ما هي مشاهداتك وملاحظاتك على الوسط الفني في إنجلترا»، فأجاب عليه بقوله: من الأمور التي لفتت نظري، والتي أثارت اهتمامي وإعجابي تلك التضحية الثمينة التي يدين بها الفنان الإنجليزي الذي يعمل للفن ولا شيء سوى الفن، فهناك مثلا النجم اللامع والممثل الإنجليزي الأشهر «روبرت دونات» الذي لا يقل راتبه في الأسبوع الواحد عن مائة جنيه، ها هو ذا حين استدعاه مسرح «الأولد فيك» ليمثل دور روميو في رواية «روميو وجوليت» المعروفة، قبل أن يقوم بهذا الدور مقابل مبلغ عشرين جنيها فقط كل أسبوع، فتصور مقدار الفرق بين الراتبين! ولأترك لك الموازنة بين «روبرت دونات» وبين أحد ممثلينا الكبار إذا حدث له مثل هذا الظرف. لا يفوتني أن أقول لك إنني لاحظت بكل فرقة فريقا من الممثلين الناشئين لهم مدرسة خاصة ملحقة بالتياترو، ولاحظت أنهم كثيرا ما أتاحوا لهم فرصة الظهور على المسرح في أدوار مهمة أثناء غياب بعض الممثلين أو مرضهم.
أما الطالب «محمد توفيق»، فكان ثاني أفراد البعثة ممن أجابوا على أسئلة مجلة «الصباح»، حيث أجاب على السؤال الأول «ما هي أمانيك بعد هذه الرحلة الفنية؟» بقوله: لقد كنت مختصا في النظرية المسرحية، وكانت كل دراستي منحصرة في أدب المسرح، وتاريخ المسرح. كما أجاب على السؤال الثاني «هل اشتركت في تمثيل أو إخراج رواية في إنجلترا؟» قائلا: لقد كنت أعمل تحت إشراف رجل فرنسي اسمه «ميشيل سان دايسي» مدير جمعية «الخمسة عشر»، وكنا نقوم في كل عام بأداء عرض للجمهور الإنجليزي، يستمر لمدة شهرين يعرض فيه كل نتاج الأستوديو. وآخر رواية اشتركت فيها هي «الكيستيس» لمؤلفها الإغريقي القديم «يوربيديس»؛ حيث كنت أقوم بتمثيل دور «هرقل»، كما مثلت أيضا دور نبيل من النبلاء في رواية «المرأة المثارة». وأجاب محمد توفيق على السؤال الأخير «ما الذي لفت نظرك في الوسط الفني هناك؟»، فأجاب قائلا: إن أظهر ما أستطيع أن أحدثك به هو استمرار عرض الروايات المسرحية هناك لمدة طويلة جدا، وبنجاح واستحسان عجيبين. فهناك مثلا الرواية الفرنسية «بدون دموع»، التي مثلت على مسرح «الأولد فيك» لمدة ثلاث سنوات باستمرار حتى اليوم، وإني أراهنك إذا ذهبت إلى المسرح المذكور في الساعة الثانية ظهرا لتشتري تذكرة، لا تستطيع الحصول عليها قبل الساعة السادسة.
بعد أربع سنوات
وبعد مرور أربع سنوات، طرحت مجلة «الثريا» على أعضاء البعثة سؤالا، قالت فيه: «هل أحسنت الحكومة الاستفادة من تثقيفكم في الخارج؟»، فأجابت «سامية فهمي» قائلة: أفتخر إني كنت أول مصرية، بل المصرية الوحيدة التي حظيت بالسفر إلى الخارج في بعثة فنية، فما كدت أظفر بالفوز في معهد التمثيل حتى قررت لجنة ترقية المسرح إرسالي ضمن بعثة المعهد لدى معاهد لندن المسرحية. وأعترف هنا إني استفدت كثيرا من هذه البعثة، فقد أتيحت لي دراسة التمثيل على أساتذته. على أنني كذلك أعترف إنني لا أستطيع ولا يمكنني أن أصرح بمدى ما استفادته الحكومة مني ومن بعثتي الفنية، أعني من دراستي لفن التمثيل، ولا يسعني إلا أن أترك الحكم على هذا إلى الجمهور الذي لا شك أنه يلمس كل مساء ما أبذله من مجهود وما أقدمه له من فن نتيجة لدراساتي .. غير إني أتساءل: إذا لم أكن أفدت الحكومة وأفيدها، فلماذا لم تستغن عني الفرقة المصرية التي أشتغل بها وهي الفرقة التي تشرف عليها الحكومة؟ هذا سؤال لا يمكنني، وحدي، الإجابة عليه!
أما «حسن حلمي»، فقال: ماذا أقول وقد فاجأني حضرة المحرر بهذا السؤال؟ لكن ما باليد حيلة! آسف إذ أصرح بأن الحكومة لم تستفد من الأموال التي صرفتها على بعثتي بمسرح «الأولد فيك» بلندن بقدر ما أفدت أنا نفسي منها، وذلك لعدم إعطائها لي أية فرصة بالفرقة القومية سابقا، والفرقة المصرية حاليا لا في التمثيل ولا في الإخراج! اللهم إلا أدوار الكمبارس العظيمة التي أسندت إليّ وأصروا على أن أقوم بها وإلا سقطت الرواية .... أما ما أفادني شخصيا فهو عملي بالخارج فقد أخرجت ما ينوف عن عشر روايات ناجحة بشهادة جميع من شاهدوها، وذلك على مسرح السيدة ملك، وكذلك روايات كلية التجارة على مسرح الأوبرا الملكية.
أما «محمد توفيق»، فكانت إجابته صادمة، حيث قال: اختير لي معهد لندن لدراستي الفنية، وأفهموني أن الغرض الذي أرسلت من أجله هو إعدادي لدراسة أدب المسرح وفنونه، والتخصص في طرق تنظيم المعاهد، وخلق جيل من الممثلين والممثلات على قواعد فنية صحيحة. وبعد عودتي من إنجلترا، استدعاني مدير الفرقة القومية وأنعم عليّ بوظيفة «كمبارس» ومرتب شهري قدره سبعة جنيهات. وقد قضيت في الفرقة القومية أربع سنوات، رأيت وسمعت فيها الأعاجيب! فآمنت أن لا فائدة ترجى، فحاولت أن أقترب من هدفي، فكتبت إلى معالي وزير المعارف في ذلك الوقت أسأله إلحاقي بتفتيش التمثيل، فلم أتلق ردا، ولم يعرني أحد اهتماما! والآن وأنا أخدم المسرح المصري على حسابي، وبالطريقة التي اخترتها، أستطيع أن أقول وأن أصرح: إنني استفدت كثيرا من الحكومة؛ ولكنني لم أفدها، ولست ملوما فاللوم تتحمله لجنة ترقية المسرح القديمة، ومدير الفرقة القومية.
بعثة منسية
بعد ستة أشهر تقريبا من وصول أعضاء البعثة من إنجلترا، وتحديدا في مايو 1940، نشرت جريدة «المصري» موضوعا غريبا عن أحد أعضاء البعثة غير الرسميين!! ونشرته تحت عنوان مثير: «يفوق زملاءه الإنجليز في الإخراج المسرحي»! وقالت فيه: كان الممثل الشاب «محمود السّباع» أحد طلبة معهد التمثيل، الذي افتتحته الفرقة القومية منذ ثلاثة أعوام في بناء كلية الآداب بالجامعة، لتُعدّ فيه بعض الفتيات والشبان لبعثة إلى معاهد إنجلترا الفنية. وانتهت مدة التهيئة بامتحان عقد لأفراد هذه البعثة، لم يفز فيه السباع بدرجة من النجاح، تخول له حق مرافقة البعثة المسرحية إلى لندن! ولكن صدق هواية السباع، وحبه للمسرح دفعه إلى السفر في بعثة على نفقته الخاصة، تحت إشراف وزارة المعارف. وتفرقت بعثة الفرقة في معاهد إنجلترا، والتحق السباع بمعهد لندن المسرحي، ولم تكد تُعلن الحرب حتى استدعت الفرقة أعضاء بعثتها إلى العودة، وبقي السباع بين معهد لندن ومسرح «الفينكس»، يتلقى نظريات المسرح في النهار في المعهد ليطبقها عمليا على خشبة تياترو الفينكس ليلا. ثم أعلنت التعبئة العامة في لندن وأغلقت جميع مسارحها الكبيرة، وكان الشاب الطموح في تلك الأثناء يؤدي امتحانه النهائي بإخراج رواية كلفه بها المعهد على مسرح الفينكس، ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن هذا الشاب المصري قد فاق أقرانه الإنجليز وكان تعدادهم 15 طالبا، إذ كلفه أساتذته بإخراج مسرحية كاملة أخرجها في نفس الوقت شاب إنجليزي آخر، وكانت طريقة السباع أدعى لعجب أساتذته ومنحه إجازة التفوق في امتحانه النهائي، هذه الإجازة التي اعترف بها مستر «هاملتون أدواردز» المدير الفني لفرقة «دبلن جيت»، وقبله في فرقته ليقضي بها مدة التمرين العملي!! كانت دبلن جيت تعمل في لندن يوم إعلان التعبئة، فرحلت هذه الفرقة الإيرلندية إلى عاصمة بلادها دبلن، تصحب معها الشاب المصري، وبقي السّباع سنتين يساعد مهندس المناظر ومهندس الضوء ويساعد مدير المسرح والمخرج، ويضع تصميم ملابس المسرحيات، وهكذا لم يدع صغيرة أو كبيرة في حرفية المسرح إلا وتناولها بيده وعينه وقلبه وعقله. حتى إذا انتهت مدة التمرين العملي عهد إليه مستر هاملتون بإخراج رواية «تاجر البندقية» لشكسبير، فتناولها السباع بدراسته النظرية والعملية الطويلة، فوزع أدوارها ووضع بقلمه تصميم مناظرها وملابسها، ودوّن أضواءها، وسجل عليها الحركة المسرحية «ميزانسين» وبالجملة أعدها للمسرح إعدادا كاملا. وما أن قرأها مدير دبلن جيت الفني حتى أكتفى من السباع بهذا العمل، وكتب الرجل تقريرا عن حالة مقدرة السباع قال فيه: “أصبح لهذا الشاب من الاستعداد والموهبة الفنية ما يستطيع به تقديم مسرحية إلى الجمهور. إنني أضمن له الآن تحضير أية مسرحية من إعداد المناظر إلى تصميم الملابس إلى إعداد الضوء إلى توزيع الأدوار إلى إدارة التدريب – البروفات – حتى يقدمها إلى النظارة. ولا يفوتني أن أذكر هنا: إنني لم أحاول إلباسه قميصي الفني، الذي يريد كل مخرج أن يجعله على تلاميذه! بل تركته مطلق الحرية حتى قدم إليّ هذه النتيجة بإخراجه رواية لشكسبير على أحدث الطرق المسرحية، وأعتقد أن الفرصة ستأتيه، عندما يُقدم بلغة بلاده مسرحية، يلبسها ما اكتسبه من علم وفن، وأستطيع أن أضمن له النجاح”. وعاد الأستاذ السباع هذا الأسبوع إلى مصر، فتقدم بشهادات معهد لندن المسرحي، ومسرح الفينكس، ومدير دبلن جيت الفني إلى مدير الفرقة القومية، يريد أن يعمل بهذه الفرقة! ترى هل تقبله مخرجا بها؟ هذا ما نرجو أن يكون!
العضو الغائب
من طرائف هذه البعثة أن أغلب أفرادها عادوا دون استكمال العام الأول! والوحيد الذي ظل هناك أكثر من عامين، وحصل على شهادات تثبت أنه درس جيدا في هذه البعثة، وهو «محمود السباع»، ثم نكتشف أن بعثته لم تكن بعثة رسمية، بل كانت بعثة خاصة وعلى نفقته الخاصة!! وهذه الطرفة، تقابلها طرفة أغرب منها، وهي عدم عودة عضو البعثة الرابع، وهو «محمد الغزاوي»!! فقد عاد كل من «محمد توفيق، وحسن حلمي، وسامية فهمي»، ولم تذكر الصحف شيئا عن الطالب الرابع محمد الغزاوي!! انتبهت مجلة «الزعيم» لهذا، فنشرت كلمة في أبريل 1940، قالت فيها: حينما أُعلنت الحرب، وتحرجت الحالة الدولية، أرسلت الفرقة القومية في استدعاء خريجي معهد التمثيل الذين كانوا يدرسون التمثيل والإخراج في معاهد لندن وعادوا فعلا. ولكن محمد الغزاوي لم يعد من بعثته حتى الآن .. وقد تضاربت الأقاويل عن الأسباب التي منعته من الحضور! فالبعض يقول: إنه تزوج بفتاة إنجليزية، كانت تعمل في صالون حلاقة! والبعض اخترع أسبابا أخرى غير ذلك. وقد اطّلعنا على خطاب وصل من محمد الغزاوي إلى بعض الأخصاء يقول فيه: إنه لم يسافر مبعوثا من الفرقة القومية حتى يلبي نداءها لمن استدعتهم .. إنما هو مبعوث من وزارة المعارف رأسا وكانت مدة بعثته عاما واحدا. ولمَ انتهي العام أرسل إلى وزارة المعارف يطلب امتداد مدة البعثة فوافقت الوزارة على ذلك. وقد جاء في هذه الرسالة أن دراسته مقصورة على التمثيل.
وبعد عام ونصف العام، تابعت مجلة «الصباح» هذا الموضوع، ونشرت خبرا في ديسمبر 1941، تحت عنوان «الغزاوي يحييكم من لندن»، قالت فيه: محمد الغزاوي هو أحد خريجي معهد فن التمثيل وكان قد سافر إلى لندن قبل أن تنشب الحرب لدراسات فنية على حساب وزارة المعارف. وبعد أن نشبت الحرب عادت جميع البعثات إلى القاهرة ما عدا «الغزاوي» فهو فقط الذي آثر أن يبقى في لندن دون أن يعمل أي حساب لدوي المدافع والقنابل. وفوجئنا ونحن في سينما «الكوزمو» بأن قدمت إلينا السينما ترجمة عربية فصحى منها «الغزاوي يحييكم من لندن»! فهل معنى ذلك أن «الغزاوي» يعمل في وظيفة فنية أخرى، أم أنه ما زال في دراساته بلندن على حساب وزارة المعارف؟!

 


سيد علي إسماعيل